في مدينة القدس المحتلة، وتحديداً على حدودها الشرقية، تتلبد السماء بسحب من الغاز المسيل للدموع، مع رائحة المياه العادمة، في مخيم شعفاط للاجئين الفلسطينيين.
هناك تفرض قوات الاحتلال الإسرائيلي حصاراً مشدداً يدخل يومه الخامس، رداً على عملية حاجز شعفاط العسكري، التي نفّذها مقاوم فلسطيني قبل أيام، والتي أدت إلى مقتل مجندة إسرائيلية، وإصابة 3 عناصر أخرى.
وتواصل قوات الاحتلال اقتحام مخيم شعفاط بأعداد قوات كبيرة من جيشها بحثاً عن منفذ العملية "عدي التميمي"، البالغ من العمر 22 عاماً، والذي تشير التقارير الصحفية الإسرائيلية بعدم انتمائه لأي فصيل أو تنظيم سياسي.
ووفقاً للتحقيقات، تبيّن أن التميمي قد استقل سيارة مع 4 شبان آخرين، وقال إنه يريد الذهاب إلى مستوطنة "موديعين"، وعند وصوله للحاجز، ترجل من السيارة وأطلق 7 طلقات ثم اختفى كالشبح من المكان.
وكعقاب جماعي تحول سكان مخيم شعفاط، الذين يفوق عددهم 100 ألف، إلى سجناء لدى قوات الاحتلال.
ما هو مخيم شعفاط؟
مخيم شعفاط، أو مخيم "عناتا" كما يطلق البعض عليه أحياناً، هو أحد المخيمات الواقعة ضمن حدود القدس في الضفة الغربية، وتبلغ مساحته الحالية ما يقرب من 0,2 كيلومتر مربع، شمال القدس تحديداً.
نشأ المخيم نتيجة لحركة النزوح للاجئين الفلسطينيين منذ عام 1965، ووفقاً لوكالة الأمم المتحدة للإغاثة "الأونروا" فقد تأسس المخيم فوق قطعة من الأرض استأجرتها الوكالة من الحكومة الأردنية، حيث كانت أرضاً تابعة للملك الأردني حسين بن عبد الله كان قد استأجرها من أصحابها لـ99 عاماً، وبدأ ترحيل المواطنين إليه عام 1966، أي قبل عام واحد من النكسة.
داخل تلك المساحة الجغرافية المحدودة للمخيم، وبجانب الحواجز العسكرية المشددة للاحتلال التي تحاوط المخيم، يعيش ما بين 120 إلى 140 ألف فلسطيني.
تعود أصول ساكني المخيم وفق مصادر توثيقية، إلى 55 قرية فلسطينية هُجّرت عام 1948 تابعة لمناطق القدس، واللد، ويافا، والرملة.
وبحسب الوكالة، مخيم شعفاط هو المخيم الوحيد في الضفة الغربية الذي يحمل قاطنوه الهوية الإسرائيلية (دون الجنسية)، أو ما يسمى بـ"الهوية المقدسية"، على خلاف هوية فلسطينيي الداخل المحتل، وهو ما يضمن لهم حقوق الإقامة في القدس ويجعلهم مؤهلين للحصول على بعض الخدمات الاجتماعية الإسرائيلية، بما في ذلك الرعاية الصحية.
مع ذلك، يحاصر الاحتلال عائلات المخيم بجدار الفصل العنصري من 3 جهات، ويتحكم الاحتلال بالدخول والخروج من المخيم عبر حاجز عسكري.
تاريخ المقاومة وعواقبها على سكانه
في خضم الانتفاضة الثانية التي اندلعت عام 2000، نصب الاحتلال حاجزاً بشكل مؤقت، معتمداً على إقامة دوريات عسكرية وتفتيش للمركبات والأشخاص بشكل دوري، إلى أن تحول لحاجز دائم.
وفي عام 2009 حوّلت سلطات الاحتلال الحاجز إلى معبر دولي بشكل رسمي، بذلك استطاعت أن تفصل الأراضي التابعة لبلدية الاحتلال بالقدس عن مناطق الضفة الغربية.
وتوسعت أعمال خنق الفلسطينيين داخل المخيم ببناء غرف تفتيش ومسارات للمركبات وأبراج مراقبة وبوابات إلكترونية، ما أفقد ساكنيه أبسط حقوق الحضارة الحديثة كالمواطنة، وتحول سكان المخيم إلى نزلاء في سجن معزول بالجدار عن الضفة الغربية، وعن القدس المحتلة بالحاجز.
ويتكون الحاجز من 3 مسارات رئيسية، الأول للمشاة عبر بوابات فحص إلكتروني، والمسار الثاني مخصص للحافلات، والثالث للمركبات الخاصة.
ويسيطر جنود الاحتلال على التحكم في هذه المسارات ومواعيد فتحها، ففي بعض الأيام لا يتم فتح غير مسار واحد، ويتمّ التدقيق في الهويات الشخصية، والكشف على لوحة تسجيل السيارات، ما يسبب أزمة خانقة على الحاجز، ويقف عائقاً عن وصول آلاف المقدسيين لمناطق أعمالهم في القدس وأراضي 48.
وذكرت وكالة سند في تقرير خاص، بأن ما يقارب 20 ألف مقدسي يمرون عبر الحاجز بشكل يومي متوجهين لأعمالهم، إضافة لنحو 6 آلاف طالب يتوجهون لمدارسهم خارج حدود الجدار عبر حاجز مخيم شعفاط. ويجب الذكر أن حوالي 70% من سكان المخيم في القطاع الخاص الإسرائيلي.
ويوجد كل هذا العدد من المواطنين على الحاجز ما بين الساعة الرابعة فجراً وحتى الثامنة صباحاً؛ ما يشكّل صعوبة الوصول للعمل أو المدرسة بالوقت المناسب. ويعد إغلاق حاجز المخيم، تحويلاً فعلياً للسكان إلى سجناء.
الحياة داخل المخيم
بعيداً عن الكثافة السكانية العالية، والمشاكل الذي يعانيها المخيم بسبب الجدار العنصري، يعاني المخيم بشدة من إهمال السلطة الفلسطينية وعدم اهتمام بلدية القدس وعدم اكتراث "الأونروا" له، حيث تعتقد المنظمة أن الأوضاع المادية لأهالي المخيم جيّدة ولا يحتاج إلى خدماتها، بينما لا تعترف بلدية الاحتلال في القدس جغرافياً بسكان المخيم، رغم جنيها الضرائب من السكان وفرض الغرامات ومصادرة البضائع منه، إلا أنها لا توفر لهم الحد الأدنى من الخدمات العامة.
يشهد المخيم نقصاً حاداً في الخدمات والبنية التحتية، وفقاً لوكالة الأونروا نفسها، لا توجد شبكة صرف صحي كافية بجانب بنية تحتية منهكة.
ويرى مهندسو ومخططو المدن أن المخيم يتميز بانعدام أمن السكن بسبب تجاهل أنظمة الوكالة الفنية وأنظمة السلامة الخاصة بالمباني؛ حيث يتم إنشاء مساكن من 3 أو 4 طوابق فوق أساسات وضعت في الأصل لتحمل مبنى من طابق واحد.
ويأتي هذا التمدد العمراني العمودي نتيجة لتوجه العديد من المقدسيين للسكن بالمخيم بسبب سياسات تضييق الاحتلال الممنهجة، والذي منع تراخيص البناء عن السكان في مركز مدينة القدس وأحيائها، بالإضافة إلى تسليط سياسة الهدم الدائمة.
ولا يملك المخيم إلا 4 مدارس، منها 2 خاصتان، بجانب مركز صحي واحد، ووحدة علاج طبيعي واحدة.
تاريخ المخيم في المقاومة
رغم ظلامية المشهد وسوداويته، يملك المخيم تاريخ مقاومة حافلاً، يمتاز بتنفيذ العمليات البطولية منذ بداية الصراع مع الاحتلال.
حيث ذكرت وكالة سند، أن عدد شهداء مخيم شعفاط منذ الانتفاضة الأولى وصل إلى 70 شهيداً، كان من أبرز أسمائهم الشهيد إبراهيم العكاري الذي نفذ عملية دهس وطعن في حي الشيخ جراح عام 2014، والتي أسفرت عن مقتل جندي وإصابة 10 آخرين.
بالإضافة إلى محمد سعيد علي، الملقب بـ"كوماندوز السكاكين"، وهذا بعد تنفيذه عملية طعن في باب العامود عام 2015، أسفرت عن إصابة 3 من جنود "اليسّام"، والشهيد فادي أبو شخيدم الذي نفذ عملية إطلاق نار عند أبواب المسجد الأقصى عام 2021، التي أسفرت عن مقتل مستوطن وإصابة 3 آخرين.
وظهر دور المخيم جليّاً خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى، كما سجّل عدداً من الشهداء والمعتقلين خلال الانتفاضة الثانية، وبلغ عدد الأسرى في سجون الاحتلال من أبناء مخيم شعفاط إلى ما يقارب 270 أسيراً، منهم حوالي 100 أسير لم تتعد أعمارهم السن القانونية.
منذ سنوات يتبع الاحتلال وسلطاته أساليب العقاب الجماعي بحقّ سكان المخيم، مضيقاً على جميع الأهالي لدفعهم للرحيل عنه، تمهيداً لهدمه وإنشاء مستوطنة مكانه، حيث صادر مئات الدونمات من منطقة "راس شحادة" و"راس خميس" لصالح مشاريع استيطانية.