تراجع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن موقفه في الانسحاب من اتفاقية الحبوب ومنع السفن التي تحمل الحبوب من أوكرانيا إلى إسطنبول، ومنها إلى العالم، حيث اختار الزعيم الروسي، وبدفع من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، عدم إشعال أزمة غذاء عالمية، كما علقت بذلك الصحف والمجلات الغربية، فكيف حدث هذا؟
لماذا قررت روسيا التراجع عن قرار الانسحاب من صفقة الحبوب؟
تقول صحيفة The Guardian البريطانية، إن روسيا كانت تحضر لانسحابها من الصفقة التي سمحت بتصدير الحبوب من أوكرانيا عبر البحر الأسود منذ أسابيع. وقد هددت بفعل ذلك بعد انفجار هز جسر القرم، في أكتوبر/تشرين الأول، ومرة أخرى بعد هجوم بطائرة بدون طيار على أسطولها في البحر الأسود الأسبوع الماضي.
لكن بمجرد أن علّقت روسيا الصفقة أخيراً، سرعان ما اتضح أنَّ موسكو ليست لديها خطة كما تقول الصحيفة البريطانية. وعندما اتخذ بوتين انعطافة بعد مشاورات مع الزعيم التركي، رجب طيب أردوغان، كانت التنازلات الوحيدة التي زعمها هي "ضمانات مكتوبة" من كييف.
وأعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الأربعاء 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، إعادة فتح ممر شحن الحبوب من الموانئ الأوكرانية، مثلما كان في السابق، وأوضح أردوغان أنه أجرى اتصالاً هاتفياً مع نظيره الروسي وآخر مماثلاً مع نظيره الأوكراني زيلينسكي، من أجل الحفاظ على استمرارية اتفاقية الحبوب.
وكتبت تاتيانا ستانوفايا، رئيسة شركة R.Politik لتحليل السياسات الروسية: "أوقع الكرملين نفسه في مأزق، لا يعرف كيف يمكنه الخروج منه. عُلِّقَت صفقة [الحبوب]، لكن من غير الواضح كيفية إيقاف تصدير الحبوب. هذا مستحيل تحقيقه إلا بالوسائل العسكرية، التي لم تكن جزءاً من خططهم".
"وعود خاصة" قطعت لروسيا؟
بحسب الغارديان، قد تكون هناك وعود خاصة قُطِعَت لروسيا، بما في ذلك ضمانات يمكن أن تساعدها في تصدير سلعها الزراعية. ومع ذلك يُظهِر انسحاب الكرملين إلى حد كبير أنَّ بوتين يمكن أن يتأرجح للاستسلام عندما يواجه المقاومة والتحدي. وقالت ستانوفايا إنه "يعرف كيف يتراجع إذا لزم الأمر"، حسب تعبيرها.
قد يركز القادة الغربيون على ما أقنع الكرملين بالتراجع برغم أنَّ بوتين بدا عازماً على التصعيد كوسيلة لحفظ ماء الوجه في ساحة المعركة.
ففي وجه هجوم مضاد أوكراني، أطلقت روسيا مئات الصواريخ على محطات الطاقة الأوكرانية وغيرها من البنية التحتية الرئيسية في الأسابيع الأخيرة؛ بهدف إغراق المدن الأوكرانية في الظلام والبرد والتهديد بأزمة إنسانية على مشارف الشتاء.
وشعر القادة الغربيون بالقلق من تهديدات روسيا باستخدام جميع الوسائل المتاحة لها، بما في ذلك الأسلحة النووية التكتيكية؛ لتأمين الأراضي التي ضمتها خلافاً للقانون من أوكرانيا.
وقال مسؤولون أوكرانيون إنَّ المنعطف الذي سلكه الكرملين يمثل درساً مهماً للغرب بشأن هزيمة الزعيم الروسي.
كتب ميخايلو بودولياك، مستشار رئاسي أوكراني، أنَّ "المُبتَز الروسي أدنى من أولئك الأقوياء الذين يعرفون كيفية التعبير عن موقفهم بوضوح. إنَّ طريقة تهدئة المعتدي تكمن في إظهار القوة المعقولة"، حسب تعبيره.
"ما هو سر أردوغان؟"
في هذه الحالة ترى الغارديان أن تصرفات روسيا هددت أيضاً بإغضاب القادة في إفريقيا والشرق الأوسط، الذين سعى بوتين إلى كسب تأييد دبلوماسي معهم. وفي إعلان عن تجديد الاتفاق، قال أردوغان، الأربعاء 2 نوفمبر/تشرين الثاني، إنَّ الشحنات المقبلة من السلع الزراعية الأوكرانية كانت متجهة إلى الصومال وجيبوتي والسودان.
ثم هناك أردوغان، المنافس الإقليمي لبوتين، الذي ظهر بصفته فاعلاً قوياً رئيسياً في المفاوضات بشأن الحرب. وقد اضطلع أردوغان أيضاً بدور رائد في تبادل الأسرى، وتحديداً في إطلاق روسيا سراح القادة الأوكرانيين الأساسيين من مصانع الصلب في آزوفستال في ماريوبول. وكانت موسكو قد قالت في السابق إنها تخطط لمحاولة إعدامهم في محكمة عسكرية.
مع ازدياد عزلة روسيا، دبلوماسياً واقتصادياً، ازداد نفوذ تركيا بوضوح. وكتب أندريه سيزوف، رئيس شركة SovEcon لأبحاث الأسواق الزراعية: "أنقرة يمكن أن تكون لها الكلمة الأخيرة هنا، لكنها لم تتوقع أن يكون لها هذا القدر من التأثير على بوتين، أتساءل حقاً ما هو سر أردوغان".
وفي 22 يوليو/تموز الماضي، شهدت إسطنبول توقيع "وثيقة مبادرة الشحن الآمن للحبوب والمواد الغذائية من الموانئ الأوكرانية"، بين تركيا وروسيا وأوكرانيا والأمم المتحدة، وتضمنت الاتفاقية تأمين صادرات الحبوب العالقة في الموانئ الأوكرانية على البحر الأسود (شرق أوروبا) إلى العالم، لمعالجة أزمة نقص الغذاء العالمي التي تهدد بكارثة إنسانية.
وتُظهر بيانات الوزارة الأوكرانية أن الصادرات منذ بداية الموسم الحالي، الذي بدأ في يوليو/تموز 2022 وينتهي في يونيو/حزيران 2023، تضمنت 5.1 مليون طن من القمح و7.1 مليون طن من الذرة و1.1 مليون طن من الشعير.
فيما تقول الحكومة إن أوكرانيا يمكن أن تحصد ما بين 50 و52 مليون طن من الحبوب هذا العام، انخفاضاً من 86 مليوناً في 2021 بسبب سيطرة القوات الروسية على أجزاء من الأراضي وتراجع إنتاجية المحاصيل.
استياء في الداخل الروسي
وفي روسيا، أثارت اتفاقية الحبوب غضباً بين مؤيدي الحرب، الذين رفضوا "الضمانات المكتوبة"، وفي بعض الحالات اتهموا الحكومة الروسية ببيع جنودها.
كتب مديرو أحد الحسابات الشهيرة على تطبيق تليغرام، التي تحشد الأموال والمعدات للجيش الروسي، بحسب ما نقلت الغارديان: "إنهم لا يبالون بهذه الحرب! ما يهم هو المال، هكذا يفكر السياسيون، أما جنودنا الذين كادوا يموتون في الخليج في سيفاستوبول فهم لا يبالون بهم".
وبدورهم، كان المدونون والصحفيون المؤيدون للكرملين يسخرون من الصفقة. كتب ألكسندر كوتس، مراسل لصحيفة Komsomolskaya Pravda الموالية للكرملين: "البطاقة الحادة (كناية عن الغشاشين في لعبة الورق) أعطت ضمانات مكتوبة بعدم استخدام البطاقات المميزة (في إشارة إلى اللاعب الذي يحاول تغيير بطاقات اللعب في محاولة للتفوق على الخصم)".
وكتب حساب آخر باسم Colonel Cassad، الذي يضم أكثر من 800 ألف مشترك: "فيما يتعلق بالثقة في هذه الضمانات الأوكرانية… يبدو أنَّ 8 سنوات من التدنيس لاتفاقيات مينسك أو صيغة شتاينماير لم تكن كافية".