رغم الواقع المرير الذي يعيشه الفلسطينيون في الضفة الغربية والقدس، فإنهم لا يعدمون وسائل دعم شباب المقاومة، فما قصة حلق الرؤوس تضامناً مع مخيم شعفاط، التي تربك إسرائيل؟
ازدادت بشكل لافت حدة العنف من جانب شرطة وجيش الاحتلال في القدس المحتلة والضفة الغربية خلال الأشهر الماضية، وسط اقتحامات متكررة من المستوطنين والسياسيين اليمينيين المتطرفين للمسجد الأقصى، وهجمات شبه يومية يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي على البلدات والمخيمات الفلسطينية.
وبحسب تقرير صادر عن "التجمع الوطني لأُسر شهداء فلسطين"، بلغ عدد الشهداء في الأراضي الفلسطينية برصاص الجيش الإسرائيلي أكثر من 170 قتيلاً منذ مطلع العام الحالي، "من بينهم 119 قتلتهم قوات الاحتلال في مواجهات بالضفة الغربية، و51 استُشهدوا خلال العدوان الأخير على قطاع غزة".
إسرائيل تطارد عدي التميمي
الأسبوع الماضي نشرت السلطات الإسرائيلية مواصفات شاب فلسطيني يدعى عدي التميمي، الذي تتهمه تل أبيب بتنفيذ عملية أسفرت عن مقتل جندية إسرائيلية وإصابة آخرين على حاجز مخيم شعفاط، بحسب تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.
المواصفات التي نشرها جيش الاحتلال جاءت على النحو التالي: شاب حليق الرأس يبلغ من العمر 22 عاماً من مخيم اللاجئين شعفاظ في القدس المحتلة، إضافة إلى اسمه.
وجاء الرد من جانب مجموعة من شباب مخيم شعفاط على هذا الإعلان الإسرائيلي، من خلال تصوير أنفسهم وهم يحلقون رؤوسهم، حيث نشر المقطع على الإنترنت، وما لبث أن انتشر على نطاق واسع، وشجّع عشرات الفلسطينيين في القدس والضفة الغربية المحتلة على أن يحذوا حذوهم لحماية المطارد عدي التميمي.
وبدأ آخرون في المخيم يمطرون الواتساب برسائل تحمل اسم عدي، وذلك بهدف التشويش على الخوارزميات التي قد تستخدم لتعقب التميمي وتحديد موقعه. حتى أن أحدهم قال في رسالة صوتية نُشرت على الإنترنت: "هل غيرت حفاضات عدي؟".
لكن حلاقة الرأس ورسائل الواتساب التي تحمل اسم عدي لم تكن الردود الفلسطينية الوحيدة، بل عمد آخرون في المخيم إلى الاتصال بالشرطة الإسرائيلية والسخرية منها وتشتيتها.
فمنذ بدأت مطاردة الشاب الفلسطيني، لم يتوقف أزيز طائرات الاستطلاع المسيّرة في سماء القدس. ويقول بعض سكان المدينة إن هذا الأزيز يمنعهم من النوم، ونقلوا شكواهم إلى شرطة الطوارئ الإسرائيلية بطريقة ساخرة.
إذ اتصل أحدهم برقم 911، وبدأ في إصدار صوت مشابه للأزيز الذي تصدره الطائرات، وقال آخر في مكالمة هاتفية أخرى: "مشكلتي أنني لم أستطع النوم مساء أمس، والطائرات لم تتوقف عن الأزيز".
ولجأ آخرون إلى الهتاف باسم عدي في الشوارع لإزعاج الشرطة الإسرائيلية، على غرار ما حدث حين بدأ سكان القدس في مناداة اسم زكريا الزبيدي دون توقف خلال هروبه من السجن الإسرائيلي الذي دام 5 أيام العام الماضي مع 5 فلسطينيين آخرين.
وبالإضافة إلى تلك الأساليب الشعبية في دعم المقاومة، كشفت وسائل إعلام إسرائيلية أن أهالي مخيم شعفاط والأحياء المجاورة اتخذوا خطوات ساهمت في تعقيد عمليات مطاردة المنفذ، إذ قالت القناة "13" العبرية، إن إحراق أهالي مخيم شعفاط لكاميرات المراقبة وحذف التسجيلات وضع صعوبات إضافية أمام قوات الاحتلال في عمليات المطاردة لعدي التميمي الذي يتهمه الاحتلال بتنفيذ العملية.
إسرائيل تكثف اعتداءاتها على الفلسطينيين
منذ بداية العام الحالي يكثف الاحتلال الإسرائيلي من اعتداءاته على الفلسطينيين بصورة أثارت الانتقادات من جانب رئيسة أحد الأحزاب، اتهمت وزير الدفاع بيني غانتس والجيش بالتساهل مع المستوطنين والتسبب في "زيادة مجنونة" في أعداد الشهداء الفلسطينيين.
زهافا غلؤون، رئيسة حزب "ميرتس" الإسرائيلي، قالت خلال مقابلة لها على القناة 12 الإسرائيلية: "وزير الدفاع بحاجة إلى كبح جماح جنود الجيش الإسرائيلي وضبطهم، هناك زيادة مجنونة في عدد القتلى الفلسطينيين"، معتبرة أن "التخفيف في تعليمات إطلاق النار الصادرة للجنود أسهم في تفاقم الأمر".
وأضافت غلؤون: "المستوطنون يقومون بأعمال شغب ضد الفلسطينيين، وهذا يسبب تصعيداً. الجيش يؤمّن قوافل من المستوطنين في مختلف المسيرات، وهذا يشكل استفزازاً. كل مَن يقترح إدخال مزيد من القوات إلى المناطق الفلسطينية، عليه أن يعرف أن هذه المنطقة ستدخل في تصعيد لا داعي له، يجب أن تكون هناك يد أكثر حزماً تجاه المستوطنين".
كما شنَّت رئيسة حزب "ميرتس" هجوماً حاداً ضدّ عضو الكنيست المتطرف إيتمار بن غفير، ووصفته بأنه "بلطجي ومحرّض"، مضيفة أنه يجب على غانتس أن يعلن جماعة "شبيبة التلال" الاستيطانية التي ترافقه لدى اقتحام المسجد الأقصى كـ"تنظيم إرهابي"، إضافة إلى ضرورة "سحب الحصانة عن بن غفير، لدوره في التحريض والتشجيع على الإرهاب".
"هدف بن غفير كله هو تحويل الصراع إلى صراع ديني في القدس. إنه مستعد لسفك دماء اليهود والعرب حتى يتمكن من التقاط صور لحملته الانتخابية"، بحسب غلؤون.
كان إيتمار بن غفير قد اقتحم المسجد الأقصى بصحبة عشرات المستوطنين، يوم الأربعاء الماضي، في حماية شرطة الاحتلال الإسرائيلي، التي اعتدت على المصلين، واعتقلت اثنين من حراس المسجد الأقصى أثناء تأدية عملهم، بحسب المركز الإعلامي الفلسطيني.
ورغم أن اقتحام المستوطنين المتطرفين للمسجد الأقصى ليس جديداً في حد ذاته، فإن وتيرته تسارعت بشكل لافت، وسط حماية شرطة الاحتلال الإسرائيلي، فيما يبدو أنه سياق مخطط لفرض التقسيم الزماني والمكاني، الذي يسعى رئيس الوزراء السابق نفتالي بينيت لتنفيذه.
ورغم أن تصريحات رئيسة حزب "ميرتس" تأتي في سياق صراع سياسي داخلي قبيل الانتخابات الإسرائيلية المقررة مطلع نوفمبر/تشرين الثاني، فإنها تمثل في الواقع قمة جبل الجليد بشأن ما تشهده الأراضي الفلسطينية.
ورصد تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني بعضاً من تفاصيل اعتداءات المستوطنين وجنود الاحتلال المتكررة على الفلسطينيين. عبد الله عودة واحد من هؤلاء، حيث كان جالساً في مكتبه بمنتزه الملاهي الذي يملكه في بلدة "حوارة" شمالي الضفة الغربية المحتلة، حين بدأ الهجوم الإسرائيلي على المنطقة.
وقال عودة لموقع Middle East Eye: "في نحو الساعة 2:20 بعد الظهر سمعنا صفارات الإنذار الصادرة عن السيارات المتوقفة في الخارج. سارعنا إلى الصوت، فرأينا مجموعة كبيرة من المستوطنين الملثمين ينزلون نحونا من أعلى التل. وبدأوا بغتة في إلقاء الحجارة علينا، فحطَّموا نوافذ السيارات خارج الحديقة، وانهمرت الحجارة علينا كالمطر".
سجَّلت كاميرات المراقبة لدى عودة مشاهد لعشرات المستوطنين الملثمين يقذفون الحجارة على السيارات والمباني المحيطة بالمنتزه الترفيهي، والمنازل القريبة. وقال عودة: "بينما كانت مجموعة من المستوطنين تقذف السيارات بالحجارة، بدأت مجموعة أخرى منهم بإشعال النار في أشجار الزيتون في المنطقة. ومكث المستوطنون نحو 20 دقيقة، تمكنوا خلالها من إحراق عشرات أشجار الزيتون، وتدمير 3 سيارات وتكسير نوافذها بالكامل".
من الحطة الفلسطينية.. إلى حلق الرؤوس
شاب فلسطيني، تحدث، شريطة عدم الكشف عن هويته، لموقع Middle East Eye، قال إن حلق الرأس ورسائل الواتساب والهتاف باسم عدي كلها كانت تصرفات عفوية. وأضاف: "كانت طريقة للتضامن مع أهالي شعفاط الذين يتعرضون للقمع الإسرائيلي".
واتهمت إسرائيل توجُّه حلق شعر الرأس بأنها محاولة لتعطيل عمل الشرطة والتحريض على العنف. لكن الفلسطينيين الذين تحدثوا إلى موقع Middle East Eye رفضوا هذه المزاعم، وأصروا على حقهم في الدفاع عن أنفسهم ضد الاحتلال الإسرائيلي.
وقال الفلسطينيون أيضاً إن حملة حلق الرأس هدفها التضامن مع شعفاط أكثر من أي شيء آخر. إذ قال أحد الشباب للموقع البريطاني: "الهدف ليس إرباك الشرطة بقدر ما هو إظهار التضامن مع شعفاط في القدس وبقية فلسطين".
لكن مخاوف البعض من التداعيات تحولت إلى واقع في شعفاط، إذ تستهدف القوات الإسرائيلية، التي لا تزال منتشرة بكثافة في حاجزي المخيم، حليقي الرؤوس، أو من تشاهدهم ينادون باسم عدي، عند الحواجز.
وقالت مصادر من المخيم لموقع Middle East Eye إن شخصاً واحداً على الأقل تعرض للاعتداء الجسدي؛ لأنه كان حليق الرأس ولم يُسمح لآخرين بمغادرة المخيم.
وقال حسن علقم، وهو ناشط من مخيم شعفاط، لموقع Middle East Eye: "الجنود يوقفون الناس عند الحواجز ويطلبون منهم خلع قبعاتهم. ولو اكتشفوا أنهم حالقو رؤوسهم لا يُسمح لهم بالمرور. لكن هذا لا يزيد الشباب إلا تصميماً على تحدي الاحتلال الإسرائيلي".
كما تم طرد عمال من مخيم شعفاط من عملهم بسبب حلق رؤوسهم، بحسب تغريدة على تويتر: "أكثر من 15 عاملا من مخيم شعفاط تم طردهم من عملهم بسبب حلقهم على الصفر "عالصلعه" المهم انه في شب اسمه ليث عبد ربه شركة تنظيف من القدس وعد بتأمين وظيفة لاي حد بتم طرده من عمله ومن بكرة ببلشوا فيها (يبدأوا).. هاي أسمى قيم التكاتف والمساندة وليسقط المحتل وأعوانه".
ورغم القمع، انتشرت صور وتصميمات رجال فلسطينيين حليقي الرؤوس على الإنترنت، وشبه كثيرون ما يحدث بحملات تضامن مماثلة في تاريخ فلسطين. وكان أشهرها أثناء الثورة الفلسطينية التي استمرت في الفترة بين 1936 و1939 على الانتداب البريطاني.
فحينذاك، كان المقاتلون الفلسطينيون يأتون في الغالب من المناطق الريفية ويرتدون الكوفية أو الحطة على عكس الفلسطينيين الذين كانوا يعيشون في المدن الكبرى ويرتدون الطربوش.
ولذلك، كانت السلطات البريطانية تتعرف على الثوار بسهولة وتطاردهم حين يهاجمون أهدافاً عسكرية وشرطية في المدن الكبرى. ثم أصدرت اللجنة العربية القومية في نابلس أمراً للجمهور، طالبتهم فيه بارتداء الحطة بدلاً من الطربوش، حتى يتمكن الثوار من الهروب بسهولة من السلطات البريطانية.
وقوبلت الدعوة بحماس كبير، وتخلى سكان المدن عن ارتداء الطربوش في الحال وبدأوا في ارتداء الحطة.
وبحسب الباحث في التراث الفلسطيني حمزة العقرباوي، فالدعم الشعبي والمساندة لأعمال المقاومة جزء لا يتجزأ من التاريخ الفلسطيني، من الانتفاضات الأولى على الاحتلال البريطاني في عشرينيات القرن الماضي إلى جميع الانتفاضات على الاحتلال الإسرائيلي منذ أوائل الستينيات.
وقال العقرباوي لموقع Middle East Eye: "انتشرت مبادرات مماثلة في الانتفاضة الأولى والثانية. على سبيل المثال، كان كثير من النساء يتدخلن لحماية الأطفال من الاعتقال، ويقلن إنهم أبناؤهن رغم عدم وجود ما يربطهن بهم".
وأضاف: "أو في أوقات أخرى حين يُدعى المُلاحقون من الجيش الإسرائيلي إلى المنازل ويُمنحون ملابس النوم والأسرّة ليناموا فيها ويتظاهروا أنهم أفراد من العائلة".
ويرى العقرباوي أن حملة حلق الرأس الأخيرة ما هي إلا استمرار طبيعي لدعم المجتمع لنشاط المقاومة. وقال: "رغم المخاطر التي يتعرض لها هؤلاء الأشخاص، فلم يتأخروا في إبداء دعمهم لهذه الأنشطة لأنهم يشعرون أن الشخص الذي يحمونه يمثل مخاوفهم وآمالهم"، مضيفا أن "هذا يساعدهم على تفريغ بعض الغضب الذي يشعرون به من السياسات الصهيونية شديدة العنف والهمجية".