عندما ارتفعت أسعار الحبوب بصورة جنونية مسببة أزمة حادة في الغذاء، انصبت الاتهامات على حرب روسيا في أوكرانيا، لكن انخفاض تلك الأسعار رغم استمرار الحرب يطرح سؤالاً هاماً بشأن "المذنب" الأصلي.
فهبوط أسعار السلع العالمية مؤخراً رغم استمرار الحرب، بل ودخولها مراحل أكثر عنفاً وتدميراً، يعكس مدى توافر المواد الغذائية ويكشف أن حالة الذعر وتقارير الجوع لم تكن في محلها، رغم أن المعاناة الناجمة عنها حقيقية وهائلة، وبخاصة في بعض الدول العربية مثل مصر.
إذ إنه بعد أن بدأ الهجوم الروسي على أوكرانيا في فبراير/شباط الماضي، وهو ما تصفه موسكو بأنه عملية عسكرية خاصة بينما يصفه الغرب بأنه غزو، ظهرت تقارير متعددة حول أزمة نقص المعروض من القمح في السوق العالمية، وهو ما لم يكن صحيحاً، بحسب تحليل لمجلة Foreign Policy الأمريكية عنوانه "حل أزمة الغذاء العالمية ليس توفير المزيد من الغذاء"، يرصد السبب الحقيقي للأزمة.
من أين جاءت أزمة الغذاء حول العالم؟
كانت أزمة سلاسل الإمداد الإقليمية حقيقية، حيث اضطرت الدول المستوردة للحبوب من موانئ البحر الأسود إلى طلب احتياجاتها من أماكن بعيدة، ما أدى إلى اضطراب سلاسل التوريد. لكن لم يكن هناك نقص عالمي في القمح. بالعكس، كان هناك ما يكفي لإطعام الجميع، بفضل المحاصيل المسجلة في الهند وأستراليا وأماكن أخرى. وكان المطلوب هو توفير الأموال اللازمة لشرائه وتجهيز السفن لنقله.
وتشير التغيرات المناخية وحالات الطوارئ المتعلقة بالسياسة والصحة العامة إلى أنَّ العالم سيواصل مواجهة أزمات في سلاسل إمداد وتوريد الغذاء، ومع ذلك، يمكن ضمان الأمن الغذائي العالمي حتى في الأوقات المضطربة. وفي سبيل تحقيق ذلك، يجب علينا التخلي عن الأفكار التقليدية فيما يخص آلية عمل النظام الغذائي وأنماط تجارة الغذاء الراسخة منذ قرون -التي تعتمد اعتماداً كبيراً على الزراعة الصناعية وتركت الدول الفقيرة معتمدة بشكل غير صحي على الواردات- بدون أي وسيلة أخرى لإطعام نفسها عندما تتعثر التجارة العالمية.
نشأت الزراعة الصناعية في الولايات المتحدة الأمريكية وفي المستعمرات الأوروبية السابقة الأخرى، لكنها انتقلت الآن إلى جميع أنحاء العالم. ويجدر دراسة الزراعة الصناعية في محيطها المحلي لفهم كيف يمكن للسياسة إما ترسيخها أو فتح المجال لظهور إمكانات جديدة لتجنب الأزمات المستقبلية.
كانت الزراعة الصناعية قد ظهرت لتلبية احتياجات مجموعة معينة، طبقة الأثرياء ملاك الأراضي المستعمرة. على الرغم من الصورة القروية البسيطة، التي يرسمها أصحاب الأراضي الأمريكيون، كانت ملكية الأرض مرتبطة دائماً بالطبقة المتوسطة وما فوقها. سيطر المضاربون على الأراضي –الذين يمتلكون مساحات شاسعة- على السياسات المتعلقة بالأراضي في الولايات المتحدة الأمريكية على حساب المزارعين التقليديين، مثل شعب "Wampanoag" وقبائل "Powhatan" -بالإضافة إلى المزارعين المستأجرين في القرن الـ20.
واليوم، حوالي 95% من المزارع الأمريكية هي مزارع عائلية تدر أرباحاً خيالية. بلغ متوسط دخل العائلة الأمريكية العاملة بالزراعة أضعاف نظرائها من العائلات غير الزراعية منذ عام 1998.
تختلف سياسات الأراضي في كل دولة عن الأخرى، لكنها تتشارك أوجه تشابه مهمة. تمتلك كل بلد تقريباً عدداً كبيراً من ملاك الأراضي الزراعية، الذين ينتمون في بعض الأحيان إلى الطبقة الاستعمارية قوية النفوذ، كما هو الحال في الولايات المتحدة أو أستراليا أو البرازيل.
وفي أحيان أخرى، يكون أصحاب الأراضي الزراعية من كبار ملاك الأراضي التقليديين خلال فترة ما قبل الحقبة الاستعمارية، كما هو الحال في معظم جنوب آسيا والصين قبل الثورة أو ينتمون إلى الطبقة الأرستقراطية العسكرية، التي لا تزال تمتلك الكثير من أراضي أوروبا.
كبار ملاك الأراضي الزراعية
على غرار المزارعين في الدول الأخرى، لا يزال المزارعون الأمريكيون يتمتعون بنفوذ كبير ويجذبون مليارات الدولارات في شكل دعم فيدرالي. إذ تُقدّم محفزات لمالكي الأراضي لمراقبة الحفاظ على سياسات النظام الغذائي القائم والترويج للأفكار التي تحقق لهم أرباحاً مالية فقط.
وتروج هذه السياسات في أوقات كثيرة إلى تعزيز الإنتاج الزائد وتغمر الأسواق العالمية بالغذاء الرخيص الثمن، الأمر الذي يقوّض المزارعين الآخرين في جميع أنحاء العالم. ومن المفارقات أنَّ سياسات الإنتاج الزائد عن الحاجة لم تؤدِ إلى درء الجوع على مستوى العالم في أوقات الأزمات، فبينما تتوافر الكميات الكافية من الغذاء، فإنَّها تتدفق ببساطة إلى حقول التسمين وأماكن أخرى بدلاً من بطون الجياع.
في الواقع، ظهرت تجارة الحبوب عبر البحر الأسود -أي تدفق القمح من روسيا وأوكرانيا إلى مختلف أنحاء العالم- في سياق حققت فيه الدول الكبرى استفادة كبيرة من الدول الفقيرة التي لديها أنظمة غذائية غير متطورة.
وتصب التبعية الغذائية في مصلحة الدول العظمى، لأنَّها تخلق حلفاء منصاعين. لكن هذا ليس كل شيء، حيث تستخدم الدول العظمى صادرات الحبوب أداة لإدارة سياساتها الداخلية. وقد شكَّل إعطاء الأراضي الخصبة القابلة لزراعة الحبوب للمؤيدين السياسيين حجر زاوية في سياسة الدول الإمبراطورية منذ مئات السنين.
اعتادت الولايات المتحدة إعطاء الأولوية للمستوطنين البيض فيما يخص الاستحواذ على الأراضي المحتلة حديثاً. وتركزت مشروعات روسيا، التي يعود تاريخها على الأقل إلى عصر الإمبراطورة كاترين العظيمة، على احتلال منطقة البحر الأسود -المعروفة بأنَّها "سلة خبز العالم"- بشعوبها المختلفة، التي اعتقدت أنهم سيظلون موالين لها.
في البداية، قد يبدو خيار شراء المواد الغذائية المستوردة بسعر رخيص صفقة رائعة للدول الفقيرة، إذ تصبح الأراضي المحلية والأيدي العاملة متاحة للاستفادة منها في أشياء أخرى. في الواقع، تعتبر التجارة الدولية في الأغذية ممارسة جيدة بوجهٍ عام يمكن من خلالها تأمين وفرة إنتاج تحمي العالم في حال حدوث خسائر في المحاصيل أو أي كوارث أخرى. لكن بريطانيا والولايات المتحدة وروسيا والقوى الاستعمارية الأخرى لم تستخدم التجارة الدولية في الأغذية بهذه الطريقة.
بدلاً من ذلك، استخدموها لخلق التبعية والفوز بشروط تفاوضية مواتية مع الدول الأخرى. وتوسع هذا النهج خلال القرن الـ20 ليشمل برامج المساعدات الإنسانية، التي كانت بمثابة أداة للتحكم في الأسعار لاستيعاب تخمة الإمدادات الأمريكية والسياسات التجارية، التي تميل إلى ترسيخ اعتمادية الدول الفقيرة على الدول الغنية فيما يخص إمدادات الغذاء.
وبالمثل، تطورت صادرات حبوب البحر الأسود في ظل حكم القياصرة الروس إلى دبلوماسية سوفييتية للحبوب. بعد استقلال أوكرانيا، اعتمد الشعب الأوكراني بصورة طبيعية على صادراته الزراعية لتحقيق الإيرادات وإدرار دخل لبلاده.
المواد الغذائية أداة للسيطرة السياسية
لا تُمثّل تجارة الغذاء مشكلة في حد ذاتها. كانت أوكرانيا سلة خبز للمناطق القاحلة حول منطقة البحر المتوسط منذ ما يقرب من 3 آلاف عام. لكن التجارة الدولية بالأغذية بصورتها الموجودة حالياً -أداة للدول القوية لخلق التبعية وإدارة سياساتها الداخلية الخاصة بها- تحد من قدرة الدول المستوردة على بناء أنظمتها الغذائية الخاصة بها. يساعد ذلك في تفسير سبَّب مواجهة العديد من الدول الإفريقية والشرق أوسطية لخطر انعدام الأمن الغذائي في أعقاب التدخل الروسي في أوكرانيا.
تحتل زراعة الحبوب والزراعة الآلية مكانة كبيرة في الأنظمة الغذائية، لكنها ليست إطلاقاً الطريقة الوحيدة لزراعة الغذاء. يتطلب إطعام جميع سكان العالم على نحو مستدام تنويع أنظمة الزراعة بما يتجاوز نظام الغذاء الحالي القائم على عدد قليل من سلال الخبز الإقليمية مثل البحر الأسود وصادرات حبوب أمريكا الشمالية والمدن المنتجة لفول الصويا في البرازيل. سيبدو نظام الغذاء الفعال حقاً مختلفاً تماماً.
تُعتبر الحراجة الزراعية -وهو نظام زراعي ينطوي على استخدام البساتين والغابات لزراعة الغذاء- خياراً قابلاً للتطبيق لإنتاج الغذاء على نطاق واسع. يميل معظم الناس حالياً إلى اعتبار الأشجار مصدراً للفاكهة والأخشاب بدلاً من النظر إليها باعتبارها مصدراً للمواد الغذائية الأساسية مثل الزيوت والبروتين.
فقد استخدم الناس في جميع أنحاء العالم محاصيل أشجار البلوط وفاكهة الخبز وموز الجنة ونخيل الزيت -وغيرها من الأشجار عالية الإنتاجية- للحصول على مصدر مستدام للسعرات الحرارية الأساسية على مدار آلاف السنين.
دمجت قبيلتا شيروكي وكاتاوبا ومزارعون آخرون من قبائل الأمريكيين الأصليين في منطقة أبالاشيا شرقي الولايات المتحدة زراعة الذرة ونبات الاسكواش والفول مع أشجار الكستناء. كانت كل شجرة كستناء تنتج من 50 إلى 100 رطل من المكسرات النشوية سنوياً وبلغ عددها من 3 مليارات إلى 4 مليارات شجرة قبل أن تتسبّب آفة زراعية في شبه انقراضها في القرن الـ20.
وفرت أشجار الكستناء من حوالي 3 تريليونات إلى 4 تريليونات سعر حراري سنوياً، وهو ما يكفي حالياً لتلبية احتياجات سكان الولايات المتحدة من الكربوهيدرات بمقدار الضعف تقريباً. علاوة على ذلك، نمت أشجار الكستناء في الغالب في منطقة أبالاشيا، وهي منطقة تضاريس جبلية تعتبرها الزراعة الصناعية "أراضي غير صالحة للزراعة". لكن مجتمعات السكان الأصليين أدارت تلك الغابات المثمرة هائلة الإنتاج بقليل من الأيدي العاملة وبدون صناعة أسمدة.
على الرغم من الخسارة الاقتصادية، التي عانى منها سكان منطقة أبالاشيا، جراء انقراض أشجار الكستناء في أوائل القرن الـ20، لم يُبذل الكثير من الجهد لإعادة زراعة تلك الأشجار وتحول الأبالاشيون إلى الاعتماد على واردات الغذاء، وهو ما اضطرهم إلى العمل في مجال استخراج الفحم لدفع ثمن استيراد احتياجاتهم الغذائية، الأمر الذي يعكس الآثار المدمرة للتبعية الغذائية وتأثير غياب مفهوم تحقيق قدر من الاكتفاء الذاتي.
كيف يمكن كسر هذه الحلقة الجهنمية إذاً؟
تعد الثروة السمكية مثالاً آخر على أنظمة الغذاء المحلية الجديرة بالتنمية. تمتلك العديد من الدول المعتمدة على الواردات الغذائية، مثل الصومال واليمن ولبنان والجزائر، مصايد ساحلية -لكنها لا ترقى لمستوى يجعلها قادرة على تأدية دور رئيسي في الأمن الغذائي الوطني. يعود سبب ذلك إلى قرون من التلوث والصيد الجائر. تفتقر تلك الدول أيضاً إلى الموارد الكافية للاستثمار في المفرخات والمزارع السمكية وتنظيف سواحلها من التلوث وغيرها من التدابير الاستباقية لإعادة بناء مصايد الأسماك المحلية.
لا يجب تسيير الأمور بهذه الطريقة، حيث تستطيع تربية الأحياء المائية تأدية دور حاسم في الأمن الغذائي للدول الساحلية القاحلة. في الواقع، تستطيع الأعشاب البحرية إزالة ما يكفي من ثاني أكسيد الكربون من مياه البحار لمواجهة زيادة درجة حموضة المياه (ظاهرة التحمّض)، وهذا بدوره يسمح للشعاب المرجانية والمحاريات بالنمو والازدهار.
يعد التوسع في الحراجة الزراعية وتنمية مصايد الأسماك مجرد اثنين من الحلول الغذائية، التي يتعين علينا إعطاؤها الكثير من الاهتمام. ومع ذلك، يتخلف حجم الاستثمار العام والخاص في هذين القطاعين عن نظيره في قطاع الزراعة الحبوب والماشية التقليدية. توضح سياسات كبار ملاك الأراضي السبب، حيث إنَّ الاستثمار في إعادة تأهيل مصايد الأسماك سيجبرهم، جنباً إلى جنب مع أباطرة الصناعات الزراعية، على التوقف عن تلويث المياه. بالإضافة إلى ذلك، ستتيح مصايد الأسماك المعاد تأهيلها للمزارعين فرصة المنافسة في سوق الغذاء. هذا من شأنه تهديد النظام الغذائي القائم على عدد قليل من المحاصيل السلعية، التي يهمين على زراعتها عدد من أصحاب النفوذ.
الخلاصة هنا هي أنه إذا أردنا بناء نظام غذائي إقليمي فعَّال يبعدنا عن التجارة الدولية الخبيثة في الأغذية، لاسيما في ظل تعمّق أزمة تغير المناخ، فنحن بحاجة إلى التركيز على إطعام الناس وليس إنقاذ الجهات الرئيسية الفاعلة المستفيدة من آلية النظام الغذائي القائم حالياً.
وقد يحدث ذلك بتوجيه مزيد من الاستثمارات في مصايد الأسماك وأشجار الغابات. قد يحدث عندما تتعامل القوى العظمى مع الطعام باعتباره مرفقاً عاماً – مثل المياه والكهرباء- بدلاً من اعتباره نشاطاً تجارياً خاصاً. باختصار، نحن بحاجة إلى قيادة سياسية تريد حقاً الاستجابة لاحتياجات الجمهور إذا أردنا الوصول إلى نظام غذائي مرن قادر على الصمود أمام المفاجآت العالمية.