جاء إعلان المصارف اللبنانية إغلاق أبوابها هذا الأسبوع ليضيف تعقيداً لأزمة البلاد الاقتصادية التي وصفتها جهات دولية بأنها الأسوأ منذ قرن، وسط مخاوف من أن تؤدي أزمة غلق المصارف اللبنانية لكارثة إنسانية في البلاد، وتبدد المحاولات الأخيرة لإنقاذ الاقتصاد.
وأعلنت جمعية المصارف اللبنانية أن البنوك اللبنانية ستغلق أبوابها 3 أيام اعتباراً من أمس الإثنين 19 سبتمبر/أيلول 2022، بسبب مخاوف أمنية، مع توالي اقتحامات المودعين لعدد من المصارف الأسبوع السابق، مع توقعات بأن إغلاق المصارف اللبنانية قد يطول أكثر من ذلك.
مقتحمو المصارف يتحولون إلى أبطال شعبية والليرة في أدنى مستوى لها
واقتحم مودعون نحو 8 مصارف الأسبوع الماضي وبداية الأسبوع، في محاولة لاستعادة أموالهم بالقوة، وتزايدت الموجة بعد نجاح بعض المودعين في الحصول على جزء من أموالهم، خاصة بعد تحول السيدة اللبنانية سالي حافظ، إلى أيقونة بعد أن اقتحمت مصرفاً للحصول على أموالها، لأن أختها طريحة فراش المرض بسبب السرطان، ووعدتها بأن تعالجها في الخارج، ولو كلفها ذلك حياتها، حيث قادت سالي حافظ مجموعة من جمعية تدعى "صرخة المودعين"، المدافعة عن أصحاب الودائع المحجوزة في البنوك، واختارت الفرع الذي تملك فيه حساباً واقتحمته واحتجزت رهائن لساعات، حتى سحبت 13 ألف دولار، و6 ملايين ليرة لبنانية.
وأصيبت البنوك اللبنانية بالشلل منذ انهيار النظام المالي عام 2019 تحت وطأة الديون العامة الضخمة، الناجمة عن عقود من الفساد؛ مما أدى إلى حرمان المودعين من مدخراتهم.
وسجّلت الليرة اللبنانية أدنى مستوياتها مقابل الدولار في السوق الموازية، تزامناً مع بدء المصارف الإثنين إقفالاً لمدة ثلاثة أيام احتجاجاً على عمليات الاقتحام.
ولامس سعر الصرف أمس الإثنين عتبة 38.600 ليرة مقابل الدولار الإثنين، وفق تطبيقات عبر الإنترنت وصرافين، في مستوى هو الأدنى منذ بدء الانهيار الاقتصادي الذي يشهده لبنان منذ قرابة ثلاثة أعوام ويصنفه البنك الدولي من بين الأسوأ في العالم.
ومنذ صيف العام 2019، خسرت الليرة قرابة 95% من قيمتها أمام الدولار، فيما لا يزال سعر الصرف الرسمي مثبتاً عند 1507 ليرات (سعر الصرف قبل الأزمة). ويتزامن ذلك مع أزمة سيولة حادة وتوقّف المصارف عن تزويد المودعين بأموالهم بالدولار.
ويندلع العنف بانتظام بين العاملين في البنوك والمدخرين غير القادرين على استرداد أموالهم في بلد سقط حوالي 80% من سكانه في براثن الفقر منذ العام 2019.
وفرضت البنوك اللبنانية قيوداً على سحب المودعين لأموالهم منذ حدوث الأزمة الاقتصادية، وتسمح للمودعين بالدولار، بالحصول على أموالهم بالليرة؛ مما قد يعني أنهم قد يحصلون على أموالهم بأقل من عشر قيمتها قبل الأزمة.
وبينما تؤكد المصارف اللبنانية أن الأزمة سببها تصرفات السياسيين والتوسع في الاقتراض، فإن المواطنين يتهمون أصحاب المصارف بالمشاركة في الفساد، مما جعل المصارف محط غضبي شعبي تقوده قوى المجتمع المدني.
وقبل أيام عقدت الجمعية العمومية الطارئة للمصارف اجتماعاً استثنائياً أدى إلى إصدار بيان، جاء فيه أنه "لا يمكن للمصارف أن تبقى رغماً عنها في مواجهة مع المودعين لأسباب لا تتحمل مسؤوليتها، ولا يمكن أن تتحمل نتائج سياسات مالية سابقة وتدابير مجحفة صادرة عن السلطات المختصة جعلتها كبش محرقة تجاه المودعين، ولا أن تكون ضحية مواقف شعبوية تصدر نتيجة تموضع سياسي، أو أن تتحمل تدابير غير قانونية صادرة بحقها".
نجاح بعض المودعين في الحصول على أموالهم فاقم الظاهرة
وقام أحد المودعين باقتحام مصرف تجاري في بيروت للمطالبة بالحصول على وديعته، كما اقتحم أحد المودعين مصرفاً تجارياً آخر في بلدة الغازية جنوبي البلاد، مطالباً بالحصول على وديعته المالية أيضاً، وأشهر أحد المودعين مسدساً بلاستيكياً، مطالباً العاملين في المصرف بتسليمه وديعته، مهدداً بحرق نفسه إذ لم تتم تلبية مطلبه. وانتهى الحادث بعد أن حصل المودع على نحو 20 ألف دولار، ثم سلّم نفسه للسلطات الأمنية، حسبما ورد في تقرير لقناة الجزيرة.
ونقلت وكالة رويترز عن مصدر أمني أن السلاح الذي كان بحوزته يُعتقد أنه لعبة.
وفي حادثة مماثلة ثانية بعدها بساعات، احتجز مسلح آخر رهائن داخل بنك لبنان والمهجر (بلوم) فرع الطريق الجديدة بالعاصمة بيروت، حيث كان يهدف أيضاً للحصول على أمواله.
وقالت رويترز إن إطلاق نار سمع خلال اقتحام بنك لبناني في بلدة شحيم، كما أفادت وكالة الأنباء اللبنانية بأن وزير العدل الأسبق أشرف ريفي وصل البنك في الطريق الجديدة للتفاوض مع مودع يحتجز موظفين.
وقد هدد المودع بسكب مادة البنزين، وحرق المكان برمته في حال لم يحصل على وديعته. إلا أن القوى الأمنية ومخابرات الجيش تدخلت على الفور لاحتواء الوضع، ثم سلم المودع نفسه إلى الأمن بعد الحصول على وديعته وقيمتها 19200 دولار، بحسب ما أفادت به وسائل إعلام محلية.
كما نشر الإعلام اللبناني، أنباء عن اقتحام مودع آخر الجمعة الماضي، البنك اللبناني الفرنسي في وسط بيروت.
إغلاق المصارف اللبنانية قد يطول
ومن الواضح أن مدة إغلاق المصارف اللبنانية، قد تكون بمثابة تحذير للجهات الحكومية بالتدخل، حيث قال عضو جمعية المصارف، تنال صباح، لموقع "الحرة" إن الإغلاق قد يستمر، "حتى تستتب الأمور، لا نعلم المدة بعد، ولكن إلى أن تضبط هذه الفوضى التي ما عادت تقتصر آثارها على المصارف فحسب، إذ يقول إن العاملين بالمصارف يواجهون مشكلة في إمكانية التنقل بالشوارع"، في إشارة لخشية أعضاء الجمعية على سلامتهم الشخصية.
وتتهم المصارف اللبنانية الحكومة بعدم توفير الحماية الكافية لهم، ويرى مراقبون أن هذه الحوادث ستكون متكررة خلال الفترة المقبلة حتى تصبح روتينية وسط انهيار اقتصادي وصف بأنه الأسوأ، وقال رئيس اتحاد نقابة موظفي المصارف جورج الحاج، إنه "من المفترض أن يكون هناك مجموعة تدابير قبل الدخول إلى المصارف، لمنع القيام بأي أعمال مخلة بالأمن، وهذا عمل القوى الأمنية".
وحذر رئيس نقابة موظفي المصارف في لبنان أسد خوري، أنه "إذا لم تصل الأمور إلى إيجاد جو عمل طبيعي في المصارف فنحن ذاهبون إلى إعلان الإقفال التام"، وقال هناك أمر ما مبرمج لتوسيع الظاهرة.
تهديدات باقتحام منازل أصحاب المصارف لو استمر الإغلاق
"المصارف تريد أن تستثمر هذه العمليات للضغط على المجلس النيابي لإقرار قانون الكابيتول كونترول أو خطة تعاف على حساب المودعين"، حسبما قال مؤسس ورئيس جمعية المودعين حسن مغنية.
وقال حسن مغنية، إن عمليات اقتحام المصارف من قبل المودعين، كانت متوقعة ولن تكون الأخيرة، وهي محقة وقد أتت ردة فعل طبيعية حيال ثلاث سنوات من اللامبالاة بحقوقهم، خصوصاً بعد أن بدأت تقع حالات من الوفيات بسبب نقص الأموال لدى المودعين، معتبراً أن السلطة السياسية ومصرف لبنان وجمعية المصارف، وحدهم يتحملون مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع.
وأضاف أنه بدلاً من أن يشكلوا خلية أزمة لمعالجة الأمر عبر خطة محكمة، اكتفوا بالتنظير على المودعين، وبتقاذف المسؤوليات فيما بينهم، ضاربين عرض الحائط بواجبهم الوطني في إيجاد الحلول، وإخراج المودعين من المستنقع الأسود.
وأغلق محتجون ينتمون للحراك الشعبي دوائر رسمية في حلبا بشمال البلاد، اعتراضاً على توقيف ناشطين باقتحام المصارف، حيث أغلقوا مكاتب المحافظة، نفوس حلبا، المحكمة الشرعية والمحكمة المدنية.
وقال موسى أغاسي منسق جمعية تسمى صرخة المودعين إننا سنهاجم بيوت أصحاب المصارف إذا أغلقت أبوابها.
ردود فعل غربية على إغلاق المصارف
من جانبها، أعربت السفارة البريطانية في بيروت عن قلقها العميق إزاء إغلاق المصارف اللبنانية لعدد من الحسابات التابعة لأصحاب الحسابات في لبنان من المواطنين البريطانيين والمقيمين. مشيرة إلى أن هذا الإجراء الأحادي الجانب، الذي اتخذته المصارف قد أدى إلى تحديد أصحاب الحسابات على أساس إقامتهم أو جنسيتهم البريطانية، فيما يبدو أنه ممنهج وقائم على التمييز.
ومنذ أن بدأت المصارف بإقفال الحسابات، التقى السفير البريطاني إيان كولارد باتحاد المودعين ورئيس جمعية مصارف لبنان وكبار ممثلي بعض المؤسسات المصرفية ورئيسة لجنة الرقابة على المصارف وحاكم مصرف لبنان ورئيس الوزراء اللبناني. وفي كل اجتماع من اجتماعاته، أعرب السفير عن قلقه بشأن معاملة المودعين في لبنان من مواطنين بريطانيين ومقيمين والمفهوم المشروع للإجراءات التمييزية التي اتخذت ضدهم، فضلاً عن الانتهاكات المحتملة للقوانين واللوائح المصرفية ذات الصلة.
وقال وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال بسام مولوي، للمودعين إنهم أصحاب الحق، لكن لا يمكنهم استرداد أموالهم بطريقة تقع تحت طائلة القانون وضمن قانون العقوبات، وهذا الأمر يهدم النظام ويُخسر باقي المودعين حقوقهم، لافتاً إلى أن "الحقوق لكل الناس، ولا أدري إذا كان هناك من أحد يقبل بأن يأخذ وديعته، على حساب باقي الناس".
آثار اقتصادية كارثية
وشهد القطاع المصرفي مؤخراً تحركاً قضائياً لمأموري دائرة التنفيذ في بيروت للمباشرة بإجراءات الحجز على موجودات بعض المصارف وختمها بالشمع الأحمر، مما أثار تساؤلات حول تأثير ذلك على المصارف، إضافة إلى هجمات المودعين.
وتكهنت جهات اقتصادية أن يدخل لبنان أزمة سيولة نقدية في العملة المحلية، مما قد يدفع المصارف الوطنية لعمليات إغلاق جماعي، في بلد يعيش ظروفاً استثنائية صعبة وأزمات اقتصادية متلاحقة.
وقالت مصادر مصرفية لبنانية لقناة LBCI اللبنانية إن "مجموع الإيداعات لدى المصارف تبلغ 95 مليار دولار، والمصارف تملك 2 مليار، من المليارين هناك أصول خارج لبنان بمليار و600 مليون دولار، ويبقى 400 مليون دولار سيولة في المصارف، أي الخلاصة هناك 400 مليون دولار من أصل 95 مليار دولار، وبالتالي إذا تكررت عمليات الحصول على الإيداعات بهذه الطرق فإن ذلك سيؤدي إلى فقدان كل المبلغ وبالتالي إفلاس المصارف".
بينما قال خبير المخاطر المصرفية في لبنان محمد فحيلي لموقع "سكاي نيوز عربية"، إن "البعض في القطاع المصرفي يعيش وكأن لدينا ودائع مصرفية بقيمة 170 مليار دولار والإنتاج المحلي في لبنان بين 55 و60 مليار دولار. هذا لم يعد صحيحاً، وحالياً نعاني في لبنان انكماشاً اقتصادياً حاداً؛ لدرجة أن الودائع هبطت لحدود 100 مليار دولار أو أقل، وذلك يشير إلى أن حاجة لبنان للسيولة التي تحافظ على العجلة الاقتصادية التي كانت تسير بالطريق الصحيح، قد تلاشت".
وتعالت التحذيرات من انهيار اقتصاد البلاد بسبب اقتحام المصارف الذي يمهد لانهيار كامل للمنظومة المالية، حسب رئيس اتحاد العمال العام اللبناني، بشارة الأسمر، وقال: "الذين يقتحمون المصارف يريدون حقوقهم، ولكن كيف سيحصل بقية المودعين على حقوقهم؟".
وهناك مخاوف من أن يؤدي إغلاق المصارف للتأثير على واردات البلاد من السلع الأساسية خاصة السلع الغذائية، حيث يعد لبنان بلداً مستورداً صافياً للغذاء.
وحذرت مصادر مصرفية من أن "اقتحام المصارف، وتهديد موظفيها بالحصول على الوديعة، قد تدفع المصارف إلى الإفلاس، ما يؤدي إلى خسارة جميع المودعين كل أموالهم".
ومن الواضح أنه رغم مشاركة المصارف في المسؤولية عن الأزمة فإن هناك بعض الأطراف السياسية التي تفضل استخدامها لأغراض سياسية أو تسعى لصرف النظر عن دور القوى السياسية في الأزمة.
تأتي هذه الأزمة في وقت أصبح لبنان أمام احتمال فراغ رئاسي، مع اقتراب نهاية موعد ولاية الرئيس اللبناني العماد ميشال عون، وتزايد احتمالات ألا يتم انتخاب بديل، وفي الوقت ذاته، فإن أزمة اقتحام المصارف قد تؤدي إلى إضعاف الجهود الدولية لحل الأزمة الاقتصادية، وخاصة مشروع الإصلاح المالي المقترح من صندوق النقد الدولي الذي قد يمثل الفرصة الأخيرة لإنقاذ اقتصاد لبنان.