تكثف أوكرانيا ضغوطها العسكرية في الجنوب بهدف تكرار ما حققته في الشرق عندما أجبرت القوات الروسية على الانسحاب من خاركيف، فهل تنسحب روسيا من خيرسون قبل نهاية العام كما تطمح أمريكا؟
فبعد أن نجح الهجوم الخاطف المضاد، الذي شنته أوكرانيا منذ نهاية أغسطس/آب الماضي، في إجبار القوات الروسية على الانسحاب من مدينة خاركيف في الشمال الشرقي، تسعى كييف الآن إلى تكرار نفس الانتصار في الأقاليم الجنوبية، وبخاصة مدينة خيرسون.
الهجوم الأوكراني المضاد جاء بعد أكثر من 6 أشهر من بداية الحرب، التي تصفها روسيا بأنها "عملية عسكرية خاصة" بينما يصفها الغرب بأنها "غزو"، وتقول موسكو إن ما حققته كييف من تقدم ميداني، هو الأول من نوعه، يمثل "ضربة مباشرة من الغرب ضد روسيا".
خيرسون.. الهدف الأوكراني القادم
تقع خيرسون في جنوب أوكرانيا وهي واحدة من 4 مدن أعلنت روسيا ضمها رسميا بعد "استفتاءات" أجريت في تلك المدن وجاءت نتيجتها لصالح الانضمام إلى الاتحاد الروسي بأغلبية ساحقة، كما تعتبر مدينة خيرسون هي الوحيدة بين تلك المناطق التي تسيطر عليها القوات الروسية بشكل كامل. فالمناطق الثلاث الأخرى، لوغانسك ودونيتسك وزابوروجيا، لا تسيطر عليها روسيا بشكل كامل، وتشهد جميعها معارك دامية.
وينصب التركيز الرئيسي للهجوم الأوكراني حالياً على خيرسون، وهي الأكثر أهمية من الناحية الاستراتيجية، من بين المناطق الأخرى التي تسيطر عليها القوات الروسية.
إذ تشرف مدينة خيرسون، المدينة الكبرى الوحيدة التي استولت عليها روسيا كاملة منذ بداية الحرب، في فبراير/شباط الماضي، على الطريق البري الوحيد المؤدي إلى شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا عام 2014 ومصب نهر دنيبرو الذي يقسم أوكرانيا.
ومنذ مطلع أكتوبر/تشرين الأول، بدأت القوات الأوكرانية اقتحام خطوط المواجهة في المنطقة في أكبر تقدم لها في الجنوب منذ بداية الحرب، بهدف قطع الإمدادات وطرق الهروب عبر النهر عن القوات الروسية.
وأعلنت أوكرانيا، الجمعة 14 أكتوبر/تشرين الأول، أن قواتها المسلحة استعادت السيطرة على 600 تجمع سكني في الشهر المنصرم، بينها 75 في خيرسون و43 في دونيتسك في الشرق، حيث تقع أوبتين وإيفانجراد. وذكرت وزارة إعادة دمج الأراضي المحتلة مؤقتاً عبر موقعها الإلكتروني "لقد زادت مساحة الأراضي الأوكرانية المحررة بشكل كبير". لكن لم يتسن لرويترز التأكد على الفور من التقارير المتعلقة بالتطورات في ساحات المعارك.
كان المسؤولون الأمريكيون والأوكرانيون قد أعلنوا منذ بداية الشهر الماضي أن "تحرير" خيرسون من القوات الروسية يمثل هدفاً استراتيجياً "يأملون في إنجازه قبل نهاية العام"، بحسب تقرير لشبكة CNN الأمريكية.
السكرتير الإعلامي للبنتاغون، الجنرال بات رايدن، كان قد قال للصحفيين إن "ما رأيناه في منطقة خيرسون أولاً هو عمليات هجومية متقدمة تقوم بها القوات الأوكرانية. إنهم يواصلون التقدم ونحن على دراية بأنهم استعادوا السيطرة على بعض القرى".
وقال مسؤولون أوكرانيون للشبكة الأمريكية أيضاً إن الهدف هو استعادة جميع المناطق شمال وغرب نهر دنيبرو على الأقل قبل نهاية العام الجاري ودخول فصل الشتاء، وهذا لا يشمل فقط مدينة خيرسون وإنما أيضاً مدينة نوفا كاخوفكا، مقر محطة هامة لإنتاج الطاقة الكهربائية من خلال السدود الهيدروليكية، إضافة إلى القناة التي تزود شبه جزيرة القرم بأغلب احتياجاتها من المياه العذبة.
ماذا وراء الخطوة الروسية بإخلاء المدنيين؟
اقترح الحاكم الذي عينته روسيا لإقليم خيرسون في جنوب أوكرانيا على السكان أن يأخذوا أطفالهم ويغادروا منازلهم حفاظاً على سلامتهم في واحدة من أوضح المؤشرات حتى الآن على أن موسكو تفقد قبضتها على الأراضي التي تقول إنها ضمتها.
وأفادت وكالة تاس الروسية للأنباء بأنه كان من المتوقع وصول أول مجموعة من المدنيين الفارين من خيرسون إلى إقليم روستوف الروسي الجمعة.
كان فلاديمير سالدو، رئيس إدارة خيرسون، قد قال في رسالة مصورة الخميس 13 أكتوبر/ تشرين الأول: "كل يوم تتعرض مدن خيرسون لهجمات صاروخية. لذلك، قررت قيادة خيرسون منح عائلات الإقليم خيار السفر إلى مناطق أخرى من الاتحاد الروسي للراحة والدراسة".
وأضاف سالدو: "نقترح على جميع سكان خيرسون، إذا رغبوا في حماية أنفسهم من عواقب الضربات الصاروخية… الذهاب إلى مناطق أخرى". وتابع أن الناس عليهم "المغادرة مع أطفالهم"، مشيراً إلى أن النداء بالإجلاء يستهدف في المقام الأول من يعيشون على الضفة الغربية لنهر دنيبرو، أي عاصمة الإقليم، المدينة الأوكرانية الرئيسية الوحيدة التي سيطرت عليها روسيا دون أن تتعرض لأضرار جسيمة منذ بداية الحرب.
لكن بعد لحظات من صدور رسالة الحاكم سالدو، أصدر نائبه كيريل ستريموسوف بياناً نفى فيه وجود أي خطة للإجلاء، وقال ستريموسوف في بيانه "ليست هناك ولا يمكن أن تكون هناك خطة لإخلاء إقليم خيرسون… ولا أحد يخطط لسحب القوات الروسية من خيرسون".
لكن على أية حال، أطلقت هذه الدعوات لإخلاء المدنيين من خيرسون شلالاً من التساؤلات بشأن دوافعها، خصوصاً أنها إحدى المناطق الأربع التي أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضمها في احتفالات ضخمة قبل أقل من أسبوعين، كما أنها المنطقة الوحيدة تقريباً التي تسيطر عليها روسيا بشكل كامل.
كما أن روسيا حشدت العديد من أفضل قواتها تدريباً لتشديد قبضتها على الضفة الغربية لخيرسون، ولا يمكن إمداد هذه القوات إلا عبر النهر الذي يبلغ عرضه عدة كيلومترات ولا يمكن عبوره سوى من خلال عدد قليل من الجسور.
وفي الأسبوعين الماضيين، استعادت أوكرانيا السيطرة على مساحة شاسعة من الأراضي، مع توغل قواتها باتجاه سد نوفا كاخوفكا الذي يبلغ طوله ثلاثة كيلومترات والذي يشكل أحد آخر المعابر على النهر.
وذكرت وكالة تاس نقلاً عن حاكم إقليم روستوف الروسي المتاخم للأراضي الأوكرانية التي أعلنت روسيا ضمها أن الإقليم مستعد لاستضافة أي شخص يفضل مغادرة خيرسون، متوقعاً وصول المجموعة الأولى الجمعة. لكن نزوح المدنيين من خيرسون يمثل صفعة لإعلان روسيا ضمها.
هل يمكن أن تضطر روسيا للانسحاب من خيرسون فعلاً؟
يمكن القول إن المواجهة الحالية في جبهة خيرسون، الجبهة الجنوبية في أوكرانيا، تمثل تحولاً جديداً في الحرب، التي شهدت تحولات كبيرة متعددة منذ بدأت. فالحرب بدأت بضربات صاروخية وجوية روسية شاملة استهدفت الدفاعات الجوية والقواعد الرئيسية لأوكرانيا، ثم اندفعت عشرات الآلاف من القوات البرية وطوابير المدرعات الروسية لتشق طريقها وتحاصر جميع المدن الأوكرانية الكبرى شرقاً وشمالاً وجنوباً وغرباً، بما فيها العاصمة كييف.
وفي أبريل/نيسان، أعلنت روسيا سحب قواتها من الأقاليم الغربية لأوكرانيا، وركزت عملياتها العسكرية على الأقاليم الشرقية والشمالية والجنوبية، وأعلن بوتين أن الهدف هو "تحرير" إقليم دونباس، الذي يضم منطقتي لوغانسك ودونيتسك الانفصاليتين واللتين كانتا قد أعلنتا الاستقلال عن أوكرانيا عام 2014.
لكن التقدم الروسي في الميدان بدأ في التراجع منذ مطلع سبتمبر/أيلول الماضي، حينما أجبر الهجوم الأوكراني المضاد القوات الروسية على الانسحاب من خاركيف، وهي أكبر هزيمة تتعرض لها موسكو في الميدان منذ بداية الحرب، ونتج عنها تعرض الجنرالات الروس لانتقادات عنيفة، ودخلت الحرب مفترق طرق شهد عدة أحداث كبرى.
أكبر تلك الأحداث كان خطوة "الاستفتاءات" والضم الروسي لما يمثل أكثر من 15% من مساحة أوكرانيا، دون أن تكون المناطق الأربع، باستثناء مدينة خيرسون، تحت السيطرة الكاملة للقوات الروسية، لكن تلك الخطوة التي رفضها الغرب وأصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً بإدانتها، لم توقف التقدم الأوكراني في الميدان، وهو التقدم الحاصل نتيجة للدعم الغربي العسكري، بحسب الاتهامات الروسية والتأكيدات الغربية.
وكان أليكساندر دوغين، الفيلسوف الروسي الملقب بأنه "عقل بوتين"، قد اعتبر الانتصار الأوكراني في خاركيف بأنه "نقطة التحول"، التي تعني "أننا وصلنا إلى نقطة اللاعودة في تاريخ العملية العسكرية الخاصة بأكمله".
إذ وصف "عقل بوتين" الهجوم المضاد للقوات الأوكرانية في خاركيف بأنه "ضربة مباشرة من الغرب ضد روسيا": "يعلم الجميع أن هذا الهجوم تم تنظيمه وإعداده وتجهيزه من قبل القيادة العسكرية للولايات المتحدة والناتو، وتم تحت إشرافهما المباشر. ولم يتم ذلك فقط من خلال استخدام المعدات العسكرية للناتو، ولكن أيضاً عبر المشاركة المباشرة لمخابرات الفضاء العسكرية الغربية والمرتزقة والمدربين".
والسيناريو نفسه أكده الأمريكيون أنفسهم، إذ أرجعوا الأسباب الرئيسية لمكاسب القوات الأوكرانية على الأرض إلى تدفق المعونات العسكرية الغربية، وإمداد الأوكرانيين بالمعلومات الاستخباراتية الخاصة بمناطق الضعف لدى القوات الروسية، إضافة إلى إعادة تنظيم صفوف الجيش الأوكراني بصورة أفضل، بحسب تقرير لموقع Vox الأمريكي.
وقال جون سبنسر، رئيس قسم شؤون الحرب الحضرية في معهد الحرب الحديثة التابع لكلية ويست بوينت العسكرية الأمريكية، للموقع: "ما حققته القوات الأوكرانية هو نتيجة لأشهر من التخطيط، إضافة إلى أسابيع من الاستفادة من مسار الحرب على الأرض من جانب تلك القوات. الواضح أن هناك قوات أوكرانية أخرى كانت تتحين فرصة وجود أي ثغرات في الخطوط الأمامية للقوات الروسية لاستغلالها وتحقيق تلك الانتصارات الخاطفة".
والإشارة هنا تتعلق بجبهتَي خيرسون في الجنوب، وخاركيف في الشرق، إذ كانت القوات الروسية تكثف وجودها وتحصن دفاعاتها في الجبهة الأولى، لكن الأوكرانيين وضعوا ثقلهم العسكري على الجبهة الثانية، وهو ما فاجأ القوات الروسية في منطقة خاركيف، فانسحبت سريعاً حتى لا يتم تطويقها من جانب الأوكرانيين، فهل يتكرر السيناريو نفسه في خيرسون؟
على الرغم أنه لا أحد يمكنه أن يتوقع الإجابة عن هذا السؤال، نظراً لغياب المعلومات الموثوقة عن سير العمليات العسكرية على الأرض، إلا أن الواضح هو أن الأوكرانيين يضغطون بالفعل لإجبار القوات الروسية في خيرسون على الانسحاب، وهو ما سيمثل بلا شك ضربة أكثر قسوة للرئيس الروسي وقادة جيشه.