مع تعرض القوات الروسية لانتكاسات في ساحات القتال في أوكرانيا، من المرجح أن يستخدم الكرملين تدابير استثنائية لوقف تدهور الجيش الروسي، حيث إن التعبئة الجزئية الحالية للقوات المسلحة هي الخطوة الأولى في المرحلة الجديدة من الحرب الروسية في أوكرانيا. وقد تصل تدابير بوتين لكسب الحرب بأي ثمن، بحسب محللين غربيين، إلى استخدام أسلحة نووية، وقد تصل تهديداته إلى ما وراء أوكرانيا. كيف ذلك؟
لماذا يقدم بوتين على مخاطرة قد تكون مدمرة في هذه الحرب؟
يقول لاشا تشانتوريدزي، مدير برامج الدراسات العليا في الدبلوماسية والعلاقات الدولية في جامعة نورويتش العسكرية الأمريكية، إن المخاطر بالنسبة لموسكو في هذه الحرب أعلى بكثير من الانتكاسات التي سببتها المعارك الضائعة.
ويضيف تشانتوريدزي في تحليل بمجلة national interest العسكرية الأمريكية، أنه حتى تاريخياً، أعقبت الحروب الخاسرة في روسيا أزمات وطنية حادة، مصحوبة غالباً بتغييرات داخلية في النظام. ولتجنب هذا الاحتمال، يتعين على الكرملين الآن تجنب مزيد من الخسائر، وتعزيز المكاسب في جنوب وشرق أوكرانيا، وإجبار كييف وداعميها الغربيين على الاعتراف بمكاسب موسكو الحربية من خلال وقف الأعمال العدائية وتوقيع اتفاقية سلام.
وبإعلان التعبئة الجزئية لجنود الاحتياط العسكريين، تخاطر موسكو بإثارة اضطرابات شعبية في روسيا. وفقاً لنسخة الكرملين الرسمية للأحداث، كانت "العملية العسكرية الخاصة" في أوكرانيا تتقدم بسلاسة ودون انحراف عن الخطة. في الوقت نفسه، رفض الكرملين الاعتراف بخسائر بشرية ضخمة في الحرب.
وفي خطابه المتلفز في 21 سبتمبر/أيلول، وصف الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، "العملية العسكرية الخاصة" بالحرب. وفقاً لبوتين، تخوض روسيا حرباً مع الغرب، ولكي تكسبها، تحتاج روسيا إلى 300 ألف جندي احتياطي.
وبعدها عارض بوتين التعبئة العسكرية لأسباب سياسية لعدة أشهر، يبدو أنه أُجبر الآن على الاعتراف للشعب الروسي بأن القادة العسكريين الروس لم يكن لديهم خيار سوى استدعاء جنود الاحتياط.
في الوقت نفسه، ستواصل موسكو استهداف البنية التحتية للطاقة في أوكرانيا لكسر الروح القتالية لشعبها، بينما تستخدم سلاح الغاز والنفط لمعاقبة الأوروبيين على دعمهم لأوكرانيا.
وبحسب لاشا تشانتوريدزي، ستكون الأهداف الرئيسية للهجمات الروسية بعيدة المدى في أوكرانيا هي منشآت توليد الطاقة، وشبكة الكهرباء، وقطاع الطاقة، وسدود الطاقة الكهرومائية، وروابط الاتصالات. وفقاً لبعض التقديرات، دمرت روسيا حتى الآن حوالي عشرين هدفاً للبنية التحتية المدنية في أوكرانيا مقابل كل هدف عسكري مدمر.
مع ذلك، هناك عامل محدد واحد مهم لرغبة الكرملين في تدمير أكبر قدر ممكن من أوكرانيا. حيث تفتقر القوات الروسية إلى الصواريخ، بينما تجنبت القوات الجوية الروسية التحليق في المجال الجوي الأوكراني؛ لأنها فقدت الكثير من الطائرات في المراحل الأولى من الحرب. وتهاجم روسيا بشكل أساسي أهدافاً في أوكرانيا من خارج المجال الجوي الأوكراني، لكنها لا تزال قادرة على إطلاق بضع عشرات من الصواريخ الأرضية والبحرية وحوالي ثلاثين صاروخ جو-أرض يومياً.
هل تصل تهديدات بوتين لما وراء أوكرانيا؟
سيكون هذا الشتاء بارداً بشكل غير عادي بالنسبة للعديد من الأوروبيين، لكن أوروبا مهددة الآن بشتاء نووي أيضاً، بحسب تشانتوريدزي، فمع نجاح القوات المسلحة الأوكرانية، أصبح التهديد باستخدام موسكو أسلحة نووية في محاولتها لإجبار أوكرانيا وداعميها الغربيين على الاعتراف بالمكاسب الإقليمية لروسيا آخذة في الازدياد.
في الواقع، بدأت القيادة الروسية هذه الحرب معتقدة أنها تتمتع بميزة في أنظمة الأسلحة النووية على منافسيها الغربيين. لقد قيل الكثير عن الأسلحة النووية الروسية منذ فشل الحرب الخاطفة التي شنها بوتين على مدى "ثلاثة أيام" في شمال أوكرانيا، وبعضها كان معقولاً، ولكن معظمه كان مضللاً. وبغض النظر، من غير المرجح أن تهاجم روسيا أوكرانيا نفسها بأسلحة نووية. بدلاً من ذلك، من المرجح أن يكون الهدف عضواً أوروبياً في الناتو، أي بلد بعيد جغرافياً عن روسيا.
ويرى تشانتوريدزي، وهو أيضاً أستاذ مشارك في مركز ديفيس، بجامعة هارفارد، وباحث أول بمركز دراسات الدفاع والأمن، في جامعة مانيتوبا، أن لدى روسيا ثلاث طرق عامة لشن ضربة نووية.
1- هجوم كهرومغناطيسي
أحدها هو خيار خضع للكثير من المناقشات، حيث يتم عبر الثلاثي الاستراتيجي -إما عن طريق الصواريخ الأرضية أو البحرية أو بعيدة المدى التي تطلقها الطائرات- لكن يمكن الكشف عن عمليات الإطلاق النووية هذه وتعقبها.
وما لم تشن روسيا ضربة صاروخية جماعية، وهو أمر غير مرجح، لأنها ستدعو إلى انتقام هائل مماثل قبل أن تصل الصواريخ الروسية إلى أهدافها، يمكن لأنظمة الدفاع الصاروخي اعتراض حفنة من هذه الصواريخ.
مع ذلك، يمكن لموسكو نشر أحد رؤوسها الحربية للصواريخ الباليستية العابرة للقارات للتفجير على ارتفاعات عالية، بحسب تشانتوريدزي. وإذا لجأ الروس إلى هذا الخيار، سيفجرون رأساً نووياً عالياً فوق أوروبا أو أوكرانيا لتوليد نبضات كهرومغناطيسية (EMP) يمكن أن تقضي على معظم البنية التحتية الاقتصادية في أوروبا.
وقد يؤدي الهجوم الكهرومغناطيسي على ارتفاعات عالية إلى إتلاف أو تدمير أنظمة الطاقة والاتصالات والنقل في أوروبا، فضلاً عن تعطيل البنوك والمستشفيات والقطاعات الأخرى من اقتصاد القارة.
2- هجوم نووي تكتيكي
يُعرف الأسلوب الآخر لإيصال الرؤوس الحربية النووية عموماً باسم "التكتيكي"، وهذا لا يعني أن هذه الأسلحة أقل تدميراً. والمركبات المفضلة لدى الكرملين لإطلاق رؤوس حربية نووية تكتيكية هي صواريخ كروز كاليبر وكلوب. ويمكن الكشف عن إطلاق هذه الصواريخ، لكن من المستحيل تعقبها، لأنها موجهة وتطير على ارتفاع منخفض جداً على السطح.
وأطلقت روسيا خلال الحرب مئات صواريخ كاليبر المزودة برؤوس حربية تقليدية. وإذا قررت روسيا إطلاق طلقات نووية تحذيرية تجاه أوروبا بهذه الصواريخ، فقد تطلق رأساً أو رأسين حربيين مستهدفين غابة أو منطقة ريفية. رداً على ذلك، يمكن للولايات المتحدة أن تنتقم، بشرط أن يكون لديها القدرة على الانتقام المتماثل في مكان ما في أوروبا.
3- هجوم نووي سري
لم يتم تصنيف الطريقة الثالثة والأكثر خطورة لإيصال الرؤوس الحربية النووية التي يمتلكها الروس رسمياً، ولكنها تمثل بشكل أساسي ضربة سرية. بادئ ذي بدء، فإن جميع أنظمة الصواريخ التي يزيد مداها عن 50 كيلومتراً المصنعة في أواخر الحقبة السوفيتية وروسيا المعاصرة قادرة على حمل رؤوس حربية نووية، ويمكن للمدفعية بعيدة المدى إطلاق قذائف برؤوس نووية أيضاً.
علاوة على ذلك، يمكن للطائرات بعيدة المدى السوفيتية والروسية الصنع غير المخصصة صراحة لهذا الغرض أن تطلق رؤوساً حربية نووية. وهناك أدلة من الحرب في أوكرانيا على أن طائرة من دون طيار واحدة على الأقل حلقت من أوكرانيا على طول الطريق إلى كرواتيا وتحطمت خارج زغرب بعد نفاد الوقود.
في 10 مارس/آذار حلقت طائرة من دون طيار روسية أو أوكرانية من طراز TU-141 Strizh أكثر من 550 كيلومتراً (340 ميلاً) دون أن يتم اكتشافها من قبل أنظمة الدفاع الجوي لثلاث دول في الناتو: رومانيا والمجر وكرواتيا. وبحسب ما ورد حملت قنبلة، لحسن الحظ لم تنفجر عند تحطمها.
وإذا قررت موسكو استخدام نظام التسليم الخفي لرؤوسها النووية، فلن يمكن اكتشافها أو تعقبها. لذلك، إذا انفجر سلاح نووي في مكان ما في أوروبا، فلن يتم التأكد على الفور مما حدث أو من المسؤول.
وسيحاول الكرملين زيادة الارتباك بإنكار المسؤولية أو الاعتراف "بالخطأ" بعد عدة أيام. على أي حال، سيكون من الصعب جداً على الرئيس الأمريكي الرد بالمثل إذا تعرضت إحدى دول الناتو للهجوم والتدمير من قبل روسيا بهذه الطريقة، كما يقول تشانتوريدزي. وستواجه القيادة السياسية الأمريكية صعوبة في أن تشرح للشعب الأمريكي سبب وجوب المخاطرة بالمدن الأمريكية لتدمير مدينة أوروبية غير معروفة في دولة أوروبية صغيرة يُزعم أنها تعرضت للهجوم عن طريق الخطأ.
من ناحية أخرى، سيفقد حلف شمال الأطلسي كل مصداقيته إذا لم تدافع الولايات المتحدة عن أحد حلفائها في الناتو من مثل هذا الهجوم المدمر. وسيفوز الكرملين في هذه الحالة عبر إضعاف الناتو من خلال دق إسفين بين الولايات المتحدة وأوروبا.