بينما يلوم الغرب روسيا وحدها على حرب أوكرانيا، ويوجه سهام النقد للصين بشأن مناوراتها حول تايوان، وينتقد تصريحات تركيا تجاه اليونان وقبرص، فإنه يجرى بانتظام تجاهل دور الغرب في الأزمات الدولية، وخاصة عبر نكوصه عن تعهداته الرسمية والتي بعضها مثبت في معاهدات دولية.
فمن أوكرانيا مروراً بقبرص وتايوان وصولاً للصراع العربي الإسرائيلي، وغيرها من الأزمات، ساهم نكوص الغرب عن تعهداته الدولية في اندلاع أخطر الأزمات في العالم.
وأي استعراض تاريخي لهذه الأزمات، يكشف هذه الحقيقة.
الغرب لم يلتزم بتعهداته لروسيا وأوكرانيا على السواء
رغم تكرار حلف شمال الأطلسي "الناتو" والولايات المتحدة الأمريكية أقوالهما بأن الناتو أو واشنطن لم يسبق أن قدما وعوداً لموسكو بعدم توسع الحلف شرقاً، إلا أن وثائق أمريكية وسوفييتية وأوروبية رُفعت عنها السرية، قبل حرب أوكرانيا كشفت أن وزير الخارجية الأمريكي السابق جيمس بيكر، أكَّد لآخر زعماء الاتحاد السوفييتي، ميخائيل غورباتشوف، في عام 1990 أن الناتو لن يتوسع "بوصة واحدة" شرق ألمانيا، وآنذاك، قبلت واشنطن بأن هذا هو الخط الأحمر لروسيا، حسبما ورد في تقرير لموقع Responsible Statecraft الأمريكي.
ويؤكد جاك إف. ماتلوك جونيور، الذي كان سفير الولايات المتحدة في روسيا في ذلك الوقت وكان حاضراً الاجتماع، رواية غورباتشوف عن هذا التعهد، قائلاً في كتابه Superpower Illusions: "إنها تتفق مع المذكرات التي دوَّنتها عن المحادثة باستثناء إن مذكراتي تشير إلى أن بيكر أضاف (ولا بوصة واحدة)".
في اليوم التالي لتلك المحادثات، وفقاً لوثائق وزارة الخارجية الألمانية الغربية في 10 فبراير/شباط 1990، قال وزير خارجية ألمانيا الغربية، هانز ديتريش غينشر، لنظيره السوفييتي، إدوارد شيفرنادزه: "من جانبنا.. هناك أمر واحد مؤكد: الناتو لن يتوسع إلى الشرق".
وقد نشر "أرشيف الأمن القومي الأمريكي" الوثائق الفعلية التي توضح بالتفصيل ما وُعد به غورباتشوف في 12 ديسمبر/كانون الأول 2017. وبحسب ستيفن كوهين، الأكاديمي الأمريكي الراحل والمتخصص في الشؤون الروسية، في كتابه War With Russia، فإن الوثائق تكشف أخيراً وعلى نحو رسمي أن "التعهدات والوعود التي نُقضت كانت أكثر بكثير مما كان معروفاً في السابق: لقد قطعت جميع القوى الغربية المعنية- الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا نفسها- الوعد نفسه لغورباتشوف في مناسبات عديدة وبطرقٍ جازمة مختلفة".
ولكن خلال ثلاثة عقود، توسع الناتو ليشمل كل دول الكتلة الشرقية الأوروبية، التي كانت تابعة لموسكو عبر ما يعرف باسم حلف وارسو، بل تمدد ليضم ثلاثاً من الجمهوريات السوفييتية السابقة وهي جمهوريات البلطيق، وتبلغ هذه المسافة التي قطعها الناتو، قرابة 965 كيلومتراً من التعهدات المكسورة أوصلت الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي إلى حدود أوكرانيا وروسيا.
وفي 2 ديسمبر/كانون الأول 2021 أي قبل الغزو الروسي لأوكرانيا بأقل من 3 أشهر، تحوَّل هذا الخط الأحمر من بوصة واحدة إلى نحو 965 كيلومتراً شرقاً، بعد أن قال فلاديمير بوتين إنه يسعى الآن للحصول على وعد بأن الناتو لن يتوسع شرقاً إلى أوكرانيا، ولكن واشنطن رفضت منحه هذا الوعد، رغم أنها تؤكد أن بوتين ينوي غزو أوكرانيا، وهو ما تحقق بالفعل.
وفي عام 2008، قدم الناتو وعوداً، لأوكرانيا وجورجيا وهما دولتان كانتا أيضاً جزءاً من الاتحاد السوفييتي بأنهما ستنضمان للناتو، ولكن بعد سنوات لم يحدث ذلك وتعرضت جورجيا أولاً لهجوم روسي عام 2008، ثم أوكرانيا في عام 2014، عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم، وفصلت إقليمين بشرق أوكرانيا، رداً على تظاهرات مؤيدة للاتحاد الأوروبي أدت إلى عزل الرئيس الأوكراني المنتخب فيكتور يانكوفيتش الموالي لروسيا، ثم عادت وهاجمت موسكو أوكرانيا بشكل أوسع عام 2022.
ولم يفِ الناتو بوعوده لجورجيا وأوكرانيا بالانضمام للناتو، بسبب اعتراض دول أوروبية كبيرة مثل ألمانيا وفرنسا التي تعلم أن كييف خط أحمر لموسكو، إضافة إلى مقدار الفساد والأزمات الاقتصادية والسياسية التي تعاني منها أوكرانيا.
ولكن كل ما فعله الناتو أنه أثار طموحات لدى الأوكرانيين والجورجيين يعلم أي مبتدئ في السياسة أنها لن تتحقق، وفي الوقت ذاته أثار حنق موسكو وأشعل لديها شعوراً بالخيانة دفعها للتحرش بالبلدين.
وبهذا لم يحنث الناتو وعلى رأسه أمريكا بوعوده لروسيا فقط بل لجورجيا وأوكرانيا المسكينتين، وتركهما فريسة للهجوم الروسي، الذي أدى لفصل إقليم أوسيتيا الجنوبية عن جورجيا والقرم ودونباس عن كييف عام 2014، دون أن يفرض عقوبات صارمة على موسكو في ذلك الوقت، أو حتى يزود أوكرانيا بالسلاح الكافي للدفاع عن نفسها.
وحتى اليوم، فإن الغرب لم يزود كييف بأسلحة متقدمة، حيث رفض تقديم طائرات مقاتلة أو صواريخ بعيدة المدى لها، ويرسل لها أسلحة إما ثقيلة قديمة أو حديثة خفيفة، ليستخدم أوكرانيا كساحة لاستنزاف موسكو، في حرب سيخرج منها البلدان خاسرين.
لم يكن توسع الناتو، حنثاً بالوعود فقط لروسيا، بل أضاع فرصة لإقامة نظام أمني مشترك في أوروبا، في وقت كانت فيه موسكو مهزومة نفسياً أمام الغرب بعد الحرب الباردة، وتتطلع لأن تصبح جزءاً من أوروبا، مدفوعة بانسحاق ثقافي وأيديولوجي ونهم استهلاكي لدى الروس الخارجين لتوهم من التجربة السوفييتية المتقشفة والمقيدة للحريات والحياة على النمط الغربي.
يقول متعاطفون مع بوتين إنه مثل غورباتشوف في نهاية الحرب الباردة، كان يأمل في العمل على إنشاء مجتمع دولي يتميز بالتعاون بين أنداد، بدلاً من بناء الكتل، حتى إنه اقترح انضمام روسيا إلى عضوية الناتو، بحسب موقع Responsible Statecraft الأمريكي.
أمريكا تهدر مبدأ الصين الواحدة الذي اعترفت به مراراً
سياسة الصين الواحدة هي مبدأ تتمسك به بكين، وينص على أن كل أجزاء الصين وهي الصين البر الرئيسي وتايوان وهونغ كونغ، التي كانت مستعمرة بريطانية، وماكاو التي كانت مستعمرة برتغالية هي كلها تشكل أجزاء من الصين الواحدة، وبالفعل عادت هونغ كونغ وماكاو إلى السيادة الصينية رغم احتفاظهما بمقدار كبير من الاستقلال المحلي، خاصة في القوانين والاقتصاد.
والمفارقة هنا أن تايوان والصين نفسهما كانا يتفقان منذ انشقاق الجزيرة على سياسة الصين الواحدة، ولكن يختلفان على من يمثلها، إلا أن تايوان التي أسسها حزب الكومنتانغ الذي كان يحكم الصين قبل وصول الحزب الشيوعي للسلطة عام 1949، بدأت في التخلي عن هذا المبدأ.
فلقد تبادلت تايوان والصين الادعاء بأن كلاً منهما الممثل الشرعي الوحيد للصين وأراضيها بما فيها تايوان، ولكن في الوقت الحالي يعترف أغلب دول العالم، بما فيها كل الدول الغربية تقريباً، على رأسها الولايات المتحدة بحكومة بكين كممثل رسمي للصين، ولا ترتبط الدول الغربية، بما فيها واشنطن، بعلاقات دبلوماسية رسمية مع تايوان، رغم الدعم القوي العسكري والسياسي الذي تقدمه للجزيرة.
وحتى التعديلات الدستورية لعام 1991 وإرساء الديمقراطية في تايوان، اعتبرت حكومة تايوان التي يهيمن عليها حزب الكومنتانغ أنها تمثل الحكومة الشرعية الوحيدة للصين وأراضيها المحددة دستورياً، وأيضاً تم تصنيف الحزب الشيوعي الصيني على أنه "جماعة متمردة".
في عام 1992، أكد حزب الكومنتانغ، أن كلاً من جمهورية الصين الشعبية وجمهورية الصين (تايوان) قد اتفقتا على وجود "صين" واحدة، لكنهما اختلفتا حول ما إذا كانت "الصين الواحدة هذه" تمثلها جمهورية الصين الشعبية، أم جمهورية الصين (تايوان).
أما الولايات المتحدة فهي لم تعترف يوماً بأن هناك أكثر من صين، ما يعني اعترافاً بمبدأ الصين الواحدة، ولكنها غيرت موقفها بشأن من يمثل هذه الصين تايبيه أو بكين.
من الناحية النظرية، تعترف الولايات المتحدة حالياً بجمهورية الصين الشعبية، باعتبارها الحكومة الشرعية الوحيدة للصين، وقبل ذلك كانت تعترف بأن حكومة تايوان هي بمثابة حكومة الصين الشرعية الوحيدة.
تم ذكر سياسة صين واحدة من قبل الولايات المتحدة بشكل صريح لأول مرة في بيان شنغهاي بين بكين وواشنطن الذي صدر عام 1972 وأسس للعلاقات بين بكين وواشنطن، وجاء فيه: "تقر الولايات المتحدة بأن الصينيين على جانبي مضيق تايوان يصرون على أنه لا يوجد سوى صين واحدة، وأن تايوان جزء من الصين، وأن الولايات المتحدة لا تتحدى هذا الموقف".
وفي عام 1979، أقامت الولايات المتحدة علاقة رسمية مع الصين، وبالتالي اعتبرت أن الصين الشعبية هي الممثل الوحيد للصين بما في ذلك تايوان.
موقف الولايات المتحدة من سياسة الصين واحدة، كما هو موضح في تقرير سياسة الصين/تايوان: تطور "الصين الواحدة" لخدمة أبحاث الكونغرس (التاريخ: 9 يوليو/تموز 2007)، يعترف بسياسة الصين الواحدة ولكن لم تعترف السياسة الأمريكية بسيادة جمهورية الصين الشعبية التي يحكمها الحزب الشيوعي على تايوان، ولا بتايوان كدولة ذات سيادة، واعتبرت السياسة الأمريكية أن وضع تايوان غير مستقر.
سياسة أمريكا تهدد وحدة بر الصين الرئيسي
ولكن يبدو أن هناك توجهات في الغرب تسعى إلى الترويج لفكرة التخلي عن سياسة الصين الواحدة، وتمثل زيارة نانسي بيلوسي الأخيرة المثيرة للجدل توجهاً في هذا الاتجاه.
وبينما يتم التركيز في الغرب على ما يوصف بعدوانية الرئيس الصيني الحالي شي جين بينغ، فإن ما يتم تجاهله أن شي كان أول رئيس صيني يلتقي برئيس تايواني في 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2015، عندما التقى الرئيس التايواني ما ينج جيو، الذي ينتمي لحزب الكومنتانغ، والرئيس الصيني شي جين بينغ في سنغافورة، في أول اجتماع من نوعه بين الجانبين منذ نهاية الحرب الأهلية الصينية، وهو الاجتماع الذي عقد بناء على أرضية مشتركة هي اتفاق الحزب الشيوعي الصيني وحزب الكومنتانغ التايواني أن الصين واحدة، ولكن الاختلاف على من يمثلها.
كما أن بكين أعلنت مراراً التزامها في مساعيها للتوحيد مع تايوان بتطبيق سياسة دولة واحدة ونظامين الذي طبقته في هونغ كونغ وماكاو.
وتميل التقارير الغربية والآسيوية المناهضة للصين للتركيز على ما تعتبره تراجعاً هائلاً للحريات في إقليم هونغ التابع لبكين خلال السنوات الماضية.
وتتجاهل هذه التقارير أنه حتى لو تراجعت الحريات ومقدار الحكم الذاتي في هونغ كونغ وماكاو، فإنهما ما زالا يحتفظان بنظام اقتصادي مستقل إلى حد كبير جداً، بما في ذلك عملتان منفصلتان عن اليوان الصيني، وكذلك لدى الإقليمين إدارتان محليتان يتوفر لهما قدر لافت من الاستقلال الذاتي، ومستوى حريات أعلى بكثير من بر الصين الرئيسي.
كما تتجاهل الانتقادات الغربية لتعامل الصين مع هونغ كونغ حقيقة أنه حتى لو كانت هونغ كونغ دولة مستقلة ولكن مجاورة للصين، فإنه من الطبيعي أن تراعي سياسة هذا الجار العملاق، مثلما كانت فنلندا تراعي مصالح الاتحاد السوفييتي، والمكسيك تفعل مع أمريكا، ومثلما تفعل العديد من الدول العربية مع السعودية.
واليوم مع تشجيع الغرب لتايوان للتخلي عن سياسة الصين الواحدة، فإنها لا تناكف فقط الحزب الشيوعي الصيني، أو رئيس البلاد، بل تستفز الشعور القومي الصيني برمته، كما أنها تهدد بأزمة خطيرة لبكين عبر احتمال أن يؤدي انفصال تايوان رسمياً التي ينتمي أغلب سكانها لقوميات تنحدر من جنوب الصين، إلى إشعال أزمة بين قوميات البر الرئيسي للصين، وخاصة في ضوء سيطرة الصينيين الشماليين على مقاليد الحكم تاريخياً رغم أن الجنوب يمثل نسبة كبيرة من السكان والنمو الاقتصادي.
وسوف تترك تايوان فريسة لبكين عاجلاً أو آجلاً
الأهم أنه مع استمرار نمو الصين الاقتصادي وصعود قوتها العسكرية، فإن قدرات الغرب ستتراجع فيما يتعلق بتقديم أي دعم عسكري مباشر أو غير مباشر لتايوان أمام أي هجوم صيني مستقبلي.
فعندما تصبح الصين أكبر اقتصاد في العالم، وتعالج نقاط ضعفها العسكرية والتكنولوجية سيبتلع الغرب وعوده لتايوان بعد أن يكون قد فات أوان إقامة وحدة طوعية بين الجانبين، وحدة كان يمكن أن يوظفها الغرب والتايوانيون ليس فقط لضمان حكم ذاتي واسع النطاق لتايبيه، بل أيضاً لتخفيف قبضة الحزب الشيوعي الصيني على البلاد، عبر صفقة تتضمن مزيداً من الحريات للصين مقابل عودة تايوان الطوعية.
دور الغرب في الأزمات بين تركيا واليونان.. هكذا أخلف وعوده
قبل سنوات طوال من نكوص الغرب عن وعوده لبكين وموسكو، فإنه فعل ذلك مع تركيا حليفه المقرب، وحامية بوابة حلف شمال الأطلسي الجنوبية.
والخلاف التركي اليوناني القبرصي، يدور حول ثلاث قضايا أساسية هي مصير قبرص التركية وعلاقتها مع قبرص التركية، والخلاف حول ترسيم الحدود البحرية، ومسألة تسليح اليونان لجزرها المجاورة لتركيا رغم مخالفة ذلك للاتفاقات الدولية التي نقلت السيادة على هذه الجزر لليونان.
كيف تسبب الغرب في أزمة قبرص؟
تأسَّست الجمهورية القبرصية في عام 1960 على إثر ثورة القبارصة الأتراك واليونان ضد الاحتلال البريطانيين، حيث اتفقت الدول الثلاث: بريطانيا، وتركيا، واليونان آنذاك على طريقة الحكم في الجزيرة.
وتم توقيع اتفاقيتي زيوريخ ولندن عام 1959، التي تضمَّنت تنصيب القس اليوناني مكاريوس الثالث رئيساً لقبرص، وتم وضع أول دستور يمنح الحق للأتراك واليونانيين في الجزيرة بالاشتراك في تأسيس جمهوريتهم.
وتم الاتفاق على أن يكون هناك التزام في الدستور القبرصي بمشاركة الأقلية التركية في الحكم، لكن الأغلبية اليونانية التي تشكل حوالي ثلثي سكان الجزيرة تقريباً لم تُنفذ ما عليها من التزامات بالدقة والقدر اللازمين، فنشب خلاف بين الطرفين تطوَّر حتى أصبح يُعرف بـ"المشكلة القبرصية". وقد نصَّ الدستور على أن يكون الرئيس من أصل يوناني، ونائبه من أصل تركي.
ولم يمضِ على هذا الاتفاق سوى عام حتى قامت الأغلبية اليونانية بتجاهل هذه الاتفاقية، وبدأت في ارتكاب مجازر دموية والنهب والاعتقال بحق المواطنين القبارصة الأتراك.
وقد وصلت الأحداث إلى ذروتها بدايات عام 1964، بعدما أعلن الرئيس القسّ مكاريوس عدم قبوله باتفاقية لندن وزيوريخ، وشنّ حملةً عسكريةً وعمليات تهجير ضد القبارصة الأتراك، استمرت قرابة 10 سنوات، منذ عام 1964-1974.
وعلى ضوء تطوُّرات أواخر العام 1963، أصدر مجلس الأمن الدولي، في الرابع من مارس/آذار 1964، القرار رقم (186)، الذي أوصى بإنشاء قوة الأمم المتحدة لحفظ السلام في قبرص (UNFICYP)، والتي بدأت العمل في 27 من الشهر نفسه، ولا تزال تُمارس مهامها حتى يومنا هذا، لكنها لم تقُم بدورها في حماية القبارصة الأتراك أثناء حملات مكاريوس كما ينبغي.
وفي خضمّ الحملات الشرسة، استغلّ ضباطٌ قبارصة يونانيون هذه الأحداث لينظموا انقلاباً عسكرياً على رئيس الجمهورية عام 1974، وتعمّدوا ارتكاب مجازر واسعة بحقّ المجموعة القبرصية التركية، ضمن حملة يونانية تدعو إلى ضم كامل الجزيرة إلى اليونان، من أجل إحياء الإمبراطورية الإغريقية.
وعلى خلفية هذا التطوّر، تدخّلت تركيا عسكرياً في 20 يوليو/تموز 1974 للحيلولة دون وقوع إبادة جماعية بحق المجموعة القبرصية التركية، التي تركزت في الجزء الشمالي من الجزيرة، وضم الجزيرة لليونان، وذلك بناءً على أن أنقرة هي إحدى الدول الضامنة لأمن قبرص.
وسيطرت أنقرة على مناطق القبارصة الأتراك، بينما فرض الغرب عقوبات على تركيا في ذلك الوقت، وكان يمكن تجنب هذه الأزمة لو ألزم الغرب القبارصة اليونانيين وأثينا على السواء بالاتفاقات المبرمة بين الجانبين لتنظيم وضع الجزيرة.
أوروبا تواصل عزل القبارصة الأتراك رغم موافقتهم على مقترح أممي رفضه اليونانيون
بعد حوالي عقدٍ على انقسام قبرص، وفشل المفاوضات بين الجزأين، أعلن القبارصة الأتراك استقلالهم، في 15 نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1983، بدولة ذات حكم ذاتي تحت اسم "الجمهورية التركية لشمال قبرص"، إثر استفتاءٍ عام لسكّان الجزء الشمالي من الجزيرة، برئاسة رؤوف دنكتاش، أول رئيس للجمهورية.
وفي يوم 1 مايو/أيار من العام نفسه، وافق الاتحاد الأوروبي على قبول عضوية قبرص اليونانية فيه، لكنّ تركيا وقبرص التركية رفضتا ذلك، قائلتين إن هذا القرار يخالف اتفاق عام 1960.
بعد وصول حزب العدالة والتنمية للحكم في تركيا وسعيه لتصفير المشاكل مع الجيران، اقترحت الأمم المتحدة حلاً للقضية القبرصية عام 2004 دعمته تركيا، ووافق عليه القبارصة الأتراك في استفتاء شعبي أجري تحت إشراف أممي، ولكن رفضه القبارصة اليونانيون في استفتاء مناظر، ورغم ذلك واصل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة تبني وجهة نظر اليونان وقبرص الرومية، وعزل قبرص التركية.
تسليح الجزر اليونانية مخالفة لاتفاقات الغرب طرف رئيسي فيها
واحدة من أكثر المسائل حساسية لتركيا في خلافها مع اليونان، هي مواصلة أثينا تسليح الجزر اليونانية، بالمخالفة للاتفاقات الدولية التي بموجبها نالت اليونان السيادة على هذه الجزر.
وسبق أن قال وزير الدفاع التركي إن اليونان سلّحت 18 جزيرة بشكل مخالف للاتفاقيات.
وجغرافياً تحيط الجزر اليونانية (أغلبها ضئيلة الحجم) بتركيا، وتريد أثينا أن تخلق منطقة بحرية اقتصادية واسعة لهذه الجزر، تمثل أضعاف مساحتها، تاركة لأنقرة مساحة اقتصادية ضئيلة لا تتناسب مع طول سواحلها القارية على البحر المتوسط وبحر إيجه.
ومن المعروف أن اليونان ودولاً غربية أخرى احتلت أجزاء من تركيا عقب هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وبعد تحرير البلاد بقيادة كمال أتاتورك فقدت تركيا عدداً كبيراً من الجزر، عبر عدد من المعاهدات ومنها معاهدة لوزان التي وقّعها أتاتورك، وبعض هذه الجزر فُقد لصالح اليونان مباشرة، والبعض الآخر لصالح إيطاليا، إذ قامت تركيا بتسليم جزر بحر إيجه على سبيل المثال لإيطاليا، مقابل تعهد روما بنزع السلاح في الجزر القريبة من الحدود التركية.
وانتقلت بعض هذه الجزر إلى يد ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية، وبعد هزيمتها في الحرب سلم الألمان هذه الجزر للبريطانيين، الذين سلموها بدورهم إلى اليونان، وتم تثبيت ذلك في معاهدة السلام بين الحلفاء وإيطاليا عام 1947، مع إنكار حق تركيا في هذه الجزر رغم كونها انتزعت من الدولة العثمانية بالأصل، وتشكل امتداداً جغرافياً طبيعياً للأناضول.
وكان الشرط الأساسي في اتفاقيات نقل هذه الجزر التي كانت الدول الأوروبية طرفاً فيها، هو الحفاظ عليها منزوعة السلاح، لأن كثيراً منها تطل على مناطق تركية حساسة أو ممرات مائية تركية، وكان الاتفاق على تجريد جزر بحر إيجه الشرقية من السلاح تحديداً، بسبب الأهمية القصوى لهذه الجزر لأمن تركيا، نظراً لقربها الشديد من شواطئها.
ولكن الغرب يتجاهل تسليح اليونان لهذه الجزر وينتقد تركيا إن أبدت رد فعل.
وترى تركيا أن تفسير هذه المعاهدات يجعل هناك صلة مباشرة بين امتلاك اليونان السيادة على تلك الجزر ووضعها المنزوع السلاح، في إشارة إلى أن نكوص أثينا عن التزامها بعدم تسليح الجزر، معناه انهيار المعاهدات التي تعطيها السيادة عليها.
واللافت أن أثينا لا تنفي أنها سلحت الجزر، حيث قدمت تحفظاً على الاختصاص الإجباري لمحكمة العدل الدولية بشأن المسائل الناشئة عن التدابير العسكرية المتعلقة بـ"مصالحها المتعلقة بالأمن القومي"، بهدف منع إحالة النزاع حول عسكرة الجزر إلى محكمة العدل الدولية.
وتحاول وجهة النظر الغربية التقليل من أهمية هذه المعاهدات، إذ تقول إن مسألة الوضع منزوع السلاح لبعض الجزر اليونانية الرئيسية معقد بسبب عدد من الحقائق، منها أنه تم وضع العديد من الجزر اليونانية في شرق بحر إيجه، وكذلك منطقة المضائق التركية تحت أنظمة مختلفة من نزع السلاح في معاهدات دولية مختلفة. وقد تطورت الأنظمة بمرور الوقت، ما أدى إلى صعوبات في تفسير المعاهدات.
وتقول اليونان إن من حقها عسكرة جزرها مثل بقية أوروبا، حيث توقف تطبيق قانون نزع السلاح على عدد من الجزر والأقاليم بأوروبا مع إنشاء منظمة حلف شمال الأطلسي وحلف وارسو.
ولكن يجب ملاحظة أن السياق العام مختلف، فوقف تطبيق نزع السلاح في الحالات السابقة، مرتبط بنشوب الصراع بين الكتلة الشرقية الأوروبية بزعامة الاتحاد السوفييتي والكتلة الغربية بزعامة الولايات المتحدة، وهو نزاع جد بعد الحرب العالمية الثانية، كما أن وقف التسليح تم بشكل متبادل بين حلفي الناتو ووارسو، بينما النزاع اليوناني التركي أقدم، والمعاهدات التي فرضت عدم عسكرة الجزر اليونانية جاءت لتنظيم هذا النزاع الذي ما زال قائماً، وتخريب هذه المعاهدات ينذر بانفجار النزاع وليس تسويته.