أدى خفض الجنيه المصري الأخير إلى ترك ملايين المواطنين الفقراء في حيرةٍ من أمرهم، إذ يتساءلون عن كيفية سد رمقهم بالتزامن مع استمرار ارتفاع أسعار السلع الأساسي.
وألقى تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني الضوء على تأثير خفض الجنيه المصري على سكان جزيرة الوراق شبه المحاصرة من السلطات، في وقت تستعد فيه مصر حالياً لاستضافة مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ (كوب 27) في شرم الشيخ يوم الأحد، السادس من نوفمبر/تشرين الثاني، وتنفق مئات الملايين من الدولارات على التجهيزات اللوجستية.
يعمل محمد بلال (41 عاماً) موظفاً في السكك الحديدية ويقطن في منزلٍ فقير بجزيرة الوراق في الجيزة، ويتساءل: كيف سيكفي راتبه تغطية نفقات أسرته حتى نهاية العام؟
إذ قال بلال، الذي يتقاضى 2,500 جنيه شهرياً (103 دولارات بعد خفض الجنيه)، لموقع Middle East Eye البريطاني: "الوضع صعب.. كيف يمكنني أن أُطعم طفلين، وأمهما، ونفسي بهذا الراتب؟". ويعمل بلال في وظيفةٍ ثانية كمزارع خلال عطلات نهاية الأسبوع، من أجل توفير دخلٍ إضافي. كما يفكر في إخراج طفليه من المدرسة وضمهما إلى سوق العمل.
وأضاف: "عندما أعود من العمل في المساء، أجد رجالاً ونساءً وأطفالاً يبحثون عن الطعام قرب مكبات القمامة. لكنني توقفت عن الحكم على الناس، لأنني قد أفعل الأمر نفسه في النهاية. وبدأت أطلب من زوجتي أن ترمي الطعام المتبقي داخل علبٍ مغلقة، تحسباً لأن يرغب أي شخصٍ في تناوله".
يعيش في غرفة غير قانونية بعدما هدمت الحكومة منزله الأصلي
ويعيش بلال في غرفةٍ ضيقة مبنية بصورةٍ غير قانونية بعد أن هدمت الحكومة منزله الأصلي في 2017، وذلك خلال مداهمات الشرطة التي تزعم ضرورة إزالة المنازل المبنية على الجزيرة.
حيث وضع الرئيس عبد الفتاح السيسي أعينه على جزيرة الوراق الزراعية، الواقعة في قلب النيل بين القاهرة والجيزة، لأنه يعتبرها بؤرة تغيير يجب أن تتحول إلى مجتمع مُسوّر "عصري" ووجهة ناطحات سحاب لأثرياء مصر.
بينما قال بلال اليائس والأصدقاء يحاولون تهدئته: "بين عدم حصولي على تعويض من الحكومة طيلة خمس سنوات من ناحية، وأجري المنخفض من ناحيةٍ أخرى، لم يعد أمامي سوى أن أصبح محتالاً".
ارتفاع في أسعار السلع الأساسية
بعيداً عن محنة وقلق من اضطروا للنزوح من منازلهم، طحنت السياسات النقدية التي تطبقها الحكومة منذ عام 2016 سكان الوراق وملايين المصريين الآخرين، حسب وصف الموقع البريطاني.
حيث خفضت الحكومة المصرية قيمة الجنيه بنسبة 15% إضافية في الأسبوع الماضي، قبل الحصول على قرضٍ جديد من صندوق النقد الدولي.
ويمثل القرض الأخير ثالث مرة تلجأ فيها مصر إلى صندوق النقد الدولي في السنوات الست الماضية.
وتأتي قروض صندوق النقد الدولي مع تدابير تقشف قاسية عادةً؛ حيث أدت لارتفاع أسعار الكهرباء والسلع الأساسية والغذاء (ولكن مصر لم ترفع أسعار الكهرباء والوقود هذه المرة)؛ مما زاد شقاء عشرات الملايين في بلدٍ يعتمد نحو 70% من سكانه على حصص الغذاء المدعم (التموين).
وارتفعت أسعار السلع الغذائية نتيجة خفض الجنيه أيضاً، وتراوح الارتفاع بين 5% و7% في منتجات الألبان والجبن التي تعتمد على الألبان والزيوت النباتية المستوردة. ومن المرجح أن ترتفع هذه النسب المئوية مع الارتفاع المتوقع في أسعار جميع السلع الأساسية، مثل اللحوم، والأسماك، والدواجن، والبيض، والأرز، والعدس، والفول، والحبوب، والسكر، والقهوة، والشاي.
تواصل الموقع البريطاني هاتفياً مع سميرة، ربة المنزل والممرضة من جزيرة الوراق، التي تعاني من مشكلات مماثلة؛ إذ لم يسبق لها أن حملت دولاراً أو رأته من قبل، لكن حياتها أصبحت شديدة التأثر بالعملة العالمية.
وقالت: "مع استمرار ارتفاع الأسعار، ينخفض الدعم الحكومي". وأضافت أن جميع أفراد عائلتها جرى حذفهم من بطاقة التموين، بينما ترتفع رسوم الدراسة وتكاليف المواصلات.
السفينة التي تربط الجزيرة ببقية القاهرة تستخدم كإجراء عقابي
وتضطر سميرة لركوب أربع وسائل مواصلات عامة مختلفة حتى تصل إلى مكان عملها، بالإضافة إلى العبارة التي تربط الجزيرة بضفة النيل الأخرى.
وأوضحت: "تريد الحكومة طرد من تبقى من سكان الجزيرة، ولهذا يُغلقون العبارة أحياناً أو يحددون ساعات عملها كإجراءٍ عقابي".
وأردفت أن المدارس والمستشفيات الحكومية في الجزيرة تتعرض للهدم، مع تخصيص أراضيها لخطط تنمية الحكومة. وقالت: "يحاولون خنقنا وحرماننا من الخدمات الأساسية، مما يؤدي لرفع تكاليف الغذاء والتنقلات على الجزيرة بالتبعية".
والسكان الذين حموا منازلهم جرى احتجازهم بدعوى الإرهاب
يعمل ساكن آخر لجزيرة الوراق يُدعى إسماعيل كسائق توك توك نهاراً، وصانع شطائر ليلاً. وقال إسماعيل للموقع البريطاني إنه عقد خطبته منذ سبع سنوات، لكنه لا يستطيع تحمل تكلفة إيجار غرفة مفروشة في أي مكان داخل القاهرة. وأوضح: "أعمل أنا وخطيبتي، لكن ارتفاع الأسعار أكبر من مدخراتنا، كما أن هذه المدخرات ليست محصنةً ضد الطوارئ الطبية والأزمات".
وأُلقِيَ القبض على شقيق إسماعيل في مداهمةٍ شرطية مطلع العام الجاري، أثناء محاولته وبقية السكان أن يحموا منازلهم من الهدم. وجرى القبض عليه مع عددٍ من السكان الذين لا يزالون محتجزين بتهم الإرهاب، مما كلّف عائلة إسماعيل نصف مدخراتها تقريباً لتوكيل محامٍ ودفع الرشاوى.
واشتكى إسماعيل من عجزه عن عيش حياةٍ طبيعية وهو يعمل في وظيفتين، وقال: "يهددونا الآن بالطرد من أرضنا التي نمتلكها منذ الثمانينيات، ولا نستطيع العيش كبشرٍ طبيعيين".
ويخطط إسماعيل مع آخرين للمشاركة في احتجاجات 11 نوفمبر/تشرين الثاني، التي جرت الدعوة لها بالتزامن مع مؤتمر المناخ، من أجل التعبير عن غضبهم وخيبة أملهم بسبب السياسات الاقتصادية لحكومة السيسي.
البعض توقف عن أكل الفول بعد خفض الجنيه
أما عامل البناء أبو بكر (34 عاماً)، الذي يقطن في الوراق أيضاً، فهو واحدٌ من الآلاف الذين يساعدون في بناء العاصمة الإدارية الجديدة التي تُعد أهم مشروعات السيسي الضخمة.
ولا يحصل أبو بكر والآلاف من زملائه على تأمين صحي، ويعملون دون عقودٍ بناءً على طلب شركات المقاولات. وقال أبو بكر للموقع البريطاني إنه سيتوقف عن تناول الفطور على عربة الفول القريبة من موقع البناء الذي يعمل فيه، لأن الوجبة ستكلفه في اليوم 20 جنيهاً (83 سنتاً). وسيكتفي بدلاً من ذلك بتناول الخبز الجاف والجبن القديم، الذي يجري تخزينه في منزله، توفيراً للمال.
كما جرى تشخيص نجله بالسرطان، مما يتطلب أدويةً مستوردة يرتفع سعرها كل شهرين بسبب القيود التي فرضتها الحكومة على الاستيراد.
وروى أبو بكر للموقع البريطاني قصة زميلٍ له عجز عن توفير احتياجات أسرته، فقرر الانتحار بإلقاء نفسه تحت عربة مترو الأنفاق.
وبدأ إيذاء النفس ينتشر كوسيلةٍ للاحتجاج على الظروف الاقتصادية الصعبة في مصر خلال السنوات الأخيرة؛ إذ تنقل وسائل الإعلام المصرية كل شهرٍ تقريباً أنباء عن أشخاص ينتحرون بسبب الصعوبات الاقتصادية.
بينما تعمل أم فاروق، الأم العزباء لثلاث بنات، كعاملة نظافة في الخمسينات من عمرها. وتشعر بالقلق حيال قدرتها على تلبية الاحتياجات الأساسية لأسرتها، لأن دخلها ليس كافياً.
وتشتري أم فاروق عظام وبقايا الدجاج حالياً من أجل إعداد الحساء. وتقول: "أصبحت منتجات اللحوم والخضراوات باهظة الثمن. وليس أمامنا سوى الفول والأرز، وحساء عظام الدجاج".