يبدو أن معارضة الاتحاد الأوروبي لنظام بشار الأسد في سوريا بدأت في التراجع، رغم استمرار محنة الشعب السوري في الداخل والخارج، وتمسك النظام بأساليبه الوحشية، فماذا يحدث في الكواليس؟
نشرت مجلة Foreign Policy الأمريكية تقريراً عنوانه "هل بدأ الاتحاد الأوروبي في التذبذب بشأن تجميد الأسد"، نقل عن 4 مسؤولين غربيين كبار كواليس ما تشهده أروقة الاتحاد، والجدل المستعر بين أعضائه بشأن كيفية ما يمكن وصفه بالتطبيع مع النظام السوري لأسباب، أبرزها ملف الهجرة.
فإلى جانب الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، يظل الاتحاد الأوروبي مرتبطاً مؤسسياً بالموقف الدولي الراسخ بشأن سوريا، مسترشداً بالقرار 2254، والحاجة إلى تسوية سياسية شاملة.
كما يحتفظ الاتحاد الأوروبي بمجموعة واسعة من أكثر من 350 عقوبة ضد النظام السوري والكيانات المرتبطة به، ويواصل معارضة ومنع أي أنشطة متعلقة بالمساعدات في سوريا من شأنها أن تفيد الأسد، بما في ذلك أي شكل من أشكال إعادة الإعمار.
ماذا تغيّر في موقف نظام الأسد؟
بعد أكثر من 11 عاماً، لا تزال الأزمة السورية مستمرة. لا يزال الصراع العسكري النشط، والأعمال العدائية الجيوسياسية، والعنف المرتبط بالإرهاب، والجريمة المنظمة تحدث يومياً في جميع أنحاء البلاد، في حين أن مستويات المعاناة الإنسانية في جميع أنحاء سوريا اليوم أسوأ مما كانت عليه في أي وقت مضى.
ورغم أن حجم العنف في سوريا قد يكون أقل بكثير مما كان عليه في السنوات الماضية، فإنه لا يزال ما يقرب من 7 ملايين سوري نازحين داخل البلاد، و7 ملايين آخرين من اللاجئين في الخارج. تشير استطلاعات الرأي الأخيرة للاجئين السوريين إلى حقيقة واحدة بسيطة: لا يوجد عملياً أي مصلحة في التفكير في العودة إلى سوريا التي يسيطر عليها نظام بشار الأسد.
وضمن هذا السياق، واصل المجتمع الدولي تأطير مقاربته لسياسة سوريا حول قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، الذي يدعو إلى وقف إطلاق النار على مستوى البلاد، تليها تسوية سياسية شاملة تنطوي على انتخابات حرة ونزيهة، وتجري بقيادة سورية من أجل الانتقال السياسي.
هذه السياسة تعكس اعترافاً بسيطاً بأنه من بين دوافع العنف وعدم الاستقرار والمعاناة في سوريا، يبقى السبب الجذري الأساسي هو نظام الأسد، وما دام في مكانه، جنباً إلى جنب مع وحشيته وفساده، فسيظل نظام الأسد، وكذلك الأزمة وأعراضها الكثيرة المقلقة.
السياسة هي أيضاً مسألة أخلاقية أساسية، فمنذ عام 2011، نفذ النظام مجموعة غير عادية من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية لدرجة أن بعض المدعين الدوليين الأكثر خبرة في العالم أعلنوا أن الأدلة ضد الأسد هي الأشمل منذ شهد العالم المحاكمات النازية في نورمبيرغ.
كان نظام بشار الأسد قد استخدم أسلحة كيماوية في أغسطس/آب 2013، حين تم استهداف الغوطة ومناطق أخرى قرب العاصمة السورية دمشق بصواريخ تحمل غازات سامة، أودت بحياة مئات السوريين المدنيين وهزت العالم وقتها، إذ نُشرت مئات الصور ومقاطع الفيديو تظهر آثار المجزرة.
ووسط إنكار النظام السوري لوقوع هجمات كيماوية، ثم إلقاء اللوم على المعارضة ونشر تقارير استخباراتية غربية وأمريكية تؤكد أن قوات النظام هي التي ارتكبت تلك المجزرة، وفشلت الجهود الدولية في إصدار قرارات أممية بشأن تلك الجريمة التي تعتبر جريمة حرب وإبادة جماعية، وذلك بسبب الفيتو الروسي والصيني الداعم لنظام الأسد.
لكن تحقيقات جنائية في فرنسا وألمانيا وصدور أحكام بحق ضباط سابقين في النظام السوري تمثل تعقيداً للأمور بشأن مستقبل الأسد، الذي خرج منتصراً بدرجة كبيرة في الحرب السورية، لكن بوضع منبوذ ونظام ممنوعة عنه المساعدات الدولية التي لا غنى عنها لإعادة إعمار البلاد.
ففي حال وُجهت إلى الأسد والقيادات في دائرته المقربة اتهامات في جرائم حرب أمام المحاكم الأوروبية، حتى وإن كانوا يعتبرون مثل هذه الإجراءات غير شرعية، فإن ذلك سيجعل الحصول على مساعدات أمراً أصعب بكثير، كما أنها ستجعل عودة ملايين السوريين الذين فرّوا إلى أوروبا وأماكن أخرى إلى ديارهم أمراً مستبعداً.
نظام الأسد يرفض التراجع
لكن في دمشق، لا تزال حكومة الأسد غير منزعجة. على مدار عقد من الزمان، يرفض النظام السوري الانخراط بشكل هادف في جولة واحدة من المفاوضات، في حين أنه انتهك كل وقف لإطلاق النار كان طرفاً فيه. بقدر ما يتعلق الأمر بالأسد، فقد انتصر هو ونظامه في المعركة العسكرية الكبرى، وهم الآن منخرطون في صراع استنزاف، في انتظار استسلام خصومهم السوريين والأجانب.
في غضون ذلك، بينما يجد 97% من السوريين أنفسهم يعيشون تحت خط الفقر، فإن عائلة الأسد وشبكة من النخب التجارية وأمراء الحرب وداعميهم الخارجيين يثرون أنفسهم بشكل لم يسبق له مثيل، ويديرون إمبراطورية مخدرات بقيمة 30 مليار دولار تصل إلى آسيا وإفريقيا وجنوب أوروبا وعبر الشرق الأوسط.
عندما واجهوا الحقائق المقلقة في سوريا، ولامبالاة النظام التام تجاه أي اعتبار للتسوية، ترك البعض في المجتمع الدولي أخلاقهم جانباً وأعادوا الانخراط مع نظام الأسد.
في السنوات الأخيرة، اقتصر الكثير من هذا السلوك البغيض على العديد من الحكومات في الشرق الأوسط، مدفوعاً بالإحباط المرهق من الجمود في السياسة السورية، وأيضاً بسبب الجغرافيا السياسية والطموح المالي، بالإضافة إلى بعض القيم الأيديولوجية المشتركة.
ويعود الفضل في جزء كبير من ذلك إلى القوة الرادعة لقانون قيصر (وهو قانون يطلب من الحكومة الأمريكية معاقبة أي كيان يتعامل مالياً مع النظام السوري). وكان لأعمال التطبيع الإقليمية هذه تأثير ضئيل نسبياً. وما دامت المملكة السعودية ومصر وقطر تعارض بشدة إعادة الانخراط الإقليمي، فمن غير المرجح أن تحدث انفراجة فعلية في هذا الإطار على المدى القصير على الأقل.
ومع ذلك، هناك اتجاه آخر مثير للقلق بنفس القدر، ولكن يحتمل أن يكون أكثر أهمية، نحو إعادة الانخراط الذي يتطور خلف الكواليس في أوروبا.
فرغم الموقف الرسمي للاتحاد الأوروبي، بدأت بعض التصدعات في الظهور بين الدول الأعضاء فيه. ورغم وجود اختلافات طفيفة في المنظور داخل الاتحاد الأوروبي لبعض الوقت، فقد تحولت إلى خلافات جادة وموضوعية في الأشهر الأخيرة، وفقاً لأربعة مسؤولين غربيين كبار تحدثت إليهم مجلة Foreign Policy الأمريكية في أكتوبر/تشرين الأول شريطة عدم الكشف عن هويتهم لمناقشة المسائل الدبلوماسية الحساسة.
لماذا تغيّر موقف الاتحاد الأوروبي؟
ووفقاً لمصادر متعددة رفيعة المستوى، استخدمت الحكومات، بما في ذلك اليونان وقبرص وإيطاليا والمجر والنمسا وبولندا، مواقعها داخل الاتحاد الأوروبي للضغط على عدد من خطوط السياسة والدعوات لتغيير السياسات التي تتماشى بشكل مباشر مع مصالح نظام الأسد.
وخارج غرف الاتحاد الأوروبي، قامت بعض هذه الحكومات أيضاً بتشكيل مجموعات مختارة من الخبراء لتبادل الأفكار حول طرق مبتكرة لتجاوز لوائح الاتحاد الأوروبي والعقوبات التقييدية من أجل "فعل المزيد" في سوريا.
يبدو أن الحافز لهذا التحول الأخير كان ارتفاعاً ملحوظاً هذا الصيف في سفن المهاجرين، التي تغادر من لبنان وسوريا وتركيا باتجاه اليونان ومالطا وقبرص وإيطاليا.
وفي حين أن الخوف العام من اللاجئين، فضلاً عن السياسات القومية الشعبوية، قد يكون الدافع وراء زيادة الدعوات لتليين موقف أوروبا بشأن سوريا، فإن التبريرات التي يُعبَّر عنها شفهياً تتماشى في الغالب مع التأكيدات، بأن الأسد قد انتصر، وأن نظامه هو الوحيد القادر على تحقيق الاستقرار في البلاد.
ومع تزايد أعداد اللاجئين السوريين، جنباً إلى جنب مع المهاجرين اللبنانيين، بدأوا بالفرار نحو جنوب أوروبا هذا العام، بدأت هذه الدول الأوروبية في المجادلة لصالح الاتحاد الأوروبي لتوسيع تعريفه لـ"التعافي المبكر" للابتعاد عن أعمال التنمية المحدودة والمحلية التي تُنفَّذ داخل وضع إنساني وفتح الباب للأنشطة الممولة من المانحين، والتي من شأنها أن ترقى إلى إعادة الإعمار الفعلي، وفقاً للعديد من المسؤولين الأوروبيين.
وقدّم مسؤولو جنوب ووسط أوروبا شكاوى متكررة حول استخدام الاتحاد الأوروبي القياسي لشرطية "آمنة وطوعية وكريمة"، عندما يتعلق الأمر بعودة اللاجئين، بحجة أنها تعيق عمليات العودة وتغذي الهجرة.
في الواقع، رغم ذلك، فإن تقييد عودة اللاجئين إلى أولئك الذين هم "آمنون وطوعيون وكريمون"، يهدف إلى منع العودة القسرية وغير القانونية للاجئين ضد إرادتهم ومصير مجهول ومميت على الأرجح.
في مناسبات متكررة هذا العام، أصدرت العديد من الدول الأعضاء أيضاً شكاوى خاصة بشأن إشارة قادة الاتحاد الأوروبي المستمرة لجرائم نظام الأسد في بيانات عامة بشأن سوريا. ومن وجهة نظرهم، فإن الإشارة إلى وصف هذه الجرائم علناً لم يكن ضرورياً وعائقاً أمام أولئك الحريصين على استكشاف تحسين العلاقات مع دمشق، بحسب فورين بوليسي نقلاً عن المصادر الأوروبية التي لم تسمِّها.
منذ عام 2020، أعادت العديد من الحكومات المعنية إقامة شكل من أشكال العلاقات الدبلوماسية مع دمشق، بما في ذلك بلغاريا، والمجر، واليونان، التي أرسلت قائماً بالأعمال إلى دمشق عام 2020، وقبرص، التي انتقلت إلى سفارة جديدة في منتصف عام 2021.
ويُقال إن إيطاليا استضافت رئيس مخابرات الأسد، علي مملوك، في أوائل عام 2018، وزار نائب وزير الخارجية البولندي دمشق في أغسطس/آب 2018، ويُزعَم أن القادة في النمسا يفكرون الآن في شكل من أشكال الاتصال الدبلوماسي أيضاً. حتى الدنمارك أعلنت في أبريل/نيسان 2021 أن المناطق التي يسيطر عليها النظام في سوريا آمنة لعودة اللاجئين إليها.
إن تكثيف المعارضة الداخلية يهدد بتفكيك سياسة الاتحاد الأوروبي بشأن سوريا بالكامل، لأنها تعتمد على إجماع رسمي. في أحسن الأحوال، سيؤدي ذلك إلى تآكل تدريجي لسياسة الاتحاد الأوروبي، حيث تنفصل الدول وتنخرط في أشكال مختلفة من إعادة الارتباط بشكل فردي. مهما كان الأمر، فإن عواقب انهيار السياسة الأوروبية تجاه سوريا تهدد باقتلاع الموقف الدولي بأكمله، وتشجيع مزيد من الخطوات الإقليمية نحو إعادة الانخراط، وعزل أولئك الذين يظلون ملتزمين بعدم المشاركة.