أدت انتصارات أوكرانيا المتتالية في الميدان إلى شكوك كثيفة بشأن قدرة روسيا على حسم الحرب عسكرياً، فهل يضطر فلاديمير بوتين إلى الانسحاب في نهاية المطاف كما فعلت واشنطن في فيتنام قبل نصف قرن؟
إذ يواجه الرئيس الروسي الانتكاسات العسكرية الأخيرة التي يتعرض لها جيشه بالتحدي والمزيد من التصعيد. فبعد نجاحات الجيش الأوكراني هذا الخريف واستعادة خاركيف، أَمَرَ بوتين بالتعبئة السريعة لمئات الآلاف من القوات الإضافية، وأجرى "استفتاءات" في 4 مدن أوكرانية وضمها رسمياً إلى روسيا، وأطلق تهديدات نووية صريحة على نحوٍ متزايد، وشنَّ موجة من الضربات الصاروخية في أنحاء أوكرانيا.
يعزو الكثيرون هذا السلوك إلى السمات المتفرِّدة المرعبة لبوتين ونظامه، ويرون أنَّ الغرب يجب أن يجبر أوكرانيا على الاستسلام، خشية أن تتصاعد الحرب إلى مستويات جديدة من المجازر والدمار.
ماذا حدث في حرب فيتنام؟
وفي هذا السياق، نشرت مجلة Foreign Affairs الأمريكية تحليلاً يعقد مقارنة بين الموقف الروسي الآن والموقف الأمريكي خلال حرب فيتنام قبل نصف قرن، عنوانه "ماذا تكشف نهاية حرب نيكسون عن نهاية حرب بوتين؟".
الحرب مثل الشطرنج لها ثلاث مراحل: بداية ووسط ونهاية. في المرحلة الأولى، تشتبك الأطراف مع بعضها وتنشر قواتها. وفي المرحلة الثانية، تخوض القتال. وفي الثالثة، تُسوِّي تفاصيل النتيجة.
والانتقال إلى نهاية الحرب ليس حدثاً عسكرياً أو سياسياً، بل نفسياً. ويشمل ذلك إقرار المتحاربين بأنَّ الصراع عالق في حالة جمود أو يتجه بشكل لا رجعة فيه في اتجاه واحد. ودائماً ما يكون هذا الإقرار صعباً على الخاسرين؛ إذ يتعين عليهم التخلي عن آمالهم بالنصر والمرور بالمراحل الخمس الشهيرة لنموذج الطبيبة النفسية إليزابيث كوبلر روس للحزن: الإنكار، والغضب، والمساومة، والاكتئاب، والتقبُّل.
ويمكن للمرء أن يرى الكرملين يفعل ذلك بصورة مباشرة حالياً، في ظل نجاح العمليات الأوكرانية في جعل نهاية هذه الحرب أقرب. فالتهديدات النووية الروسية، على سبيل المثال، صورة متصاعدة من الغضب وصورة ضمنية من صور المساومة. وقد تصرَّفت الولايات المتحدة بشكل مشابه حين واجهت الهزيمة في فيتنام قبل أن تقبل في النهاية بالانسحاب من المستنقع، وهو ما يُرجَّح أن تفعله روسيا مستقبلاً في حال بدت الخيارات الأخرى أسوأ.
ففي عام 1965، عزَّزت إدارة الرئيس ليندون جونسون تدخُّل الولايات المتحدة في فيتنام لإنقاذ الحليف الفيتنامي الجنوبي من الهزيمة. فكان التفكير يدور حول أنَّ مزيجاً من الزيادة التدريجية في القصف الجوي والقتال البري سيُقنِع شمال فيتنام بالتخلي عن جهودها لتوحيد البلاد والسماح للنظام في سايغون بالبقاء.
لكنَّ الشيوعيين رفضوا الاستسلام، وبرهنوا أنَّهم أكثر مرونة وقوة بكثير مما كان متوقعاً، ولم يكن لدى واشنطن خطة "ب". وفي عام 1968، أعلن جونسون الغاضب، الذي لم يكن مستعداً للانسحاب؛ لكنَّه أدرك أنَّ الأمريكيين ليس لديهم استعداد للتصعيد أكثر، أنَّه لن يترشَّح لولاية ثانية، ووضع سقفاً لانتشار القوات الأمريكية، وقيَّد عمليات القصف في الشمال، وألقى بالمشكلة إلى خليفته.
دخل ريتشارد نيكسون المكتب البيضاوي في يناير/كانون الثاني 1969 ملتزماً بنفس أهداف سلفه –تسوية تفاوضية تضمن وجود فيتنام جنوبية سالمة وآمنة- لكنَّه كان يدرك أن صبر الأمريكيين على الحرب ينفد.
لذلك، قرَّر هو ومستشاره للأمن القومي، هنري كيسنجر، محاولة دفع هانوي للجلوس على طاولة التفاوض بالعصا والجزرة. وعلى حد وصف رئيس موظفي البيت الأبيض هاري روبنز هالدمان، أراد نيكسون مزج التهديدات باستخدام القوة المفرطة مع وعود المساعدات السخية.
كان التفكير يدور حول أنَّ محاولات الإكراه الأمريكية السابقة لم تنجح؛ لأنَّها لم تُؤخَذ على محمل الجد بما فيه الكفاية. لكنَّ الفريق الجديد يمكن أن يرهب خصومه حتى يخضعوا من خلال إظهار قوته. أبلغ كيسنجر طاقمه بأن يُعِدَّ "ضربة عقابية قاسية" ضد العدو. وفي ربيع العام 1969، منح البيت الأبيض الإذن بشن حملات قصف غير مسبوقة ضد المناطق الشيوعية في لاوس وكمبوديا.
وفي الصيف، هدَّد بهجمات أخرى مستقبلاً. وفي الخريف، أرسل دوريات من قاذفات B-52 المُسلَّحة بقنابل نووية حرارية فوق الغطاء الجليدي بالقطب الشمالي باتجاه الاتحاد السوفييتي بهدف إخافة موسكو كي تكبح جماح هانوي.
لكنَّ استراتيجية نيكسون الأولى هذه فشلت؛ لأنَّ الشيوعيين ببساطة استوعبوا الضربات وتحدوا واشنطن ليروا مدى جدية تهديداتها. وغيَّر الرئيس مساره بعدما أدرك أنَّ تنفيذ تهديداته فعلاً سيجعل الأمور أسوأ وليس أفضل. وبحلول نوفمبر/تشرين الثاني، كان قد تبنّى استراتيجية ثانية للإنقاذ، وتقليص التدخل العسكري الأمريكي تدريجياً مع الإبقاء في نفس الوقت على التزام تجاه النظام القائم في سايغون. وبعد ثلاث سنوات أخرى من الحرب، برز اتفاق يسمح للولايات المتحدة بالانسحاب، واستعادة أسراها، وعدم خيانة أحد حلفائها بصورة رسمية، لكنَّ هذا الاتفاق نفسه مهَّد الطريق لسقوط فيتنام الجنوبية بعد عامين.
ماذا عن الموقف في أوكرانيا؟
وبحسب تحليل مجلة فورين أفيرز الأمريكية، يمكن لأولئك المهتمين بدفع قوة نووية أقوى لمغادرة بلادهم استخلاص ثلاثة دروس من هذه الواقعة. يتعلَّق الأول بأهمية نجاح القتال البري. إذ يحاول الأمريكيون غالباً تحقيق الانتصار في الحرب من خلال إجراءات غير مباشرة مثل العقوبات أو القصف أو التهديدات بإجراءات مستقبلية مدمرة. لكن تبقى الحقيقة أنَّ الحروب في النهاية تُحسَم فوق ساحة المعركة. وقد أبقت المهارة العسكرية والشغف الشيوعيين الفيتناميين في الحرب ضد خصم أقوى، وقادتهم في النهاية إلى الانتصار فيها. والأمر نفسه يحدث الآن في أوكرانيا. وإذا ما استمر التقدم على الأرض، لن يهم شيءٌ آخر.
الدرس الثاني هو مقاومة التنمُّر. لا تتقبَّل القوى الخاسرة الهزيمة بسهولة، خصوصاً القوى القوية التي تمثل الخسارة بالنسبة لها مفاجأة سيئة. ولذا، على المرء أن يتوقع من موسكو أن تغضب بسبب مصيرها الآن، مثلما غضبت واشنطن قبل نصف قرن. إنَّ التهديدات العالية دليل ضعف، وليس قوة، فإذا كان لدى موسكو خيارات جيدة لتغيير الوضع لصالحها، لكانت قد استخدمتها بالفعل.
الدرس الثالث هو التكامل بين القوة والدبلوماسية. وقد عانت الولايات المتحدة كي تفعل ذلك في كوريا، مثلما أشار كيسنجر عام 1957: "عَكَسَ قرارنا بوقف العمليات العسكرية، باستثناء العمليات ذات الطبيعة الدفاعية، في بداية مفاوضات الهدنة قناعتنا بأنَّ عملية التفاوض تتم وفق منطقها المتأصِّل بصورة منفصلة عن الضغوط العسكرية التي تُمارَس. لكنَّنا بوقف العمليات العسكرية أزلنا الحافز الصيني الوحيد للتوصل إلى تسوية، وقد أوجدنا إحباطات عامين من المفاوضات غير الحاسمة".
تجنَّب الجانبان في المراحل الأخيرة من حرب فيتنام هذا الخطأ واستمرا في القتال أثناء التفاوض. ويُرجَّح أن يحدث الأمر نفسه في أوكرانيا، لذا يتعيَّن على الجميع توقُّع زيادة حدة الحرب، وليس تراجعها، مع اقتراب التسوية. إذ سترغب روسيا في تغطية انسحابها بفورة من العنف لتنفيس غضبها من الخسارة وإظهار قوتها المتبقية علانيةً.
ويمكن رؤية هذا النمط في رد بوتين على تفجير أوكرانيا لجسر مضيق كيرتش الاستراتيجي، وستتلو أعمال مماثلة نجاحات أوكرانيا المستقبلية. وقد فعلت الولايات المتحدة ما هو أسوأ من خلال ما يُسمَّى بعمليات "قصف عيد الميلاد" على هانوي وهايفونغ في ديسمبر/كانون الأول 1972، وهي أكثر الغارات تدميراً خلال حرب فيتنام بأكملها.
بإمكان أوكرانيا الحفاظ على ضغوطات عسكرية كافية، وستبدأ روسيا عند نقطة ما في البحث عن مخرج وستبدأ المرحلة النهائية للحرب جدياً. حينها، وليس قبل ذلك، ستبرز الحلول الوسط التي لا مفر منها من جميع الأطراف، وستتم المقايضات الصعبة.
ستنخدش روسيا لكنَّها لن تنهزم، وستخضع لكنَّها لن تُذَل. وكما كان الحال مع البيت الأبيض في مطلع السبعينات، سيكون الكرملين مهووساً بالحفاظ على نفوذه ومصداقيته في الداخل والخارج. ولن تُظهِر أي تسوية استسلاماً نابعاً من الانهيار، بل قراراً متعمداً بالانسحاب بهدف وقف نزيف الدم والثروات ورأس المال السياسي.
وبالنظر إلى مقدار القوة التي ستتبقى لدى روسيا، سيتعين إرجاء بعض الأهداف الأوكرانية، حتى الرئيسية منها. وأقل ما يجب المطالبة به هو العودة إلى مواقع 24 فبراير/شباط، وتوضيح أنَّ موسكو لم تربح مناطق على الأرض من عدوانها. ويمكن لاحقاً البناء على التقدُّم المُحرَز في مجالات أخرى، مثل مصير المناطق المحتلة في دونباس، والوضعية النهائية للقرم، وجرائم الحرب الروسية.
هل يجس بوتين النبض النووي؟
هنالك كل ما يستدعي الاعتقاد بأنَّ روسيا لن تستخدم السلاح النووي في أوكرانيا. والتهديد بفعل ذلك أمر منطقي. فالأمر يخيف الناس، ويثير القلق والحذر بين داعمي أوكرانيا، ويدفع إلى دعوات لمفاوضات مبكرة لدرء الخطر، كل ذلك دون تكلفة. في الواقع، سيؤدي استخدام الأسلحة النووية فعلاً إلى حسابات معاكسة، فيجلب مكاسب قليلة والكثير من التكاليف الإضافية، بما في ذلك الانتقام والازدراء وفقدان الدعم الدولي. وحتى لو استُخدِمَت، فقد لا تُحسِّن موقف روسيا أو تُغيِّر النتيجة النهائية.
ولا تزال الأصناف العديدة من النتائج الكارثية المتوقعة عقب هجوم نووي واسع النطاق –مثل محو مدينة كبرى مثلاً باستخدام قنبلة عملاقة- تمثل رادعاً مضموناً ضد شن موسكو أي هجوم من هذا النوع. بالتالي، فإنَّ الاستخدامات الأقل احتمالاً ستكون على نطاق أصغر، وباستخدام رؤوس حربية ضعيفة من الأسلحة النووية التكتيكية، إما فوق مناطق مهجورة لتمثِّل استعراضاً، أو ضد القوات الأوكرانية خلال القتال.
لكنَّ استخدام أسلحة نووية تكتيكية في ظروف الحرب في أوكرانيا لن تؤثر على الصورة الاستراتيجية الأكبر، في حين ستُسمِّم نفس المناطق التي تحاول روسيا إنقاذها.
وفي كلا السيناريوهين، ستظل أوكرانيا بعد الانفجارات في طريقها لهزيمة روسيا على الأرض، وسيكون داعموها الغربيون أكثر تصميماً على مواصلة دعمها وحرمان موسكو من تحقيق أي شيء يمكن أن يشبه النصر، وسيتلاشى الدعم الأجنبي لروسيا.
الحقيقة المركزية الحالية في هذه الحرب هي أنَّ أحد الجانبين يتفوق على الآخر في ساحة المعركة التقليدية. ويملك الجانب المتقهقر أسلحةً نووية، ومن المرجح أن ينتهي الصراع، مثلما انتهت صراعات مماثلة من قبل، دون أن يكون لهذه الأسلحة أهمية عند تحديد نتيجة الصراع. وقد يتضح أنَّ الافتراضات بخصوص قيمة وفائدة الترسانات النووية الضخمة التي تحتفظ بها القوى الكبرى بهذه التكلفة والجهود والمخاطرة الكبيرة هي واحدة من الضحايا الكثر للحرب في أوكرانيا.
ويخلص تحليل المجلة الأمريكية أن موسكو تواجه مشكلة، وأن غضب الكرملين في مواجهة الهزيمة يُعَد مألوفاً أيضاً، ويشبه الطريقة التي تعاملت بها إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق، ريتشارد نيكسون، مع حرب فيتنام قبل نصف قرن. فلم ينجح الترهيب والقصف والتهديدات النووية آنذاك، وتقبَّلت واشنطن في نهاية المطاف الواقع وانسحبت من الصراع، فهل من المحتمل أن تفعل موسكو الأمر ذاته في أوكرانيا؟
فبالرغم من المشكلات التي يواجهها بوتين اليوم، يبدو أنَّه يعتقد أنَّه إذا ما استطاع الصمود حتى الشتاء، سيكون كل شيء على ما يرام. إذ سيسهم مجنَّدوه الجدد في استقرار ساحة المعركة، وستتباطأ وتيرة العمليات العسكرية، وستخيف تهديداته بالتصعيد الجميع، وستتزايد المعارضة الغربية للحرب في ظل المعاناة النجمة عن ارتفاع أسعار الطاقة والتضخم. ويأمل بوتين أن يهيِّئ كل ذلك الأرضية أمام صراع مُجمَّد على نحوٍ مستمر أو تسوية تفاوضية سخية بما يكفي كي تسمح له بالادعاء بتحقيق نصر.
لكن إذا استطاعت واشنطن وأوروبا الصمود أمام التحدي الروسي وحافظت أوكرانيا على الضغط العسكري على الأرض، فعلى الأرجح سيفشل مخطط بوتين. ويمكن للعمليات التقليدية الدؤوبة أن تستمر لدفع الخطوط الروسية إلى الوراء وإجبار موسكو على قبول أقل خياراتها سوءاً: تسوية تفاوضية تعيد الوضع الراهن السابق الذي كان قائماً قبل 24 فبراير/شباط على الأرض. وبمجرد أن تتكشَّف الحقيقة على الجانب الروسي وتصبح هذه التسوية ممكنة، يمكن لواشنطن العمل مع كييف وأوروبا لاستغلالها وإنهاء القتال.