في الوقت الذي تسعى فيه مصر للبحث عن مخرج من أزمتها الاقتصادية الخانقة، تسعى الإمارات بشكل خاص لتوجيه استثماراتها نحو منطقة بعينها، وهي قناة السويس، فماذا تريد أبوظبي تحقيقه من هذا التوجه؟
إذ إن أزمة الديون المتفاقمة والأوضاع الاقتصادية الخطيرة، التي تنعكس على الارتفاع الجنوني لأسعار السلع الأساسية، تضع الحكومة المصرية في مأزق حاد، فالتوصل إلى حلول سريعة لإنعاش الخزانة العامة بأموال مطلوبة على وجه السرعة أصبح أولوية قصوى.
الأموال المطلوبة هنا تمثل عجزاً لا بدَّ من سداده، سواء لخدمة الدين الخارجي أو لسد الفجوة في الميزان التجاري، وكلاهما يحتاج للعملة الأمريكية الدولار، وهذه في حد ذاتها معضلة أخرى. وأحد الاتجاهات التي تكثف فيها القاهرة خطواتها هي بيع الأصول المملوكة للدولة، سواء القطاع العام أو الجيش، وهنا يأتي دور الدول الخليجية الساعية إلى الاستثمار في تلك الأصول المصرية.
مصر تسعى لبيع الأصول بأقصى سرعة
لا شك أن الإمارات لها استثمارات ضخمة في مصر، وهذا الأمر ليس وليد الأزمة الحالية وإنما يرجع إلى عقود طويلة مضت، فالعلاقات بين القاهرة وأبوظبي ممتدة وقوية، لكن منحنى تلك العلاقات أصبح غير ثابت خلال العقد الماضي تحديداً.
ومنذ وصول الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى حكم مصر عام 2014، كانت الإمارات من أكثر الدول الخليجية الداعمة له، حيث قدمت المليارات في صورة مساعدات في بداية الأمر، لكن مع مرور الوقت توقفت "الهبات" وبدأت الاستثمارات، وبصفة خاصة منذ تفاقم أوضاع الاقتصاد المصري خلال السنوات الثلاث الماضية، بتأثير جائحة كورونا، ثم الحرب الروسية في أوكرانيا، وما بينهما من خيارات اقتصادية جدلية كالتوسع في مشاريع البنية التحتية من طرق وكباري وتشييد المدن الجديدة، وبخاصة العاصمة الإدارية، مما أدى لالتهام تلك المشاريع مئات المليارات من الدولارات دون أن تحقق عوائد.
ومنذ سنوات، قررت القاهرة عرض الشركات المملوكة للدولة للبيع سعياً لجذب الاستثمارات بالعملة الصعبة، لكن ذلك المسار يتحرك ببطء شديد بسبب عوامل متداخلة، أبرزها البيروقراطية وعدم وجود المناخ المشجع على الاستثمار. لكن مع تفاقم الأزمة بشكل حاد خلال العام الجاري، اتخذت مسار بيع الأصول منحنى صعودي كبير، وأصبحت جميع الشركات، المملوكة للحكومة أو للجيش، معروضة للمستثمرين لاختيار ما يشاؤون منها.
وبالفعل سعت صناديق الثروة السيادية في الإمارات والسعودية إلى الاستحواذ على نسب أو الشراء الكامل من الشركات المصرية، وبخاصة في مجالات الأسمدة والطاقة والقطاع الصحي والمصرفي والمعلوماتي. ومؤخراً استحوذت شركة مواساة السعودية للخدمات الطبية على مستشفى المراسم الدولية بنسبة 100%، وهي منشأة طبية رئيسية تقع في ضواحي العاصمة المصرية.
ومطلع أغسطس/آب الماضي، استحوذت شركة الاستثمار السعودي المصري، ذراع صندوق الثروة السعودي في القاهرة، على حصة الحكومة المصرية في شركة "موبكو" لإنتاج الأسمدة، ومقرها ميناء دمياط شمال البلاد، كما اشترت نفس الشركة السعودية حصص أقلية في شركة أبوقير للأسمدة والصناعات الكيماوية وشركة حاويات الإسكندرية للشحن، إضافة إلى حصة أسهم في شركة إي-فاينانس للاستثمارات المالية والرقمية. وبلغ إجمالي قيمة تلك الاستثمارات السعودية في الشركات المصرية الأربع 1.3 مليار دولار.
لماذا القلق المصري من الاستثمار الإماراتي؟
استحوذت الإمارات على شركات في مجال الأغذية وقطاع الخدمات المالية والمصرفية والمدفوعات الإلكترونية، وشركات أخرى في صناعة الأسمدة، إضافة إلى استثماراتها القائمة بالفعل. فالاستثمارات الإماراتية في مصر بلغت أكثر من 712 مليون دولار في النصف الثاني من عام 2020، وارتفعت إلى أكثر من 1.9 مليار دولار في النصف الثاني من عام 2021، وذلك قبل "هوجة" الشراء الأخيرة، مما يشير إلى أن الرقم قد يكون تضاعف بالفعل.
والبديهي في هذا السياق أن يكون ذلك التوجه الإماراتي لزيادة الاستثمارات في مصر خبراً سعيداً للقاهرة، إلا أن الواضح أن هذا قد لا يكون دقيقاً. فبحسب تقرير لموقع Africa Intelligence الفرنسي، نشر بتاريخ 19 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، حث الرئيس الإماراتي محمد بن زايد نظيرَه المصري على الإسراع ببيع الشركات المصرية للمستثمرين الإماراتيين، مما يعني أن هناك "تردداً" من الجانب المصري في هذا السياق.
لكن تقريراً آخر نشره الموقع نفسه قبل أيام ربما يحمل تفسيراً لذلك "التردد" من الجانب المصري، إذ دخل صندوق الثروة السيادي التابع لأبوظبي في منافسة شرسة مع شركة موانئ دبي العالمية، التابعة لإمارة دبي، للحصول على موطئ قدم لأبوظبي في الموانئ المصرية، في إطار خطة أبوظبي للسيطرة على الموانئ الرئيسية في المنطقة، وبخاصة في نطاق البحر الأحمر وباب المندب والقرن الإفريقي.
وفي هذا السياق، ينبع التردد المصري من المخاوف بشأن منطقة قناة السويس تحديداً، حيث لا ينظر لواءات الجيش المصري بارتياح للتحمُّس الذي تبديه الإمارات في السباق بين دول الخليج على تأمين استثمارات لنفسها على ضفاف قناة السويس.
وتُوصف الإمارات بأنها أشرس المنافسين في سباق الفوز بأكبر حصة ممكنة من فرص الاستثمار في محور قناة السويس المصرية، وكانت بالفعل أول من حصل على موطئ قدم في هذه المنطقة عام 2018، من خلال استثمارات شركة موانئ دبي العالمية في ميناء العين السخنة المصري.
والآن يتسبب الاتجاه الإماراتي إلى ضخ استثمارات جديدة على ضفاف القناة المصرية، التي تمر عبرها نسبة 10% من التجارة البحرية العالمية، في حدة هذه المخاوف، خصوصاً أن حصةً من إمبراطورية الجيش المصري الاقتصادية قد صارت على المحك هذه المرة.
ففي سياق البيع المرتقب لعدة شركات تابعة لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية، إحدى أذرع النشاط الاقتصادي للجيش المصري، يتطلع محمد بن زايد إلى السيطرة على "الشركة الوطنية للبترول"، التي تمتلك أصولاً من الأراضي في منطقة شرق دلتا النيل، بالقرب من قناة السويس، ومن ثم، فإن بيع الشركة يمكِّن هيئة الإمارات للاستثمار، أي صندوق الثروة السيادي لدولة الإمارات، من أن يستحوذ استحواذاً مباشراً على أصول تقع على ضفاف القناة المصرية.
لماذا هذا الاهتمام الإماراتي بقناة السويس؟
استراتيجية الإمارات لتنويع اقتصادها وتخليصه من الاعتماد على النفط تتمحور حول خطة تنمية التجارة البحرية وأن تصبح لأبوظبي السيطرة على الموانئ وممرات الملاحة البحرية في المنطقة والعالم إن استطاعت. فشركة موانئ دبي العالمية تسيطر بالفعل على شبكة مترامية من الموانئ في المنطقة والعالم، وكانت تدير ميناء سان فرانسيسكو الأمريكي حتى ما بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 بقليل.
كما أنه ليس سراً أن أحد الدوافع الرئيسية للرئيس الإماراتي، الذي كان ولياً لعهد أبوظبي وقتها، من المشاركة في حرب اليمن ضمن التحالف العربي لدعم الشرعية، كان السيطرة على ميناء عدن والجزر المطلة عليه، وهو ما تحقق له بالفعل، رغم أن الحرب ضد الحوثيين لم تنتهِ وتحولت إلى كارثة لا تزال قائمة.
كما تمتلك الإمارات قواعد عسكرية في الصومال وجيبوتي تجعل لها موطئ قدم بارزاً في منطقة القرن الإفريقي، إضافة إلى الدعم الإماراتي المستمر لإثيوبيا، وحتى المشاركة في تمويل سد النهضة، الذي يمثل تهديداً مباشراً لحصة مصر من المياه، وكان الموقف الإماراتي في ذلك الملف قد تسبب في توتير العلاقات بين القاهرة وأبوظبي بالفعل.
باب المندب والقرن الإفريقي يمثلان المدخل الجنوبي لقناة السويس، التي سعت الإمارات إلى إيجاد بديل لها، في أعقاب التطبيع مع إسرائيل، وذلك من خلال الصفقة الضخمة لتطوير ميناء حيفا الإسرائيلي على البحر المتوسط من جهة، وإبرام صفقة خط أنابيب إيلات-عسقلان من جهة أخرى.
وقصة خط أنابيب إيلات – عسقلان تحديداً لها دلالة من المستحيل تجاهلها، فتشييده يرجع إلى ستينيات القرن الماضي وكان الهدف منه هو نقل النفط من إيران -التي كانت تحت حكم الشاه في ذلك الوقت وتتمتع بعلاقات وثيقة مع إسرائيل- إلى ميناء إيلات الإسرائيلي على خليج العقبة ثم ينقل النفط من خلال خط أنابيب من إيلات على البحر الأحمر إلى ميناء عسقلان على البحر المتوسط ومنه إلى أوروبا والولايات المتحدة.
وكان الهدف من ذلك الخط هو تفادي المرور في قناة السويس المصرية في ظل حالة العداء والحرب بين مصر -والدول العربية وقتها- وإسرائيل، ومع قيام الثورة في إيران عام 1979 وانتهاء حكم الشاه انتهى خط الأنابيب واختفى من الوجود، أو هذا ما كان يبدو.
فبمجرد أن وقَّعت الإمارات وإسرائيل اتفاق التطبيع بينهما، بل بمجرد أن تم الإعلان عن هذا التطور منتصف أغسطس/آب 2020 من خلال الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، عاد الحديث مجدداً عن إحياء خط أنابيب إيلات – عسقلان، لكن هذه المرة بهدف نقل النفط الإماراتي والخليجي المتجه شمالاً إلى أوروبا والأمريكتين دون المرور بقناة السويس.
وذكر تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC في أكتوبر/تشرين الأول 2020 أنه لم يكد يجف حبر التوقيع على اتفاق تطبيع العلاقات بين دولة الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل حتى وقع البلدان على اتفاقية هامة في مجال نقل وتسويق النفط.
"فقد وقع البلدان قبل أيام قليلة اتفاقاً مبدئياً يتعلق بشحن النفط الخام والمنتجات النفطية القادمة من دولة الإمارات، ثالث أكبر منتج للنفط في أوبك، إلى الأسواق الأوروبية عبر خط أنابيب للنفط في إسرائيل يربط بين البحرين الأحمر والأبيض المتوسط، وليس عبر قناة السويس أو خط أنابيب سوميد المصري".
المأزق الذي يواجه السيسي
لكن خط أنابيب إيلات – عسقلان كان من أوائل الأهداف التي ضربتها المقاومة الفلسطينية أثناء حرب غزة عام 2021، وأشعلت الصواريخ النيران في خزان الوقود الضخم في عسقلان وأصابت خط الأنابيب نفسه إصابة مباشرة، ثم جاءت الاعتراضات البيئية من جانب تل أبيب لتكتب كلمة النهاية للمشروع.
وهكذا عادت الإمارات إلى تكثيف جهودها بغرض الحصول على أكبر حصة ممكنة من الاستثمارات والمشاريع في محيط منطقة قناة السويس المصرية، التي لا يبدو أن إيجاد بديل لها أمر متاح، على الأقل في المستقبل القريب.
هذه التحركات الإماراتية ليست أسراراً بطبيعة الحالة، وأيضاً من الطبيعي أن تثير حفيظة القاهرة، التي تمثل لها قناة السويس تحديداً مصدراً رئيسياً من الدخل بالعملات الأجنبية، إذ يبلغ دخل القناة في المتوسط نحو 7 مليارات دولار سنوياً، إضافة إلى كون هذا الشريان البحري العالمي ورقة استراتيجية هامة ترفع من الأهمية الاستراتيجية للبلاد.
لكن هذه الملابسات تضع الرئيس المصري في مأزق، فهل يستجيب لطلبات الرئيس الإماراتي الذي يحثه على الإسراع ببيع الأصول للمستثمرين الإماراتيين ويتجاهل مخاوف قيادات الجيش المصري الذين عبَّروا عن ارتيابهم من إجراءات الخصخصة؟
فلواءات مصر، خاصة العاملين في جهاز المخابرات العامة، يرون أن تزايد نفوذ الإمارات على هذا النحو يمثل تهديداً للسيادة المصرية في منطقة استراتيجية شديدة الحساسية. إلا أن السيسي يحتاج إلى أموال الإمارات، إذ ارتفع الدين الخارجي لمصر ارتفاعاً بالغاً ليصل عند ذروته إلى نحو 155 مليار دولار في شهر يونيو/حزيران الماضي، وفقاً لبيانات البنك المركزي المصري، وتسعى القاهرة الآن للحصول على قرض جديد من صندوق النقد الدولي.
وبحسب تقرير الموقع الفرنسي، اغتنم محمد بن زايد آخر زياراته إلى مصر لزيادة الضغوط على السيسي وتأجيج الصراع الداخلي مع قيادات الجيش، إذ استغل الرئيس الإماراتي زيارته إلى مدينة العلمين أواخر شهر أغسطس/آب الماضي لتذكير مضيفه السيسي بنيته الاستثمار في قلب العاصمة المصرية.