جاء تلويح رئيسة الوزراء البريطانية ليز تراس بنقل سفارة بلادها لدى إسرائيل إلى القدس، ثم تراجع أستراليا عن نقل سفارتها للقدس، ليظهر كيف أصبحت القدس ورقة انتخابية داخلية في العديد من الدول الغربية، حيث تلجأ إليها أحزاب اليمين على وجه الخصوص لمغازلة المشاعر اليمينية المعادية للعرب والمسلمين، لجمع الأصوات.
وقالت وزيرة الخارجية الأسترالية بيني وونغ خلال إفادة صحفية، إنه يجب حل قضية القدس في إطار محادثات سلام بين إسرائيل والفلسطينيين، مشددة على أن قرار أستراليا التراجع عن نقل سفارتها للقدس لن يؤثر على صداقتها مع إسرائيل.
قرار تراجع أستراليا عن نقل سفارتها للقدس نُفذ في البداية بتكتم
قرار تراجع أستراليا عن نقل سفارتها للقدس، الذي نفذته الحكومة اليسارية الحالية، يمثل إلغاءً لقرار اتخذته الحكومة اليمينية السابقة بنقل السفارة للقدس، والذي جاء في ذلك الوقت على خطى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
ففي 15 ديسمبر/كانون الأول 2017 قررت أستراليا الاعتراف بالقدس الغربية عاصمة لإسرائيل، وفي أكتوبر/تشرين الأول 2018، قال رئيس الوزراء الأسترالي المحافظ سكوت موريسون إن حكومته منفتحة على الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل سفارتها إلى المدينة، إلا أن بلاده امتنعت عن نقل السفارة عملياً.
واللافت أن تراجع أستراليا عن نقل سفارتها للقدس، جرى تنفيذه بتكتم في البداية، حيث حذفت وزارة الشؤون الخارجية والتجارية بياناً في هذا الشأن من موقعها على الإنترنت، عقب تحقيق أجرته صحيفة the Guardian البريطانية.
وكان واضحاً أن الحكومة العمالية الحالية تريد التراجع عن قرار الحكومة المحافظة السابقة بطريقة هادئة ودون ضجة، إلا أن تقرير الصحيفة البريطانية سلط الضوء على القرار الذي أغضب إسرائيل، وكذلك بعض الجماعات اليهودية في البلاد، حسبما ورد في تقرير لصحيفة the Guardian.
فلقد حذفت الخارجية الأسترالية قبل أيام جملتين من موقعها على الإنترنت تمت إضافتهما لأول مرة، بعد أن كشف رئيس الوزراء السابق موريسون النقاب عن سياسة أسترالية جديدة قبل أربع سنوات.
وجاء في الجمل المحذوفة حديثاً: "تماشياً مع هذه السياسة الطويلة الأمد، اعترفت أستراليا في ديسمبر/كانون الأول 2018 بالقدس الغربية عاصمة لإسرائيل، كونها مقر الكنيست والعديد من مؤسسات الحكومة الإسرائيلية".
"أستراليا تتطلع إلى نقل سفارتها إلى القدس الغربية عندما يكون ذلك عملياً، وذلك، بعد تحديد الوضع النهائي لحل الدولتين".
وبعد ساعات من الحذف، استدعت الخارجية الإسرائيلية السفير الأسترالي، وفق ما نقلت إذاعة الجيش الإسرائيلي.
كما انتقد رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد الخطوة الأسترالية، ووصفها بـ"الرد المتسرّع"، مضيفاً: "لا يمكننا إلا أن نأمل بأن تتعامل الحكومة الأسترالية مع قضايا أخرى بشكل أكثر جدية ومهنية".
في المقابل، رحبت السلطة الفلسطينية بالخطوة، وكذلك حركة حماس، وقال عمار حجازي- مساعد وزير الخارجية الفلسطيني للعلاقات متعددة الأطراف- لوكالة الصحافة الفرنسية إن "الموقف الأسترالي هو تصويب خطأ ارتكبته الحكومة السابقة، ونحن نشجع على ذلك، وكذلك باقي الدول التي لا يتوقف اتصالنا معها بهذا الشأن".
وأكدت وزيرة الخارجية الأسترالية بيني وونغ أن بلادها لا تزال ملتزمة بحل الدولتين، مؤكدة أنها لن تدعم أي مقاربة تبدد هذا الأفق السياسي، مؤكدة أن سفارة بلادها كانت دائما في تل أبيب وستظل هناك.
كانت وزيرة الخارجية بيني وونغ، قد صرحت في عام 2018 أن حزب العمال "لا يؤيد الاعتراف من جانب واحد بالقدس كعاصمة لإسرائيل وأن الحكومة ستعكس هذا القرار" إلا أن تغيير موقف أستراليا رسمياً تم مؤخراً.
ترامب يقف وراء موجة نقل السفارات للقدس
كانت الحكومة الأسترالية المحافظة السابقة بقيادة سكوت موريسون قد اعترفت رسمياً عام 2018 بالقدس الغربية عاصمة لإسرائيل، في خروج عن الأعراف الأسترالية المتبعة تجاه الشرق الأوسط على مدى عقود.
وجاء قرار حكومة موريسون آنذاك، عقب اعتراف الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارة بلاده إليها من تل أبيب.
ولا تعترف الغالبية الكاسحة من دول العالم بالقدس أو القدس الغربية كعاصمة لإسرائيل، ولكن إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، حاولت خرق هذا التوجه عبر اعترافها بالقدس الغربية عاصمة لإسرائيل، مخالفة تقليداً أمريكياً قديماً، بعدم نقل السفارة للقدس، رغم مطالبات الكونغرس الدائمة بذلك.
ما هي الدول التي اقتفت أثر ترامب، ومن التي تراجعت؟
واقتفت دول أخرى أثر الولايات المتحدة وقررت نقل سفاراتها للقدس، أغلبها دول من أمريكا اللاتينية مثل البرازيل وغواتيمالا وباراغواي وهندوراس، لكن بعضها على غرار باراغواي وهندوراس تراجعت في وقت لاحق.
وكذلك اتخذت بعض دول أوروبا الشرقية قرارات بنقل سفاراتها للقدس مثل التشيك، التي افتتحت بيت الثقافة التشيكي في القدس، ولكنها لم تنقل سفارتها للقدس حتى الآن، وكذلك صربيا التي لم تنقل سفارتها أيضاً، وأكد رئيسها أن قرار نقل السفارة أمر منوط بالبلاد وليس أحداً غيرها.
وفي 2018، نقل الإعلام العبري عن رئيس البرلمان السلوفاكي أندريه دانكو تصريحاً يفيد بعزم بلاده على نقل سفارتها إلى القدس، لكن بياناً للخارجية السلوفاكية أكد أن موقف بلادها مستند إلى موقف الاتحاد الأوروبي المشترك الذي يدعو إلى حلّ وضع مدينة القدس، عبر مفاوضات مشتركة تفضي إلى اتفاق، باعتبار القدس "عاصمة للدولتين"، ورفض الخطوات السياسية أحادية الجانب، ثم أعلن رئيس وزراء سلوفاكيا بيتر بيليغريني أن بلاده ستفتتح مكتباً للثقافة والتكنولوجيا في القدس.
وفي 2019، قال رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان إن بلاده تستعد لافتتاح مكتب تجاري بصفة دبلوماسية في القدس المحتلة، وتم افتتاحه بالفعل، ولكن في مارس/آذار 2021، قال وزير الخارجية المجري بيتر سيارتو إن خطة بلاده لا تتضمن نقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس، حسبما ورد في تقرير لموقع "الجزيرة.نت".
في 23 مارس/آذار 2019، أعلنت رئيسة الوزراء الرومانية فيوريكا دانسيلا أن بلادها ستنقل سفارتها في إسرائيل إلى القدس، لكن الرئيس الروماني كلاوس يوهانيس نفى اتخاذ بلاده قراراً بنقل السفارة، واتهم رئيسة الوزراء بالجهل.
رئيسة وزراء بريطانيا تخالف التيار الجديد وتريد نقل سفارتها للقدس
ومنذ خروج دونالد ترامب من السلطة، خفت حدة موجة نقل السفارات للقدس، حيث يبدو أنها في انحسار أو هدأت، عبر تراجع معدل الدول التي تتخذ مثل هذا القرار أو عدم تنفيذ بعض الدول لقراراتها السابقة، أو عكس القرار تماماً مثل هندوراس وباراغواي.
ولكن رئيسة الوزراء البريطانية ليز تراس المرأة التي تقدم نفسها كخليفة مارغريت تاتشر والتي بدأت ولايتها بأزمة خانقة، تخالف هذا التيار، وأعلنت عزمها نقل سفارة بلادها بإسرائيل للقدس، رغم الانتقادات المحلية الحادة.
كيف تحولت القدس إلى الورقة الأسهل في يد اليمين في أوروبا وأمريكا اللاتينية؟
على عكس ما يبدو، فإن موجة نقل السفارات للقدس، لا ترتبط فقط بإرضاء إسرائيل أو العداء للفلسطينيين، ولكنها ترتبط أيضاً بالصراع بين اليمين واليسار في الغرب من ناحية، ومحاولات التغزل في بعض الدول للولايات المتحدة وخاصة يمينها الجمهوري، إضافة لموجة العداء للمهاجرين لا سيما العرب والمسلمين.
ففي الوقت الحالي فرض الليبراليون واليساريون أجندتهم الاجتماعية في الولايات المتحدة وأوروبا وبصورة أقل في أمريكا الجنوبية، فلقد تحولت قضايا مثل حقوق المثليين، وبصورة أقل قضايا التغير المناخي لثوابت من ثوابت السياسة في هذه الدول بطريقة لا يجوز المساس بها، أي باتت قضايا غير خلافية (رغم أنه فعلياً جزء من جمهور اليمين غاضب من هذه التوجهات) ولكن إذا عبر اليمين عن انتقاده لهذه التوجهات فسوف يتهم بأنه يتبنى خطاب كراهية.
وضيق هذا مجال المناورة أمام اليمين ليصبح الجزء الأكبر من خطابه السلبي مركزاً على قضايا الهجرة والعداء للعرب وللمسلمين، التي أصبحت مجالاً مفضلاً له، رغم أنها أصلاً قضايا ليست ذات أهمية كبيرة في كثير من الدول التي يسيطر عليها هذا اليمين.
وتظهر هذه المفارقة بشكل واضح في دول أوروبا الشرقية، حيث يمثل العداء للمهاجرين الخطاب السياسي السائد للأحزاب الحاكمة هناك، رغم أن هذه البلدان لا تكاد تستقبل أي مهاجرين، تقريباً (إلا كدول معبر)، وهي أصلاً بلاد متوسطة الدخل، بل هي بلاد طاردة للهجرة، إلى دول أوروبا الغربية.
ويرجع سيطرة خطاب اليمين شبه العنصري في هذه الدول لضعف التقاليد الليبرالية وقيم التسامح باعتبارها الدول الأقل دخلاً في أوروبا والتي خرجت قبل عقود قليلة من استبداد الشيوعية.
من جهة أخرى، فإن أغلب الدول التي نقلت سفارتها للقدس أو تفكر في ذلك لديها علاقة وثيقة مع الولايات المتحدة، مثل دول أوروبا الشرقية التي تعتبر واشنطن حليفها الأساسي في مواجهة روسيا، مقابل تقاعس قوى أوروبا الكبرى مثل ألمانيا وفرنسا عن القيام بهذا الدور.
ولذلك سعت هذه الدول لنقل سفاراتها بإسرائيل إلى القدس، إرضاءً لدونالد ترامب واليمين الجمهوري الأمريكي، ولكن عندما خرج ترامب من السلطة، فإنها لم تعد تتحمس لإتمام الخطوة.
كما أن بعضاً من هذه الدول مثل صربيا، علاقتها شائكة بواشنطن (نظراً لتاريخ بلغراد في حروب يوغسلافيا السابقة، وعلاقتها القوية مع روسيا)، وبالتالي فإنها تحاول إرضاء واشنطن في ملف غير مكلف سياسياً بدلاً من تقديم تنازلات في قضايا حساسة مثل المشكلات المتعلقة بصرب البوسنة أو العلاقة مع موسكو.
تراس تريد استعادة مجد تاتشر اليميني
أما بريطانيا، الدولة المتقدمة الثرية، فإن حزب المحافظين الحاكم أصبح عليه قيود، في التعبير عن أجندته غير المحابية لقضايا التغير المناخي، أو التعبير عن أي قدر من التقليل من حقوق المثليين، وفي الوقت ذاته تقدم ليز تراس نفسها كصقر يميني، وتحاول في هذا السياق تصوير نفسها كامتداد للمرأة الحديدية مارغريت تاتشر.
وتاتشر كانت تشتهر بمواقفها اليمينية المحافظة وشبه العنصرية أحياناً، بما في ذلك التأييد الكامل لسياسة الرئيس الجمهوري الأمريكي الراحل رونالد ريغان، والجفاء تجاه أوروبا، والحزم تجاه العالم الثالث، وتهميش قضايا معاداة العنصرية، حيث كانت متحفظة على فرض عقوبات على النظام العنصري السابق في جنوب إفريقيا.
وها هي تراس و(قبلها بوريس جونسون)، تحاول السير على منوال تاتشر بما يناسب التغييرات العالمية، وذلك عبر اتخاذ مواقف متشددة ضد الهجرة القادمة من إفريقيا والشرق الأوسط، وأخيراً نقل السفارة للقدس، وهي مجالات يستطيع فيها المحافظون أن يعبروا عن توجهاتهم اليمينية دون تكلفة سياسية كبيرة، مقارنة بالتكلفة الأكبر للدخول في مشادات مع الاتحاد الأوروبي مثلما فعل جونسون أو التكلفة الكبيرة لمحاولة تقليل الضرائب لتنشيط الاقتصاد التي كلفت وزير الخزانة البريطاني منصبه بعد أيام من توليه.
وفي أمريكا الجنوبية، يصبح الموضوع أكثر حدة، حيث تعاني هذه البلدان انقساماً حاداً بين يمين شعبوي، قريب تقليدياً من الولايات المتحدة، ويسار معاد لها أو بعيد عنها بدرجات متفاوتة.
وبينما لا يوجد في أمريكا الجنوبية موجات عداء لافتة للعرب أو المهاجرين، ولكن نقل السفارات للقدس يكتسب مغزى خاصاً، في ظل الخلافات بين اليمين واليسار، خاصة أن اليسار اللاتيني له جذور راديكالية وتاريخياً كان مؤيداً لقضايا التحرر الوطني بما فيها قضية فلسطين، ويميل الفقراء واليساريون والملونون في أمريكا اللاتينية للنظر للقضية الفلسطينية من منظور معاناة بلادهم من الاستعمار الإسباني وسياسته العنصرية وعنصرية الطبقات البيضاء الحاكمة الثرية.
كما أن الصراع بين اليمين واليسار في أمريكا اللاتينية أكثر ضراوة من أوروبا، فحرفياً، بعض القوى اليمينية واليسارية في هذه القارة سبق أن تواجهوا في صراعات دموية أو حروب أهلية أو انقلابات عسكرية.
ولذا يمثل نقل السفارة للقدس مثلما فعل رئيس البرازيل جايير بولسونارو، المشهور بمشاداته مع اليساريين وحتى الليبراليين، إرضاء لواشنطن وللتوجهات اليمينية في ملف لا تكلفة كبيرة له في كل الأحوال.
في المقابل، فإن الموقف من القدس يختلف لدى القوى الليبرالية واليسارية، فالقوى اليسارية الأكثر مبدئية مثلما هو الحال في باراغواي وأخيراً أستراليا، فإنها يمكن أن تعكس قرارات الحكومات اليمينية؛ لأنها تراها غير قانونية وغير عادلة.
ولكن القوى الليبرالية الأكثر براغماتية مثل الحزب الديمقراطي في أمريكا، رغم تحفظه على نقل السفارة الأمريكية بإسرائيل للقدس، فإنه لم يعكس القرار بعد تولي الرئيس الأمريكي جو بايدن الحكم (رغم أنه تراجع عن قرارات أقل إثارة للجدل أصدرها ترامب)، وذلك تجنباً لإغضاب تل أبيب وأنصارها، في تأكيد تام للمسار البراغماتي غير الحاسم وغير المبدئي الذي يميز الإدارات الديمقراطية، والذي يجعلها تفضل دوماً دور الحياد السلبي الذي ينتهي إلى أن تصبح شاهد زور على جرائم إسرائيل إن لم تكن شريكاً فيها.
اللوم الأكبر على العرب
ولكن بالتأكيد العامل الرئيسي والمشترك خلف موجة نقل السفارات للقدس هو ضعف رد الفعل العربي.
فرغم كل العداء الكامن للآخر لدى اليمين في الغرب وأمريكا اللاتينية، فإن السمة الرئيسية لأغلب أحزاب اليمين، هي براغماتيتها الشديدة، ولو شعر هذا اليمين بأقل ضرر على مصالح بلاده من مثل هذه القرارات، فإنه لم يكن يتخذها.
وفي هذا الإطار، يقال إن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، قبل اتخاذ القرار بنقل السفارة الأمريكية لدى إسرائيل للقدس، سأل هل سيكون رد الفعل مظاهرات أو عقوبات أو أي ضرر بمصالح أمريكا، فكانت الإجابة بالنفي، الأمر الذي جعله يمضي قدماً فيه.
واليوم في ظل ارتفاع أسعار النفط، والأزمة الأوكرانية، فإن الوزن النسبي للعالمين العربي والإسلامي ازداد بشكل كبير، ولو شعرت الأحزاب اليمينية الغربية بخطر ولو ضئيل على مصالحها جراء مثل هذه التوجهات فإنها سوف تتخلى عنها.