في بلد يبعد آلاف الأميال عن الشرق الأوسط، تحديداً في العاصمة الماليزية كوالالمبور، تم اغتيال المهندس والأكاديمي الفلسطيني فادي البطش في شهر نيسان/أبريل من العام 2018، على يد جهاز المخابرات الإسرائيلي (الموساد)؛ لتقضي على مشروع عالِم لم يكتمل.
وخلال هذا الأسبوع تحديداً يوم 28 سبتمبر/أيلول 2022 عاود "الموساد" الكرَّة، لكن باءت العملية بالفشل، فقد كشفت تقارير ماليزية تفاصيل عملية اختطاف الموساد خبيراً فلسطينياً في برمجة الحاسوب في العاصمة كوالالمبور، قبل أن تنجح الشرطة الماليزية في تحريره، بينما كان خاطفوه الماليزيون الذين استعان بهم الموساد بصدد استجوابه.
ماذا يفعل الموساد في ماليزيا؟
"لموديعين أولتافكديم ميوحادي" أو ما يُعرف اختصاراً بـ"الموساد"، الذي يُعد عملياً جهازاً استخباراتياً إسرائيلياً يقوم بتنفيذ عمليات سرية وإرهابية خارج حدود إسرائيل، ورغم أن ماليزيا دولة تبعد آلاف الأميال ولا تعترف بوجود إسرائيل من الأساس، يسعى الموساد ليكون هناك، بعد أن تحولت إلى قاعدة عمل لحركة المقاومة الفلسطينية حماس.
متى تم إنشاء الموساد؟
تم إنشاء الموساد بشكله الحالي أواخر سنة 1949، بينما تم إنشاؤه لأول مرة عام 1937 بهدف القيام بعمليات تهجير اليهود للأراضي الفلسطينية، كمنظمة للهجرة غير الشرعية تابعة لإحدى مؤسسات جهاز الاستخبارات الإسرائيلي والجهاز التقليدي للمكتب المركزي للاستخبارات والأمن.
يعمل الموساد بصفته مؤسسة رسمية بتوجيهات مباشرة من قادة إسرائيل، مع مراعاة الكتمان والسرية في أداء عمله. بجانب تنفيذ عمليات الاغتيال والتجسس على الدول الصديقة قبل العدوة، يقوم أيضاً الموساد بالعمل على إقامة علاقات وصفقات سرية لصالح إسرائيل.
ويتكون من ثلاثة أقسام رئيسية: قسم المعلومات الذي يتولى جمع المعلومات وتحليلها، وقسم العمليات الذي يتولى وضع خطط العمليات الخاصة بالاغتيالات والعمليات الإرهابية ضمن إطار مخطط إسرائيلي عام، ثم قسم الحرب النفسية الذي يشرف على خطط العمليات الخاصة بالحرب النفسية وتنفيذها.
ففي بلد يشكل فيه المسلمون نسبة 60% من السكان، يملك بنية تعليمية جيدة، أصبحت وجهة تعليمية ومساحة مناسبة لإنشاء كوادر علمية وأكاديمية فلسطينية، حيث يعيش الآن في ماليزيا أكثر من حوالي 3 آلاف طالب فلسطيني، ويعمل الكثيرون منهم في منظمات وجمعيات تابعة لحركة المقاومة الإسلامية حماس.
بالإضافة لذلك، يمتلك الفلسطينيون هناك حضوراً بارزاً؛ حيث يلقى الفلسطينيون دعماً كبيراً في ماليزيا من مسؤولين في الحكومة بمن فيهم رئيس الوزراء السابق مهاتير محمد، والذي كان يحضر مناسبات عديدة تنظمها الجمعيات الفلسطينية هناك.
لدى الفلسطينيين عدة جمعيات تصل إلى حوالي سبع جمعيات تقريباً، ويزعج هذا الحضور والتفاعل الثقافي والسياسي الفلسطيني الحكومة الإسرائيلية، مما دفع وزارة الدفاع الإسرائيلية في شهر فبراير/شباط 2020 إلى تصنيف المركز الثقافي الفلسطيني في ماليزيا على أنه منظمة إرهابية؛ مما يعطي الحكومة الإسرائيلية المبرر القانوني لملاحقة أي شخص تشكّ له علاقة مع هذه المنظمة وفاعليتها.
من يومها اعتبرت إسرائيل أن المركز واحد من المنظمات التي تدعم حماس في جنوب شرق آسيا، مما يوضح مدى تواجد ونشاط الموساد الإسرائيلي داخل الأراضي الماليزية.
فقد كشفت مصادر استخباراتية إسرائيلية عن ملاحقتها شبكة حماس، بالإضافة إلى معلومات توضح مَن وراء عملية اغتيال المهندس فادي البطش، فبحسب ما ذكرت صحيفة The New York Times ادعت الوثائق الإسرائيلية أن البطش كان جزءاً من شبكة فلسطينية لجمع التبرعات والتدريب تابعة لمنظمة حماس حول العالم.
حيث كان يعمل البطش مع منظمة "مايكير" التي كانت تعرف سابقاً بـ"الأقصى الشريف"، وأضافت أنه كان جزءاً من الوحدة التكنولوجية في حماس "إدارة البناء"، التي تركز على تطوير طائرات مسيَّرة وصواريخ قادرة على تجنب النظام الدرع الصاروخي الإسرائيلي، وهو ما نفته المنظمة بعد ذلك.
يأتي إحباط عملية اختطاف خبير فلسطيني في تكنولوجيا المعلومات ينحدر من غزة وسط العاصمة كوالالمبور، ليلقي الضوء على استراتيجية الموساد في اغتيال الكوادر والنشطاء الفلسطينيين في الخارج.
ويتواجد عدد كبير من الفلسطينيين في الخارج وبعضهم أعضاء في حركة المقاومة في بلدان أوروبية، مثل بريطانيا وفرنسا والسويد وأيضا ماليزيا، فمثلاً بريطانيا تحاول فصائل المقاومة جمع التبرعات، بينما في ماليزيا تعمل على البحث العلمي إلى جانب جمع التبرعات.
ولم تخفِ إسرائيل ولا أجهزتها الأمنية نواياها عن ملاحقة الحركة وأتباعها، فقد صرح من قبل مسؤول أمني إسرائيلي: "لو اعتقد البعض أن بُعد ماليزيا يمنعنا من ملاحقة نشاط حماس هناك، فهو مخطئ".
فقد كشفت صحيفة New Straits Times أن 11 شخصاً بينهم امرأة يواجهون عقوبة السجن مدى الحياة أو حتى الإعدام بعد اتهامهم بخطف فلسطيني.
وعقب فشل محاولة الاختطاف الأخيرة نقل موقع "واي نت" الإسرائيلي عن وسائل إعلام ماليزية، يوم الثلاثاء 18 أكتوبر/تشرين الأول، أن العملية انتهت بطريقة مختلفة عن تلك التي خطط لها، وأنها احتوت على إخفاق عملياتي واضح بعد فشل تحديد هوية الشخص المطلوب اختطافه.
هذا وقد قالت وسائل إعلام ماليزية إن أجهزة الأمن فكَّكت شبكة تجسس تابعة لجهاز الموساد الإسرائيلي، ونقلت صحف ماليزية عن مسؤولين قولهم إن الموساد جنَّد خلية من 11 ماليزياً على الأقل بهدف تعقب نشطاء فلسطينيين.
وتبذل إسرائيل مجهوداً مضنياً في تتبع الفلسطينيين في ماليزيا، مما جعلها تسلط جهازها الاستخباراتي ليس على الفلسطينيين فحسب، بل على الدولة الماليزية ومؤسساتها، فقد كشفت التحقيقات ضلوع خلية الموساد في التجسس على مواقع مهمة بالبلاد منها مطارات، فضلاً عن اختراقها شركات إلكترونية حكومية، ولم تستبعد هذه المصادر وجود خلايا أخرى نشطة لـ"الموساد".
فيما قالت المصادر ذاتها إن الموساد استعان لتنفيذ العملية بعملاء ماليزيين كان قد دربهم في دول أوروبية.
تدخلات الموساد المزعجة للدول
ليست هذه المرة الأولي التي فيها يقتحم الموساد خصوصية وأمن دول أخرى، ليقوم بعمليات قتل واغتيال وصفتها العديد من دول أوروبا بالإرهابية.
حيث يُعد الموساد جهازاً مستقلاً عن "الشاباك" جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي، فهو جهاز مخابرات مختص بالعمليات الخارجية فقط.
سبب الموساد إزعاج شديد لأوروبا، وكشفت عدة وثائق بريطانية أسرار فضيحة عملية "غضب الرب" التي نفذها الجهاز الإسرائيلي لاغتيال قائد فلسطيني داخل الأراضي الأوروبية.
فوفقاً للمصادر، تفجرت أزمة بين النرويج وإسرائيل، مما أثار انزعاجاً بالغاً في النرويج وعدة دول أخرى جراء "عمليات الانتقام الإرهابية" الإسرائيلية من النشطاء العرب في دول القارة.
ففي عام 1973 كان يعمل الموساد على تصفية العرب والفلسطينيين خاصة من منظمة "أيلول الأسود".
وقتلت فرقة اغتيالات إسرائيلية شاباً مغربياً بالخطأ، يدُعى أحمد بوشيخي وهو نادل يعمل في مطعم في بلدة ليلهامر النرويجية الصغيرة الهادئة، ظناً منها أنه الناشط الفلسطيني حسن سلامة، أحد أبرز قيادات منظمة "أيلول الأسود" الفلسطينية.
مما أدى لاضطراب شديد في العلاقات بين إسرائيل والنرويج، طردت النرويج حينها المسؤول الأمني بالسفارة من أراضيها بعد أن قامت السلطات النرويجية من اعتقال أعضاء منفذ العملية.
واحتجت على إثرها إسرائيل قانونياً ودبلوماسياً، غير أن النرويج رفضت الحجة الإسرائيلية، وأبلغت إسرائيل أن قانونها الوطني لا يسمح بإساءة استغلال العلاقات الدبلوماسية لارتكاب جرائم؛ مما أدى أيضاً لإثارة قلق بالغ في أوروبا، خاصة في إيطاليا وفرنسا وبريطانيا.
فقد سبقتها بأسابيع قليلة عملية اغتيال أخرى للفنان الجزائري محمد بودية على يد عملاء إسرائيليين، وكان الفنان الجزائري ناشطاً سياسياً في حركة النضال الفلسطيني، وأحد قادة منظمة "أيلول الأسود"، في العاصمة الفرنسية.
حيث مثَّل الاغتيال صدمة لكثير من الناس في باريس؛ لأنه كان معروفاً في عالم الفن اليساري آنذاك.
إلى اليوم تستمر إسرائيل في الاعتماد على الاستراتيجية الإرهابية للموساد لتصفية الكوادر الفلسطينية في الخارج، بينما تستخدم لوبياتها في أروقة الأمم المتحدة وبعض الدول للتعتيم على سياساتها القمعية والعنصرية تجاه الفلسطينيين في الداخل.