بعد 7 أشهر من الغزو الروسي لأوكرانيا، وبينما تسير الأمور من سيئ إلى أسوأ بالنسبة لقوات الرئيس فلاديمير بوتين على الأرض، فإنه لا يزال يتمتع بشعبية كبيرة في الداخل. ولكن ماذا تعني الشعبية الساحقة في الواقع لدى "أمة بلا معارضة سياسية" تقريباً، وصحافة حرة "محدودة بشدة"، كما تقول وسائل الإعلام الغربية؟
ما مدى دقة استطلاعات الرأي في روسيا؟
يعلق دينيس فولكوف، مدير مركز ليفادا في موسكو الذي كان يستطلع الرأي العام الروسي شهرياً منذ ما قبل تولي بوتين الرئاسة، ومساعده أندريه كوليسنيكوف، الباحث في موسكو لصالح مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، على الخطاب الذي ألقاه بوتين مؤخراً وأعلن ضم روسيا لأربع مناطق في أوكرانيا، قائلين إنه كان هناك دافع مزدوج: انتخابي، وهو مُصمَّم لإثارة الفرح من حقيقة أن روسيا تستعيد أراضي أجدادها، والدافع الآخر هو الجيش الذي ينبغي أن يدعم الانتخابات. لكن فولكوف يقول لوكالة Bloomberg الأمريكية: "ما مِن فرح على الإطلاق في ذلك، إنه حمام دم"، حسب تعبيره.
فيما يقول كوليسنيكوف إن بوتين يجبر الرجال الروس على تقاسم مسؤولية الحرب معه، في ظل التعبئة المعلنة لـ300 ألف جندي جديد. وهذا هو السبب في أنه حتى لو انخفض عدد الدعم الرسمي لبوتين والحرب بشكل طفيف، فإن انعدام الثقة في النظام سيزداد.
لكن في ما يخص الصورة الدقيقة للمشاعر العامة لدى الروس، الذين قد يكونون مستائين من تصرفات بوتين لكن يخافون من قول ذلك، يقول فولكوف إن المناخ الاجتماعي أصبح أكثر توتراً. ويضيف: "لكن حتى الآن، لم تتغير معدلات الاستجابة، التي نحسبها لكل استطلاع وفقاً لتوصيات الجمعية الأمريكية لأبحاث الرأي العام. لم تتغير هذه المعدلات كثيراً منذ فبراير/شباط".
ويلفت فولكوف إلى أن البحث الإضافي الذي قاموا به "لا يدعم التأكيدات القائلة بأن الأشخاص الذين لا يوافقون على قيادة الدولة هم أكثر عرضة لرفض المشاركة في الاستطلاع، أو أن استطلاعات الرأي لا تمثل سوى الأشخاص المستعدين للمشاركة والإجابة على الأسئلة"؛ لذلك يعتقد فولكوف أن استطلاعات الرأي في روسيا لا تزال مفيدة.
يذكر أيضاً أن مركز ليفادا في موسكو يحاول تكملة الاستطلاعات ببيانات نوعية. ويقول لبلومبيرغ: "يساعدنا هذا في الاستماع إلى اللغة التي يستخدمها الأشخاص والتفسيرات التي يقدمونها". ويضيف: "نستخدم أيضاً بانتظام الأسئلة المفتوحة في استطلاعاتنا للحصول على ردود فعل الأشخاص، وليس فقط جعلهم يختارون من الخيارات المحددة مسبقاً".
أغلبية ساحقة تؤيد بوتين وحربه في أوكرانيا
تظهِر البيانات الواردة في استطلاع سبتمبر/أيلول الجديد حول المواقف الروسية تجاه الحرب بعض التغيير منذ شن الغزو، إذ إن أولئك الذين يؤيدون "بالتأكيد" أو "في الغالب" قد انخفضت نسبتهم من 81% إلى 75%، وأولئك الذين لا يؤيدون في الغالب أو بالتأكيد ارتفعت نسبتهم من 14% إلى 20%. ومع ذلك، هذه الأغلبية الساحقة تؤيد الغزو.
يقول كوليسنيكوف إنه عند تحليل استطلاعات الرأي الكبيرة، من الجيد إلقاء نظرة على التفاصيل. ويضيف: "أقل من نصف الروس يدعمون بالتأكيد العملية الخاصة. 30% في المتوسط مترددون أو ملتزمون سلبيون ليس لديهم رأي خاص بهم وغالباً ما يخشون أن يكون لديهم رأي في مواجهة الاستبداد الصارم للغاية"، حسب تعبيره.
يلفت كوليسنيكوف أيضاً إلى أن 20% من المستطلعين لا يؤيدون العملية الخاصة، وهم يقولون ذلك صراحة، على حد قوله. ويقول إنه في سبتمبر/أيلول، كان هناك عدد أكبر قليلاً منهم. ويضيف: "يوجد داخل كل مجموعة من هذه المجموعات الكثير من المجموعات الفرعية ومجموعة متنوعة من الدوافع؛ لذا فإن الوضع أكثر تعقيداً مما يبدو".
هل تغيرت الآراء بسبب الهجوم المضاد الأوكراني وأمر بوتين بحشد المزيد من القوات؟
يقول فولكوف إن الهجوم المضاد الأوكراني كان ملحوظاً، لكن التعبئة الجزئية التي أُعلن عنها في 21 سبتمبر/أيلول كان لها تأثير أكبر بكثير على الرأي العام. ويضيف: "لقد أخرجت التعبئة المجتمع الروسي من غيبوبة. على مدى ستة أشهر، اعتاد الروس بشكل أو بآخر على الحرب، حيث أصبحت حرباً بعيدة، تشنها الحكومة بمساعدة جنود محترفين".
لكن أخبار التعبئة جاءت بمثابة "الصدمة"، على حد تعبير فولكوف، الذي يقول إن المجتمع الروسي يشهد تصاعداً ملحوظاً في التشاؤم وعدم اليقين بشأن المستقبل، "حيث يدرك الناس أن الحرب أقرب بكثير مما كانوا يفكرون به. ومع ذلك، فإن هذا له تأثير محدود فقط على تصنيفات السلطات". ويشير في هذا السياق إلى أن نسبة تأييد بوتين انخفضت من 83% إلى 77%، وموافقة الحكومة انخفضت هي الأخرى من 68% إلى 63%، وهكذا دواليك.
ولم يتغير التأييد للعملية العسكرية كثيراً، لكن عدد المؤيدين لمفاوضات السلام ارتفع من 44% إلى 48%، مما أدى إلى تغيير طفيف في ميزان الرأي لصالح المحادثات. ويرى فولكوف أن الحجم المحدود لهذه التغييرات يمكن تفسيره من خلال تأثير التجمع خلف العلم الذي حدث في الربيع ولا يزال ساري المفعول.
"لم يكن لبوتين خيار، الناتو كان على أبواب روسيا"
لقد تبددت الآمال في أن يعارض الروس الحرب، والسبب وراء ذلك، في رأي كوليسنيكوف، هو السلبية واللامبالاة. يقول لسان حال الروس: "لا أريد الحرب، لكن بوتين لم يكن لديه مكان آخر يذهب إليه -الناتو كان على الباب".
يقول كوليسنيكوف إنه بالنسبة للعديد من المستجيبين، فإن "الخوف وعدم الرغبة في الكشف عن آرائهم لهما دور، لكن لا ينبغي للمرء أن يبالغ في نسبة هؤلاء الأشخاص بين أولئك الذين يدعمون بوتين".
وفي رأيه، هناك مجموعة كبيرة من المؤيدين الأيديولوجيين. فهناك "القوميون والإمبرياليون الذين لديهم -أحياناً بوعي وأحياناً حدسياً- تفكير شديد المحافظة".
ويرى أيضاً أن هناك من اعتادوا ببساطة على بوتين وليس لديهم أدنى فكرة عمن يمكن أن يكون زعيماً لروسيا. فقد ظل بوتين في السلطة لمدة 23 عاماً، وهي فترةٌ وُلِدَ فيها وترعرع جيلٌ كامل.
وهناك 9 أو 10% فقط من المستطلعين قالوا إنهم "مستعدون لحضور احتجاج". لكن فولكوف يرى أن ثمن الاحتجاج المفتوح مرتفع للغاية. لم يُرفَع الحظر المفروض على تنظيم الفعاليات الجماهيرية على مستوى البلاد خلال جائحة كوفيد. وعلى هذا الأساس يرفض المسؤولون منح الإذن بأي مسيرات مناهضة للحرب. ويُعاقب على المشاركة في الاحتجاجات غير المصرح بها بغرامات باهظة وأحكام بالسجن.
في الوقت نفسه، يقول كوليسنيكوف إن الناس يرون أن نشاط الاحتجاج عديم الجدوى ولا طائل من ورائه. ويفسر ذلك بأن: "الشعور السائد هو أن السلطات سوف تجد طريقها على أي حال. ومع ذلك، فإن بعض الناس يخرجون للاحتجاج -شبابٌ بدافع الشجاعة والتهور، وأمهات وزوجات غلبهن اليأس والخوف على أحبائهن".
هل هناك أي سيناريو يمكن أن يسقط فيه بوتين؟
يجيب كوليسنيكوف عن ذلك بأنه في الوقت الحالي لا توجد سيناريوهات لرحيل بوتين. ويقول لوكالة بلومبيرغ: "لقد ذهب، بالطبع، بعيداً جداً بجنونه العسكري، واستبدل التعبئة العامة بالتعبئة العسكرية، التي تسبب الإحباط وعدم الرضا بين السكان". ويضيف: "الآن كل القوة تتركز في يديه. النخب مفككة، ولا تثق في بعضها البعض، وتخضع للعقوبات -وكل ما يمكنهم فعله هو أن يكونوا بالقرب من بوتين".
من غير المرجح أن تسلك روسيا طريق الربيع العربي في عام 2011. يرى كوليسنيكوف أن قوة بوتين ستتدهور، وستؤدي التعبئة إلى تقويض الثقة إلى حد ما، وإذا استطاع إنهاء الحرب من خلال إصلاح الخسائر ووصفها بالنصر، فإن الرأي العام سيقبل ذلك بارتياح ويواصل دعمه بصورة تلقائية. وفي وجهة نظر كوليسنيكوف، يحتاج بوتين أيضاً إلى تقديم شيء ما لانتخابات عام 2024، ويبدو أنه يجب أن يكون شيئاً سلمياً ومادياً، نظراً للمشاكل الوشيكة بشكل واضح مع الاقتصاد، وليس المشاكل العسكرية البحتة.
كان بوتين قد أعلن تعبئةً للقوات وتهديداً نووياً صريحاً في خطاب متلفز. يعلق كوليسنيكوف على ذلك قائلاً: "في السنوات الأخيرة، احتل الخوف من حرب عالمية المرتبة الثانية في قائمة مخاوف الروس (في المرتبة الثانية بعد "مرض الأحباء"). وفي يناير/كانون الثاني 2022، قال 65% إنهم يخشون اندلاع حرب عالمية. وبالمقارنة، حتى في فترة ما بعد القرم 2015، قال 32% من المستطلعين إنهم خائفون من حرب عالمية".
وبناءً على ذلك، يرى كوليسنيكوف أن ابتزاز بوتين النووي لابد أنه مصدر إلهام للجماهير. ولكن هنا، بحسب رأي كوليسنيكوف، كما هو الحال مع التعبئة العسكرية، قد يتخطى الهدف، وسوف يخشى الناس الحرب النووية أكثر مما يخشون بوتين نفسه، وهذا أيضاً من شأنه أن يقوض إلى حد ما أسس نظامه العدواني، بحسب تعبير كوليسنيكوف.