مستشفيات الصين أصدق أنباءً من عظات الغرب.. كيف تعزز سياسات أمريكا نفوذ بكين بالعالم الثالث؟

عربي بوست
  • ترجمة
تم النشر: 2022/09/27 الساعة 15:31 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/09/27 الساعة 15:31 بتوقيت غرينتش
الرئيس الصيني شي جين بينغ مع الرئيس الأمريكي جو بايدن عندما كان نائباً للرئيس/رويترز

أظهرت وفاة الملكة إليزابيث الفجوة بين الغرب والعالم الثالث، وكشفت عن رصيد الغرب المتآكل في الجنوب العالمي، مقابل صعود نفوذ الصين في العالم الثالث، المدفوع بشكل كبير بأخطاء السياسة الأمريكية.

ففي وقت سابق من هذا الشهر، قدم قادة دول العالم تعازيهم إلى العائلة الملكية البريطانية في وفاة الملكة إليزابيث الثانية. وحزنت الشعوب، لا سيما في العالم الغربي، لوفاتها.

ولكن في الجنوب العالمي وفي الغرب كذلك، اختار الأساتذة الأكاديميون المتخصصون في الدراسات ما بعد الاستعمارية وفي علوم الأنثروبولوجيا، أن ينعشوا ذاكرة الشعوب حول الاستعمار ووحشية الإمبراطورية البريطانية؛ مما أدى إلى انطلاق سجالات على مواقع التواصل الاجتماعي حول هذا الموضوع، حسبما ورد في تقرير لموقع Responsible Statecraft الأمريكي.

لا يلخص هذا الجدال فحسب الاختلافات الكامنة في قراءات التاريخ بين الغرب والجنوب العالمي، بل إنه يضرب مثالاً مصغراً لظاهرة أكبر تؤثر في السياسة الخارجية الأمريكية والغربية.

الأمريكيون يريدون صياغة احتياجات العالم النامي وفقاً لرؤيتهم

يتمثل التحدي الدائم أمام نظريات العلاقات الخارجية داخل الولايات المتحدة في الرؤية السطحية للشؤون الخارجية وأحادية اتخاذ القرار نتيجة لذلك. يميل المحللون والمؤسسات الفكرية وصناع السياسة في واشنطن ونيويورك إلى صياغة السياسات استناداً إلى فهمهم لاحتياجات سكان العالم أو افتراضهم لهذه الاحتياجات، هذا أصلاً إذا اختاروا تضمين احتياجات سكان العالم في صنعهم القرارات.

ثمة اختلاقٌ تشكّل عبر طريقة التفكير هذه، ويتجسد في تقسيم إدارة بايدن العالم إلى معسكرين: معسكر الأنظمة الديمقراطية، ومعسكر الأنظمة الاستبدادية. لا يمكن أن يكون هناك تأطير للعالم أكثر انفصالاً من تلك الثنائية؛ إذ إن الامتيازات التي تأتي مع نظام ديمقراطي يعمل بكامل طاقته، مثل حرية الكلام والفكر والتعبير، ليست بالضرورة هي احتياجات المجتمعات في الجنوب العالمي، بقدر ما هي محض رغبة لهذه المجتمعات. 

قادة مجموعة الدول السبع خلال قمتهم الأخيرة في ألمانيا/الأناضول

قد يكون هذا مثيراً للاهتمام بالنسبة لكثيرين في واشنطن، ولكن -حتى في يومنا المعاصر- هناك كثيرون في أمريكا اللاتينية وإفريقيا جنوب الصحراء، بل وأيضاً في أوروبا الشرقية، يكافحون من أجل تلبية احتياجاتهم الأساسية التي تقع أسفل تسلسل ماسلو الهرمي للاحتياجات: الاحتياجات الفسيولوجية (الهواء والمياه والغذاء والمأوى والثياب)، واحتياجات الأمان (السلامة الجسدية والأمن الوظيفي وأمن الموارد وأمن الممتلكات).

وفي غضون ذلك، يروّج قادة مجموعة الدول الصناعية السبع احتياجات التقدير التي تقع أعلى هرم ماسلو، مثل الحرية واحترام الذات.

مقابل العظات الغربية نفوذ الصين في العالم الثالث يتزايد عبر المساعدات الملموسة 

لخص مسؤول كيني الأمر تلخيصاً وجيزاً وبليغاً، فقال: "عندما يزورنا قائد بريطاني يعطينا محاضرة. وعندما يزورنا قائد صيني يعطينا مستشفى".

تحتاج الولايات المتحدة أن تعيد ضبط سياستها الخارجية. وهناك مضربُ مثلٍ في هذه النقطة يتمثل في استجابة بلاد؛ مثل روسيا والصين والهند لجائحة كوفيد-19. فقد كانت أول البلاد التي تعطي اللقاحات إلى بلاد الجنوب العالمي. وحينما كانت الولايات المتحدة تحت إدارة ترامب تفرض حظراً على التصدير، كانت اللقاحات الصينية والهندية تصل إلى بلاد تمثل فناء أمريكا الخلفي.

الغرب تجاهل مخاوف دول الجنوب عندما عاقب روسيا

لننظر مثلاً إلى الإصدارات الأخيرة القليلة لاجتماعات مجموعة بريكس مقابل اجتماعات مجموعة الدول الصناعية السبع. على سبيل المثال، احتل قادة الدول الصناعية السبع الذين لم يرتدوا رابطات العنق، عناوين الأخبار في الولايات المتحدة أكثر من قادة الدول الأعضاء في مجموعة بريكس، الذين كانوا يقترحون بدائل للدولار الأمريكي في التجارة، وزيادة التعاون على صعيد الطاقة، وتوسعة نطاق المجموعة لتشمل مزيداً من البلاد في الجنوب العالمي.

وفي غضون ذلك، لما كان العالم الغربي يطلق العنان للعقوبات الأحادية ضد روسيا في الربيع الماضي، كان العالم النامي يواصل التعبير عن مخاوفه من تأثير هذه العقوبات على أنظمته الاقتصادية؛ لأن ارتفاع أسعار النفط والأسمدة والحبوب يحمل تأثيراً مباشراً على حياة مليارات الأشخاص الذي يعيشون في بلاد الجنوب العالمي. وبينما كانت مجموعة الدول الصناعية السبع تتباحث حول الطرق الناجعة لهزيمة روسيا، كان لدى البلاد النامية شواغل أكبر تتعلق بتوفير الغذاء وإمداد المنازل والمستشفيات بالكهرباء.

دعونا نقارن هذا باستجابة مجموعة الدول الصناعية السبع، لا سيما استجابة بايدن لارتفاع الأسعار: "سوف تبقى أسعار الغاز الطبيعي مرتفعة حتى تنتصر أوكرانيا". هذا الانفصال عن احتياجات الجنوب العالمي يمكن أن تستغله الصين أفضل استغلال؛ حيث تسعى لارتداء عباءة القيادة في هذه المنطقة من العالم.

نفوذ الصين في العالم الثالث
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع نظيره الصيني/رويترز

ومن خلال كيانات على شاكلة البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية (AIIB) ومبادرة الحزام والطريق، والآن مجموعة بريكس، تنخرط الصين -وكذلك روسيا عبر قليل من المنتديات- مع البلاد النامية وتيقظ المخاوف الخامدة، مثل الآثار طويلة الآجل للاستعمار، وتُعرِّفُ البلاد النامية بالتجاهل من جانب الغرب تجاه احتياجاتهم. تلقى هذه الرسائل قبولاً لدى قليل من البلاد الفقيرة، بل وربما الكثير منها.

واستناداً إلى الاهتمام الذي أعربت عنه الدول للانضمام إلى مجموعة بريكس، فلن يكون مفاجئاً إذا حاولت الصين في يوم من الأيام أن تستخدم الدول الجزرية وأراضي الدول الغربية في المحيط الهادئ؛ من أجل أن تنظم "ربيعاً جزرياً" يمكن أن يحاول في الأساس إطاحة الوجود الغربي على أراضي هذه الدول أو الاحتجاج بقوة ضد هذا الوجود.

يجب أن يقدم موقف جزر سليمان درساً للعالم الغربي يُنسب إلى الحكمة القديمة التي تقول: "الوقاية خير من العلاج". إن نهج السياسة الخارجية المتأخرة، مثل استضافة الولايات المتحدة قادة جزر سليمان في منتدى جزر المحيط الهادئ في 13 سبتمبر/أيلول، بعد أشهر من توصل الصين إلى شراكة أمنية مع جزر سليمان، يوضح أن هذه التدابير هي محض استجابة للمقدمات التي دفعت بها الصين في المنطقة.

بكين بحوزتها تريليونات الدولارات التي يمكن استثمارها في الدول الفقيرة

على عكس الاتحاد السوفيتي خلال حقبة الحرب الباردة، تمتلك الصين تريليونات الدولارات من رأس المال الذي تستثمره حول العالم من خلال مبادرة الحزام والطريق.

تتنوع المزايا الاقتصادية والاجتماعية لمشروعات هذه المبادرة من بلد لآخر، مع الإقرار بوجود حالة استياء من المبادرة، متقطعة وغير منتشرة، بين بلاد الجنوب العالمي.

تعد الصين أكبر دولة تجارية في العالم وتسيطر على سلاسل التوريد الخاصة بعديد من الصناعات المهمة للأمن القومي الأمريكي. فضلاً عن أن التقارير تشير إلى أن بكين تخطط لزيادة وجودها العسكري في بحر الصين الجنوبي وفي بلاد على شاكلة إيران وباكستان وغينيا الاستوائية.

والأهم من كل هذا أن الصين تتنافس على دور القيادة في الجنوب العالمي وتحرز تقدماً، ليس فقط في البلاد التي لديها نزاع مع العالم الغربي، مثل إيران والأرجنتين، بل وأيضاً مع كثير من الدول النامية، وذلك عن طريق الصداقة والتضامن على صعيد التحديات الوجودية المشتركة.

نفوذ الصين في العالم الثالث
الرئيس الصيني مع رئيس جنوب إفريقيا ماتاميلا سيريل رامافوزا/رويترز

ويظهر نفوذ الصين في العالم الثالث، في أوضح صوره، في إفريقيا تحديداً، فإضافة للقروض والاستثمارات الصينية، فمبيعات الأسلحة الصينية لدول القارة تتزايد.

وتقول مجلة National Interest الأمريكية إن بكين لا تعد مورداً رئيسياً للأسلحة في إفريقيا فحسب، بل إنها تعمل أيضاً على توسيع نفوذها الاقتصادي والعسكري في المنطقة بسرعة. في السنوات الأخيرة، أنشأ الصينيون قاعدة عسكرية في جيبوتي على مقربة من الوجود الأمريكي هناك.

وقال الجنرال ستيفن تاونسند، قائد القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا "أفريكوم"، إن بكين تتطلع إلى إنشاء ميناء بحري كبير قادر على استضافة غواصات أو حاملات طائرات على الساحل الغربي لإفريقيا، مضيفاً أن الصين تواصلت مؤخراً مع دول تمتد من موريتانيا إلى جنوب نامبيا، عازمة على تأسيس منشأة بحرية. وإذا حققت ذلك، فستتمكَّن الصين من مركزة سفن حربية في أسطول بحري ممتد عبر المحيط الأطلسي وكذلك المحيط الهادئ.

بينما أمريكا تلوح بالقوة العسكرية

إذا أرادت الولايات المتحدة الوقوف في وجه التحديات المتنوعة التي تشكلها الصين، فينبغي لها أن تستخدم فن الحكم الاقتصادي، والدبلوماسية، والقوة الناعمة الاستراتيجية بدلاً من اللجوء إلى القوة العسكرية التقليدية.

ويرى الموقع الأمريكي أن فن الحكم الاقتصادي الأمريكي، حسب تعبيره، يجب أن يعتمد على ثلاث دعامات هي، دعم أصدقاء واشنطن في العالم الثالث، ودعم إعادة الصناعات إلى الأراضي الأمريكية، ودعم الأنشطة والموارد القريبة من الولايات المتحدة، وهو ما سيقلّل الاعتماد المفرط من جانب واشنطن على الصين في توفير السلع والخدمات الأساسية، وفي الوقت ذاته سوف يزيد الفرص الاقتصادية أمام حلفاء الولايات المتحدة وجيرانها. 

رغم أنه يجب عليها بناء المستشفيات

وامتداداً لهذا النهج، يجب على الولايات المتحدة أن توفر الطرق والجسور والمستشفيات للبلاد التي تحتاج إليها حاجة ماسة. وثانياً، يجب على الدبلوماسية أن تشكل الحوار والدعم للمؤسسات المدنية التي يمكنها أن تساعد في مسعى كسب الأصدقاء بدلاً من التدابير العدائية لتغيير النظام. إضافة إلى أن واشنطن يجب عليها أن تُشرك البلاد النامية في عملية صنع القرار، لا سيما القرارات التي قد تحمل تأثيراً ذا نطاق واسع على أنظمتها الاقتصادية ومجتمعاتها، مثل العقوبات والاتفاقات الأمنية.

وأخيراً، يجب أن تُنَفَّذ القوة الناعمة عن طريق المبادرات الدبلوماسية العامة وزيادة التبادل العلمي مع بلاد جزر المحيط الهادئ والبلاد النامية في مناطق العالم الأخرى.

وبينما تضع الولايات المتحدة المحور الخاص بالتعامل مع آسيا وفي الوقت ذاته تنخرط مع الدول في المحيط الهادئ والدول الأخرى في الجنوب العالمي، يجب عليها بذل جهود متضافرة لقراءة التاريخ من منظور شعوب المنطقة، وتَبَنِّي سياسة خارجية أكثر مساواة تلبي احتياجاتهم،  وإذا لم تفعل ذلك ستجد في القريب دول العالم النامي في أحضان الصين.

تحميل المزيد