يتجه الاقتصاد العالمي بقوة نحو ركود كارثي يعاني منه الجميع، ومع إصرار أمريكا على مواصلة حربها التجارية ضد الصين تزداد الأمور سوءاً، ليس فقط لواشنطن وبكين، ولكن للعالم أجمع.
ويمكن تلخيص القصة في أن الصين وأمريكا هما أكبر اقتصادين في العالم، وفض الشراكة والتعاون بينهما يعني انعكاساً مباشراً على حركة التجارة العالمية، وتأثيرات كارثية على سلاسل الإمداد الحالية، التي لم تتعافَ بعدُ من جائحة كورونا ولا ارتفاع أسعار الطاقة، ثم الحرب الروسية في أوكرانيا.
وتناول تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية، عنوانه "مَن الفائز في الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين؟"، تداعيات ذلك الصراع، الذي باتت أمريكا تراه "وجودياً"، على حركة الاقتصاد العالمي بشكل عام.
جو بايدن ومعاداة الصين
ولكن فيما يخص أكثر بنود جدول الأعمال إهمالاً لبايدن، وهو تعزيز التجارة العالمية، فإن الأمور تراوح مكانها تقريباً. هذا أمر مقلق، لأنه يعني أنه مع وجود ركود عالمي محتمل يلوح في الأفق فإن قلة من الأشخاص في السلطة في حكومة الولايات المتحدة -أو الاقتصادات الرائدة الأخرى- يركزون على تنمية الاقتصاد العالمي.
على العكس من ذلك، فإن كل علامة تشير إلى أن أكبر اقتصادين في العالم؛ الولايات المتحدة والصين، قد استقرتا في حرب تجارية طويلة الأمد، دون أن تلوح نهايةٌ في الأفق، وهو ما سيؤدي حتماً إلى انكماش الاقتصاد العالمي.
من المنطقي أن نستنتج أنه بعد عامين تقريباً من إدارة بايدن، أصبحنا في عصر جديد لم يعد فيه الاقتصاد مهماً. وبدلاً من ذلك، تسود صيحات الحشد الشعبوية حول القومية التكنولوجية. الولايات المتحدة والاقتصادات الرئيسية الأخرى في وضع دفاعي، وعلى استعداد لرفع المزيد من الحواجز التجارية والتعريفات إذا لزم الأمر.
يمكن تسمية هذا التغيير بأنه الذيل الطويل لـ"الصدمة الصينية"، وهي ظاهرة العقود الأخيرة، حيث فرّ المنتجون الأمريكيون إلى مصادر عمالة أرخص في الخارج، لا سيما في الصين الصديقة للسوق حديثاً. في واشنطن، استُبعِدَت الحكمة الاقتصادية التقليدية حول فوائد النمو للأسواق الحرة من المناقشة إلى حد كبير. يبدو أن الجميع أصبحوا قوميين اقتصادياً، خاصةً فيما يتعلق بالصين.
منذ ما يقرب من عام، كانت إدارة بايدن تراجع مئات التعريفات، أو الضرائب على التجارة، التي فرضها سلف بايدن دونالد ترامب، الذي انسحب من آخر اتفاقية تجارة حرة كبيرة لواشنطن، الشراكة عبر المحيط الهادئ. من الواضح أن الرئيس يخشى العواقب السياسية للظهور بهدوء تجاه الصين. هذا على الرغم من اعتراف مسؤول كبير في الإدارة لمجلة فورين بوليسي، في أوائل شهر مايو/أيار، بأنه "لا توجد حالة استراتيجية" للعديد من هذه التعريفات، وأنها "تلحق الضرر فقط بالمستهلكين والمصنِّعين الأمريكيين".
قالت نائبة الممثل التجاري سارة بيانكي إن الأمر سيستغرق حتى العام المقبل لاستكمال مراجعة مدتها أربع سنوات مقررة لواردات الصين، بموجب المادة 301 من قانون التجارة الأمريكي لعام 1974. يسمح هذا لواشنطن بمعاقبة دولة يُنظر إليها على أنها تنتهك المعايير التجارية، ويُزعم أن الصين تفعل ذلك من خلال سرقة الملكية الفكرية، وإجبار الشركات الأجنبية على نقل التكنولوجيا، ودعم الصادرات بشكل كبير للسيطرة على القطاعات الصناعية الرئيسية.
هل هذا قرار أمريكي استراتيجي؟
في أكتوبر/تشرين الأول 2021، قالت الإدارة إنها ستعيد النظر في التعريفات كجزء من خطة لإعادة فتح المحادثات مع الصين، والتوصيات بشأن إزالة بعض التعريفات موجودة الآن على مكتب بايدن، لكن "نحن ننتظر أن نسمع من الرئيس في قضيتين"، وفقاً لمسؤول كبير في الإدارة، تحدث لفورين بوليسي بشرط عدم الكشف عن هويته.
قد تكون الوتيرة البطيئة في حد ذاتها استراتيجية، ففي مقابلة بودكاست حديثة، دافعت الممثلة التجارية الأمريكية كاثرين تاي على نطاق واسع عن تعريفات ترامب، باعتبارها "استجابة لقلقٍ مشروع اقتصادياً وتنافسياً" بعد عقدين من المشاركة الفاشلة مع بكين.
ما كان يمكن أن يكون، في حقبة سابقة، هو نقاش اقتصادي حاد حول التعريفات أصبح موضع نقاش بسبب الأجواء السياسية المتوترة في واشنطن، حيث يسعى بايدن إلى الحفاظ على أغلبية ضئيلة في مجلسي النواب والشيوخ قبل انتخابات التجديد النصفي لشهر نوفمبر/تشرين الثاني.
في الوقت نفسه، تُظهر الإدارة الثقة بشأن نهجها في التجارة، والذي يؤكد على حقوق العمال، ومبادرات مكافحة الفساد، والحد من عدم المساواة في الدخل من خلال التغييرات المقترحة في قانون الضرائب، والقواعد التجارية الجديدة لتكنولوجيا الطاقة الرقمية والنظيفة. تُضمَّن العديد من هذه الأولويات في المبادرة التجارية متعددة الأطراف الوحيدة لإدارة بايدن، المنتدى الاقتصادي لدول المحيطين الهندي والهادئ.
عُقد أول اجتماع لوزراء الدول المشاركة في المنتدى في وقت سابق، في سبتمبر/أيلول، في لوس أنجلوس، وتمكن فريق بايدن من جمع جميع الأعضاء الأربعة عشر باستثناء الهند (بما في ذلك اليابان وأستراليا وسنغافورة وفيتنام وكوريا)، للتوقيع على جدول أعماله التجاري. رغم أن تاي أسقطت يوم الأحد أي آمال فورية فيما يسميه صانعو السياسة "المنجزات"- الفوائد التجارية بعبارة أخرى- من المنتدى الاقتصادي لدول المحيطين الهندي والهادئ.
ولكي نكون منصفين، قدم بايدن بعض الاستثناءات من الرسوم الجمركية الصينية بالفعل، على سبيل المثال، من خلال السماح مؤقتاً باستيراد الألواح الشمسية الصينية الصنع من دول جنوب شرق آسيا (نقلت بكين بعض مصانعها إلى تلك المنطقة للتهرب من الرسوم الجمركية). وقبل عام، توصلت الإدارة إلى اتفاق محدود لرفع الحواجز عن تجارة الصلب والألومنيوم مع الاتحاد الأوروبي.
يجادل مسؤولو إدارة بايدن بأن الاتفاقات التجارية الكبيرة تستغرق دائماً سنوات حتى تكتمل، والمشاركة في حد ذاتها تساعد. لكن الأجندة التجارية الكبيرة الأخرى التي تحب الإدارة الترويج لها- محادثات منفصلة لتوسيع التجارة مع تايوان (التي استُبعِدَت من المنتدى)- تخلق مخاوف جديدة. ولن يؤدي الاتفاق مع تايوان إلا إلى زيادة تجميد العلاقات بين الولايات المتحدة والصين، حيث تشعر بكين بالاستياء من الجهود الأمريكية الجديدة للاقتراب من تايبيه.
الدولار القوي يخنق العالم
في الوقت نفسه، أصبحت البيانات الاقتصادية العالمية أكثر كآبة. يوم الأربعاء الماضي، أو في الاحتياطي الفيدرالي، بوعده بمزيد من "الألم" الاقتصادي عندما رفع سعر الفائدة على الأموال الفيدرالية بمقدار ثلاثة أرباع نقطة أخرى، وأشار إلى أن المزيد من الزيادات قادمة. من الواضح أن رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول، الذي تعرض لانتقادات بسبب تحركه ببطء شديد في الحد من ارتفاع الأسعار، ملتزم الآن بالوقوع في جانب الركود عندما يتعلق الأمر بسحق التضخم. يحذر تقرير جديد للبنك الدولي من أن ارتفاع أسعار الفائدة والتباطؤ العالمي يمكن أن "يؤدي إلى ركود عالمي في عام 2023″، بالإضافة إلى احتمال حدوث مزيد من الركود التضخمي.
رئيس مجموعة البنك الدولي، ديفيد مالباس، قال: "يتباطأ النمو العالمي بشكل حاد مع احتمال حدوث مزيد من التباطؤ مع دخول المزيد من البلدان في الركود". وأشار التقرير إلى القيود المفروضة على التجارة كعامل رئيسي، قائلاً إن صانعي السياسة "بحاجة إلى وضع تدابير لتخفيف القيود التي تواجه أسواق العمل وأسواق الطاقة والشبكات التجارية".
يعتقد وزير الخزانة الأمريكي السابق لاري سامرز- الذي تجاهل بايدن تحذيراته من الاتجاهات التضخمية الخطيرة العام الماضي- أن الركود قادم إلى كل من الولايات المتحدة وأوروبا، والذي قد ينتهي به الأمر إلى أسوأ. وقال سامرز الأسبوع الماضي إن هذا يرجع جزئياً إلى "الضعف المذهل" الذي خلقه الأوروبيون لأنفسهم من خلال الاعتماد المفرط على الطاقة الروسية.
ويوم الأربعاء 21 سبتمبر/أيلول، صعَّد الاقتصاديون في بنك دويتشه بشكل كبير توقعاتهم بحدوث ركود خطير في منطقة اليورو، قائلين إنهم يتوقعون انكماش الإنتاج بنسبة 2.2% العام المقبل، مقارنة مع توقع سابق بتراجع 0.3%.
ومع ذلك، فإن الاتجاه الأعمق طويل الأمد وأكثر إثارة للقلق، وهو أن يُهمَل الاقتصاد جانباً. يحتل الاقتصاديون المشهورون مثل جانيت يلين، التي خلفت سامرز كوزيرة للخزانة والتي حذرت أيضاً من مخاطر التعريفات الجمركية، مقعداً خلفياً أمام صقور الصين في الإدارة. لقد استقرت القومية الجديدة بعمق في كلا الحزبين السياسيين. يحكم أنصار التقييد التجاري واشنطن، ويكاد يكون من المستحيل العثور على أنصارٍ للتوسع الصريح، حتى في مجتمع الأعمال.
انظر فقط إلى ما حدث عندما وصف الرئيس التنفيذي لشركة CHIPS، إيفان غرينبيرج، الرئيس السابق لمجلس الأعمال الأمريكي الصيني، فكرة "الفصل" بين الولايات المتحدة والصين بأنها "استحالة اقتصادية"، في يونيو/حزيران الماضي. وجد غرينبيرج نفسه وحيداً، مع عددٍ قليل من قادة الأعمال الذين يؤيدون وجهة نظره.
في واشنطن، هناك إجماع واسع النطاق الآن على أن الولايات المتحدة يجب أن تبتعد عن الصين، علاوة على الانسحاب من سلاسل التوريد المُعولَمة، وإعادة بناء الصناعة الحيوية في الداخل، حتى إلى درجة فحص الاستثمارات من الخارج. والنتيجة هي عودة نوع السياسة الصناعية التي كانت تعتبر مسرفة في الماضي، والتي يعتقد الكثير من الأمريكيين أنها ضرورية الآن.
هل تستفيد أمريكا من تلك الحرب؟
في أواخر يوليو/تموز، أقر مجلس الشيوخ الأمريكي المنقسم عادة مشروع قانون ضخم بقيمة 280 مليار دولار لاستثمار الدولارات الفيدرالية في شركات التكنولوجيا الفائقة بأغلبية 64 صوتاً مقابل 33 صوتاً، وصوَّت 17 جمهورياً لصالحه. وكجزء من هذا التشريع، دعم كلا الحزبين خطة بايدن لتخصيص أكثر من 50 مليار دولار لتجاوز الصين من خلال بناء صناعة أشباه الموصلات المحلية في أمريكا. وفي يوم الثلاثاء، أعلنت الإدارة عن فريق من التقنيين البارزين ذوي الخبرة في توزيع الأموال الحكومية لتشغيل مكاتب CHIPS المنشأة حديثاً في أمريكا.
في خطاب حالة الاتحاد لعام 2022، أعلن الرئيس، وسط تصفيق من كلا جانبي الممر، أنه "بدلاً من الاعتماد على سلاسل التوريد الأجنبية، دعونا نجعلها في أمريكا. يسميها الاقتصاديون "زيادة القدرة الإنتاجية لاقتصادنا". وأنا أسميها بناء أمريكا أفضل. ستعمل خطتي لمكافحة التضخم على خفض التكاليف". قال بايدن قبل ذلك بعام: "ببساطة لا يوجد سبب يمنع بناء توربينات رياح في بيتسبرغ بدلاً من بكين. لا سبب".
في الواقع، هناك سبب؛ أكثر من 200 عام من التفكير الاقتصادي المثبت وفكرة الميزة النسبية، والتي تملي على الدول الأخرى أن تبني مثل هذه الأشياء بشكل أكثر كفاءةً وأفضل سعراً، وهو ما يساعد الجميع في النهاية. وعلى أي حال، ارتفع التضخم فقط، تماماً كما توقع الاقتصاديون التقليديون.
من بعض النواحي، لا أحد يتحمل مسؤولية هذا الوضع أكثر من مهنة الاقتصاد نفسها، والتي في السنوات التي أعقبت الحرب الباردة، تجاوزت في الترويج لمنافع الأسواق الأكثر حرية. ربما تكون هذه السياسة قد ساعدت في وضع ترامب، وهو شعبوي حمائي مع القليل من المعرفة بالاقتصاد، في البيت الأبيض، واعداً "باستعادة التصنيع في الولايات المتحدة". أدت "صدمة الصين" إلى خسارة ملايين الوظائف الأمريكية، خاصة في التصنيع، وولدت صعود الشعبوية المناهضة للصين. وبينما استنكر بايدن العديد من سياسات ترامب الانعزالية الجديدة، فقد ترك جزءاً مفاجئاً من أجندته التجارية، بما في ذلك، بالطبع، معظم تعريفاته.
يقول مسؤولو الإدارة إن المنتدى الاقتصادي لدول المحيطين الهندي والهادئ مُصمَّم لضمان عدم فتح أبواب التجارة الأمريكية مرة أخرى دون الحصول على ما يكفي في المقابل. وهم يشيرون إلى تبسيط الأسواق الرقمية وتخفيف القيود الضريبية. وتشير الدلائل المبكرة إلى أن القومية الجديدة ليست كلها سيئة. بعض عمليات إعادة التصنيع تحدث بالفعل. ووفقاً لتقرير جديد، يمكن للشركات الأمريكية إعادة ما يقرب من 350 ألف وظيفة إلى الولايات المتحدة هذا العام، ارتفاعاً من 260 ألف وظيفة في عام 2021 والأحدث في التاريخ الحديث.
لكن الحقيقة هي أن معظم الشركات متعددة الجنسيات لا تعيد معظم وظائف التصنيع. إنهم ينتقلون ببساطة إلى أماكن جديدة غير الصين. ورغم أن بايدن سعى إلى استثمار الكثير من الأموال في التعليم، فشلت الولايات المتحدة في تدريب شعبها جيداً بما يكفي للعودة إلى التصنيع عالي التقنية بأعداد كبيرة.