هناك إجماع على أن الرئيس فلاديمير بوتين لن يتراجع عن ضم الأراضي الأوكرانية مهما حدث، فماذا لو استمرت إدارة جو بايدن في دعم أوكرانيا لتحقيق نصر عسكري على روسيا؟
كان الهجوم الروسي على أوكرانيا، الذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة"، بينما يصفه الغرب بأنه "غزو"، قد دخل مرحلة جديدة من التصعيد خلال الأيام القليلة الماضية، إذ أعلن يوتين رسمياً، الجمعة 30 سبتمبر/أيلول، ضم 4 مدن أوكرانية إلى أراضي الاتحاد الروسي، رغم التنديد الأمريكي والغربي.
أوكرانيا والدول الغربية ترى أن الاستفتاءات على ضم لوغانسك ودونيتسك وخيرسون وزابوروجيا إلى روسيا باطلة وتهدف لتبرير الضم وتصعيد العمليات القتالية بعد قرار باستدعاء جزئي لقوات الاحتياط، إثر خسائر تكبدتها موسكو مؤخراً في أرض المعركة.
قانونية قرار الضم الروسي
موقع Responsible Statecraft الأمريكي نشر تقريراً وصف فيه خطوة الحكومة الروسية بضم الأراضي الأوكرانية بأنها ليست قانونيةً على الإطلاق، كما تمثل تصعيداً خطيراً للغاية في هذا الصراع، "إذ كانت "الاستفتاءات" المحلية الداعمة لهذه الخطوة زائفة"، وستدينها بحق الغالبية العظمى من دول العالم.
وحتى دولة مثل الصين، التي لم تكن على وفاق مع الغرب وتتعاطف أكثر مع روسيا في هذا الصراع حتى اليوم، فقد أعلنتها صراحةً بأنها لن تقبل ضم الأراضي بالقوة مطلقاً.
لكن على أية حال، يزيد هذا التصرف الروسي من تعقيد جهود البحث عن تسوية سلمية نهائية، لأن أوكرانيا ودول الغرب لن تقبل عملية الضم أو تعترف بها رسمياً. وعلى الناحية الأخرى، سيصبح من الصعب على أي حكومة روسية مستقبلية أن تتخلى عن هذه الأراضي بموجب الدستور، وأصبح ذلك أمراً محسوماً بمجرد إعلان بوتين عن ضمها إلى روسيا رسمياً.
ومع ذلك سيكون من الضروري التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار لإنهاء الحرب الشاملة في مرحلةٍ ما، إلا في حال تحقيق أحد الطرفين نصراً كاملاً، وهو أمرٌ مستبعد للغاية.
فبطبيعة الحال لا يمكن أن تستمر الحرب إلى الأبد، خاصة أن تأثيرها المدمر لا يقتصر على طرفيها المباشرين، أو روسيا وأوكرانيا، ولا حتى على الأطراف الداعمة لكييف كأمريكا وحلفائها من دول الاتحاد الأوروبي، لكن العالم أجمع يعاني بشدة من تداعيات تلك الحرب الاقتصادية.
والأهم من ذلك هو أن طبيعة الخطوة الروسية تزيد أهمية دخول واشنطن وموسكو في محادثات مباشرة، لمنع توسع الحرب وتصعيدها إلى مواجهةٍ مباشرة بين الولايات المتحدة وروسيا. إذ قد تؤدي هذه المواجهة لتبادل القصف النووي في أسوأ السيناريوهات، ومن ثم تدمير الحياة البشرية بصورتها الحضارية الحالية.
وهذا السيناريو الأسوأ أصبح أقرب من أي وقت مضى، باعتراف الجانبين. ألكسندر دوغين، الفيلسوف الروسي الملقب بعقل بوتين، يرى أن شبح الحرب العالمية الثالثة يقترب بالفعل.
"نحن على شفا حرب عالمية ثالثة يدفعنا إليها الغرب بهوسٍ شديد، وهذا لم يعد تخوفاً أو توقعاً، هذه حقيقة. روسيا في حالة حرب مع الغرب الجماعي، مع الناتو وحلفائهم (وإن لم يكن مع الجميع- تركيا واليونان لديهما موقف خاص بهما، وعدد من الدول الأوروبية، في المقام الأول فرنسا وإيطاليا- وليس فقط فرنسا وإيطاليا- لا ترغب في المشاركة بشكل فاعلٍ في الحرب مع روسيا). ومع ذلك، فإن خطر نشوب حرب عالمية ثالثة يقترب"، بحسب ما جاء في مقال نشره دوغين الأسبوع الماضي.
مسؤولية إدارة بايدن عن الحرب في أوكرانيا
لا شك أن صعوبة إجراء محادثات سلام مباشرة بين أوكرانيا وروسيا الآن تفرض على إدارة بايدن تحمل مسؤولية أكبر عن الجهود الدبلوماسية لاحتواء وتقييد الصراع، بحسب تقرير الموقع الأمريكي، بعنوان "عمليات ضم بوتين للأراضي تجعل المحادثات الأمريكية-الروسية أكثر أهمية من أي وقتٍ مضى". وإذا لم تفعل إدارة بايدن ذلك فسوف تكون قد تخلت فعلياً عن مسؤوليتها عن حماية الولايات المتحدة والشعب الأمريكي من المخاطر التي تهدد بقائهما.
وليس هذا الخطر افتراضياً أو تخمينياً على الإطلاق. حيث ردت إدارة بايدن على خطوات روسيا العدائية بزيادة دعمها لأوكرانيا قبل وأثناء الحرب. بينما ردت الحكومة الروسية في كل مرة بالتصعيد أكثر، وإذا استمرت دورة التصعيد الحالية دون رقيب فسوف تتحول فكرة اندلاع المواجهة النووية المباشرة بين أمريكا وروسيا إلى احتماليةٍ قائمة.
وفي هذا السياق، من الضروري تذكر دروس الحرب الباردة وسط هذه الظروف الخطيرة بصورةٍ استثنائية، حيث تكاتفت الولايات المتحدة مع حلفائها في أوروبا الغربية أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، بهدف الحيلولة دون انتشارٍ أوسع للقوة السوفييتية والشيوعية الستالينية داخل أوروبا. ونجحت الولايات المتحدة في مساعيها التي تمخضت عن احتواء الاتحاد السوفييتي، قبل انهيار الشيوعية السوفييتية في النهاية.
ورفضت إدارة أيزنهاور في الوقت ذاته فكرة "دحر" القوة السوفييتية في أوروبا بالوسائل العسكرية، مجادلةً بأن هذه الاستراتيجية ستؤدي إلى حربٍ نووية عالية المخاطر وستنتهي إلى تدمير أجزاء كبيرة من الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة على حد سواء.
نجحت الولايات المتحدة في تجنب الحرب بفضل هذا القرار من جانب إدارة أيزنهاور (وقرار السوفييت عدم المخاطرة بالإبادة النووية عن طريق استعراض تفوقهم العسكري داخل أوروبا). ودُشِّنت خطوط الاتصال بين موسكو وواشنطن بمرور الوقت لتقليل مخاطر التصعيد غير المقصود.
لكن خطوط الاتصال انقطعت بصورةٍ كبيرة في الوقت الحالي. وأصبحت الروابط الدبلوماسية محدودةً اليوم أكثر من أحلك فترات الحرب الباردة. وتوقفت الاجتماعات بين المسؤولين رفيعي المستوى بالكامل. لكن الأمر المنطقي على النقيض هو أن الاتصالات تصبح شديدة الأهمية عندما تكون العلاقات بهذه الدرجة من السوء.
ماذا لو استمر عدم التواصل بين بوتين وبايدن؟
ويجب على واشنطن وموسكو بدء المحادثات اليوم من أجل تجنب التصعيد لحربٍ نووية، ما سيسمح بتقديم ضمانات سرية وموثوقة من الجانبين. ويُذكر أن الطرفين حافظا على مثل هذه السرية في اتفاقية الرئيس كينيدي لسحب الصواريخ الأمريكية من تركيا مقابل سحب الصواريخ السوفييتية من كوبا. ويجب أن ترتبط هذه الضمانات أولاً وقبل كل شيء بالقضايا التي قد تؤدي لاندلاع حرب مباشرة وصريحة بين البلدين.
إذ يجب أن تقدم روسيا ضمانات لواشنطن بأنها لا تنوي مهاجمة أي من الدول الأعضاء في الناتو. بينما يجب أن تضمن واشنطن لموسكو عدم اتخاذ أية خطوات لحصار معقل كالينينغراد الروسي، وأنها ستتوقف عن دعم الهجوم الأوكراني الذي يستهدف استرداد القرم والاستيلاء على قاعدة سيفاستوبول البحرية. كما يتعين على كل جانب تقديم الضمانات بعدم تخريب البنية التحتية للآخر.
وتقتضي عملية التحرك نحو هذه المحادثات أن يفهم مسؤولو الولايات المتحدة أن ضم روسيا لتلك الأراضي يمثل تصعيداً خطيراً للغاية، لكنه يدل في الوقت ذاته على تراجع هائل للطموحات الروسية اليوم مقارنةً بالأشهر الأولى من الصراع.
حيث كانت خطة الكرملين الأصلية تستهدف الاستيلاء على كييف، وإخضاع حكومتها أو استبدالها، وتحويل أوكرانيا إلى دولةٍ تابعة لروسيا. وعندما فشلت هذه المساعي، بدأت روسيا تطمح لاحتلال كافة المناطق الناطقة بالروسية في شرق وجنوب أوكرانيا. لكن كافة هذه الخطط باءت بالفشل في مواجهة المقاومة الأوكرانية المدعومة بالأسلحة والمعلومات الاستخباراتية الغربية.
وأدت الهزيمة الروسية في خاركيف إلى إجبار روسيا على زيادة قواتها مع تقليص أهدافها أكثر. ويبدو أن هدف بوتين يتمحور الآن حول فرض السيطرة الروسية الدائمة على جزءٍ من شرقي أوكرانيا (باستثناء مدن خاركيف وأوديسا ودنيبرو)، حتى يتمكن من صد انتقادات المتشددين الروس ويزعم أمام الشعب الروسي أن هجومه على أوكرانيا قد حقق نوعاً من النجاح لروسيا.
حيث نص آخر تصريح روسي على أن "العملية العسكرية الخاصة" في أوكرانيا يجب أن تستمر حتى "تحرير" منطقة دونباس على أقل تقدير. ويمثل هذا التصريح مؤشراً قوياً على التخلي عن أي طموحات أكبر فعلياً تحت تأثير الواقع العسكري.
ويأمل بوتين أن يبرر مطالباته للشعب الروسي بتضحيةٍ أكبر في سبيل دعم الحرب، وذلك عن طريق تصوير الحرب بأنها دفاعٌ من روسيا عن أراضيها في مواجهة الهجوم الأوكراني المدعوم من الغرب. ويبدو أن الطموحات المهووسة بالعظمة قد حلت محلها التدابير اليائسة، لكن هذا هو ما يزيد خطورة الوضع الراهن، ويزيد إلحاح إجراء محادثات مباشرة بين واشنطن وموسكو.
الخلاصة هنا هي أن الرئيس الروسي بوتين لن يتراجع بأي حال من الأحوال عن موقفه الحالي، المتمثل في الاحتفاظ بالمناطق الأوكرانية التي أعلن عن ضمها، وهذه الحقيقة عليها إجماع من المحللين والمسؤولين الغربيين أنفسهم؛ ما يعني أنه في حالة تعرض القوات الروسية لهزائم أخرى، على غرار ما حدث في خاركيف، سيكون استخدام الأسلحة النووية خياراً وارداً وبقوة، فهل حان الوقت للتواصل بين بايدن وبوتين بأي شكل من الأشكال، أم تقع الكارثة في أية لحظة؟