إلى قبرص الرومية، تساؤلات متشعبة بشأن نوايا واشنطن وأهدافها، فالقرار يغضب تركيا، عضو الناتو الهام، خصوصاً في ظل تصعيد روسيا الأخير في أوكرانيا.
كانت الولايات المتحدة قد فرضت حظراً شاملاً على بيع الأسلحة إلى قبرص منذ عام 1987، وسط فشل محاولات إعادة توحيد الجزيرة المنقسمة إلى شطرين، الأول شمالي مدعوم من تركيا والآخر جنوبي موالٍ لليونان، وذلك منذ عام 1974.
وفي عام 2020، اتخذت إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب قراراً برفع جزئي لحظر السلاح إلى قبرص، يسمح ببيع أسلحة ذات طبيعة دفاعية فقط. وفي سبتمبر/أيلول 2022، قررت إدارة بايدن توسيع نطاق رفع الحظر الجزئي ليرفع القيود أكثر عن بيع الأسلحة إلى قبرص بشكل عام خلال السنة المالية 2023.
غضب تركيا من القرار الأمريكي
أثار قرار إدارة بايدن غضب تركيا بطبيعة الحال، ونددت به وزارة الخارجية التركية قائلة في بيان أصدرته السبت 17 سبتمبر/أيلول، إن القرار الأمريكي "سيزيد من تعنت الجانب اليوناني من قبرص ويؤثر سلباً على جهود إعادة تسوية القضية القبرصية".
وأضاف بيان الخارجية التركية: "سيؤدي (القرار الأمريكي) إلى سباق تسلح في الجزيرة ويضر بالسلام والاستقرار في شرق البحر المتوسط"، داعياً الولايات المتحدة إلى إعادة النظر في قرارها واتباع سياسة متوازنة تجاه الجانبين في قبرص.
كما كرر وزير الخارجية التركي، مولود تشاووش أوغلو، الخميس 29 سبتمبر/أيلول، الانتقادات لواشنطن، متهماً إياها بالتخلي عن سياسة الحياد والتوازن في قضيتي قبرص وبحر إيجه لصالح اليونان.
"في الآونة الأخيرة تخلت الولايات المتحدة عن سياستها السابقة بالحياد والتوازن، واتخذت خطوات لصالح اليونان، كما قامت برفع حظر الأسلحة المفروض على الإدارة القبرصية الجنوبية لمدة عام"، بحسب ما نقلته وكالة الأناضول عن أوغلو.
وأكد الوزير التركي أن أنقرة لن تقف مكتوفة الأيدي تجاه خطوات اليونان، وستتخذ التدابير اللازمة حيالها: "بوصفنا دولة ضامنة، سنرسل التعزيزات اللازمة إلى جمهورية شمال قبرص التركية، وسنتخذ الخطوات الضرورية سواء في بحر إيجه أو في جزيرة قبرص، للدفاع عن مصالحنا وأمننا وحماية حقوق القبارصة الأتراك".
أما الرئيس التركي رجب طيب أردوغان فقد أكد أن بلاده وجهت التحذيرات اللازمة للولايات المتحدة واليونان بشأن تسليح الجزر التي تتمتع بوضع غير عسكري في بحر إيجه.
كما دعا مجلس الأمن القومي التركي، برئاسة أردوغان، جميع البلدان للاعتراف باستقلال جمهورية شمال قبرص التركية، داعياً واشنطن للتراجع عن القرار "الذي سيؤثر سلباً على السلام والتوازن في شرق المتوسط ويتعارض مع روح التحالف".
وفي تصريحات أدلى بها الرئيس التركي مساء الأربعاء 28 سبتمبر/ أيلول، رداً على سؤال حول رصد طائرة مسيرة تركية مؤخراً نقل اليونان عربات مدرعة إلى جزيرتين، قال أردوغان: "وجهنا التحذيرات اللازمة للولايات المتحدة واليونان من خلال خارجيتنا، وأبلغنا الأمم المتحدة بالموضوع في 17 سبتمبر/أيلول الجاري".
ووجَّه رسالة مباشرة إلى واشنطن، قائلاً: "ننتظر من الولايات المتحدة ألا تدفع اليونان للانخراط في حسابات خاطئة وألا تسمح بالتلاعب بالرأي العام الدولي".
ماذا تريد إدارة بايدن إذاً؟
تنبع أهمية هذا السؤال من التوقيت الحرج الذي تمر به الحرب الروسية في أوكرانيا، مع توقع إعلان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، عن ضم أربع مدن أوكرانية رسمياً إلى الأراضي الروسية، في أي وقت، وذلك في أعقاب انتهاء الاستفتاءات التي أجريت في مناطق لوغانسيك ودونيتسك وخيرسون وزابوروجيا.
الخطوة الروسية تمثل مفترق طرق في تلك الحرب المستمرة منذ فبراير/شباط الماضي، خصوصاً أن بوتين هدد بأنه لن يتوانى في استخدام الأسلحة النووية للدفاع عن "كافة الأراضي الروسية"، وهو تهديد موجه للغرب ولحلف الناتو، وبالتالي فإن وحدة الحلف العسكري الغربي في هذا التوقيت تعتبر بالغة الأهمية.
وبالتالي فإن الرئيس التركي، في انتقاداته الحادة للقرار الأمريكي برفع حظر السلاح عن قبرص وتشجيع اليونان على نقل أسلحة أمريكية الصنع إلى جزر في بحر إيجه تنص اتفاقية لوزان على أنها منزوعة السلاح، شدد على أن الولايات المتحدة لا تتصرف بطريقة عادلة في التعامل بين الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو).
وأوضح أردوغان أنه ليس هناك مجال لمقارنة وضع تركيا في الناتو مع وضع اليونان، لأن الجيش التركي ضمن الأوائل الخمسة في الحلف سواء من حيث النفقات التي تدفعها أو القوات البرية والقوة التي تمنحها.
هذه المعطيات تجعل التساؤلات بشأن النوايا والأهداف الأمريكية منطقية تماماً. وربما يكون ما صرح به نيد برايس، المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، قد أجاب، ولو بطريقة جزئية عن هذه التساؤلات، عندما ربط بين القرار وبين الحرب في أوكرانيا.
إذ قال برايس للصحفيين إنه مع الرفع الكامل لحظر السلاح، يتوقع أن تواصل قبرص تعاونها مع واشنطن، لا سيما من خلال "مواصلة اتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع السفن العسكرية الروسية من الوصول إلى الموانئ للتزود بالوقود والصيانة".
ومنذ اندلاع الحرب، التي تصفها روسيا بأنها "عملية عسكرية خاصة" بينما يصفها الغرب بأنها "غزو غير مبرر لأوكرانيا"، فرض الغرب (الولايات المتحدة وكندا وأستراليا واليابان والاتحاد الأوروبي) عقوبات غير مسبوقة على موسكو، كما أغلق الاتحاد الأوروبي الموانئ الأوروبية أمام السفن الروسية كجزء من تلك العقوبات.
وهناك سبب آخر ربما لم يتطرق إليه برايس، لكنه يتردد على لسان كثير من المحللين الأمريكيين منذ قبل أن تندلع الحرب الأوكرانية، وهو يتعلق لجوء قبرص إلى روسيا للتزود بالأسلحة، وبالتالي رغبة واشنطن الآن في استقطاب قبرص الرومية بعيدا عن الفلك الروسي.
وركز مقال نشره موقع The Hill، التابع للكونغرس الأمريكي، على الإشادة بقرار رفع حظر الأسلحة عن قبرص باعتباره يتماشى مع المصالح الأمريكية في منطقة شرق المتوسط، وهي المنطقة الغنية بموارد الطاقة من الغاز الطبيعي والنفط، من خلال "تسليح قبرص".
ويصف المقال شرق المتوسط بأنه أصبح منطقة تنافس حاد بسبب اكتشافات الغاز الطبيعي ولكونها مركزاً للمنافسة الاستراتيجية العالمية، معتبراً أن قبرص "شريك أمريكي هام في مواجهة العدوان الروسي المتصاعد وأيضاً السياسة الخارجية التركية، التي لا يعتمد عليها". فاكتشافات الغاز الطبيعي الضخمة في شرق البحر المتوسط يمكن أن تخفف من اعتماد الشركاء الأوروبيين على الغاز الروسي.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن رفع حظر الأسلحة عن قبرص يمثل تغييراً جذرياً في سياسات أمريكية، وصفها المقال بأنها ترجع إلى حقبة الثمانينات، مع الأخذ في الاعتبار أن علاقات قبرص الوثيقة مع روسيا تمثل عائقاً ضخماً أمام قرار رفع الحظر عن الأسلحة بشكل دائم. وفي هذا السياق، ربطت واشنطن بين استمرار رفع الحظر (قرار الرفع مدته عام واحد قابل للتجديد)، وبين تعاون نيقوسيا مع واشنطن في مجال مكافحة غسيل الأموال الروسية ومنع استقبال الموانئ القبرصية للسفن العسكرية التابعة لموسكو بشكل كامل.
إذا كانت هذه وجهة نظر واشنطن، فماذا عن أنقرة؟
من الطبيعي أن يثير المنطق الأمريكي في رفع حظر السلاح الآن عن قبرص كثيراً من التساؤلات، بسبب التناقض الواضح في هذا المنطق. فإذا كانت واشنطن ترى أن مصالحها الخاصة، المتمثلة في حصار روسيا بأي وسيلة متاحة، تبرر السعي لاستقطاب نيقوسيا بعيداً عن فلك موسكو، فكيف للإدارة الأمريكية أن تتجاهل مصالح حليف كتركيا يمثل أهمية أكبر بكثير، من الناحية العسكرية على الأقل؟
فتركيا تحتفظ بعلاقات متوازنة مع طرفي الحرب المدمرة، ومكنتها تلك العلاقات من استضافة مفاوضات بين موسكو وكييف من قبل، وأفادت تقارير أمريكية بأن الطرفين كانا قد توصلا بالفعل إلى اتفاق سلام يوقف نزيف الدماء، لكن واشنطن ولندن ضغطتا على الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، بالتراجع ومواصلة الحرب، حتى وصلت الأمور إلى نقطة فارقة تهدد الجميع بخطر حرب نووية ربما لم تكن أكثر احتمالا هكذا من قبل، ولا حتى أثناء الحرب الباردة بين الغرب والاتحاد السوفييتي.
كما أن اتفاق نقل الحبوب من الموانئ الأوكرانية لم يكن ليتم التوصل إليه دون وساطة تركية، علماً بأن مجرد الإعلان عن ذلك الاتفاق قد أرسل رسالة إيجابية أدت إلى انخفاض أسعار الحبوب، بعد أن كانت أزمة نقص الغذاء توشك أن تهدد العالم بمجاعة غير مسبوقة، بحسب تقارير الأمم المتحدة.
وفي السياق ذاته، ربما تكون تركيا من الدول القليلة القادرة على تجنيب العالم حربا عالمية ثالثة، من خلال قنوات الاتصال المفتوحة بينها وبين موسكو وكييف، وقد عبر أردوغان بالفعل عن استمرار مساعي أنقرة ترتيب لقاء قمة بين بوتين وزيلينسكي على الأراضي التركية.
النقطة الأخرى هنا هي أنه إذا كانت إدارة بايدن تريد الضغط على أنقرة للتخلي عن موقفها المتوازن بشأن الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وهو الموقف النابع من سعي أنقرة للحفاظ على مصالحها القومية، فكيف تبرر واشنطن انحيازها لصالح أثينا ونيقوسيا على حساب أنقرة؟ وكيف يمكن أن يسهم هذا الانحياز في تهدئة الأمور داخل منطقة شرق المتوسط، على سبيل المثال؟
الخلاصة هنا هي أن واشنطن قررت رفع حظر بيع السلاح إلى قبرص، بهدف استقطاب نيقوسيا بعيداً عن فلك موسكو والضغط أيضاً على أنقرة، التي ترى واشنطن أنها تبحث عن مصالحها دون الانصياع للاستراتيجية الأمريكية الكبرى في حرب أوكرانيا، أي هزيمة بوتين بأي ثمن.