على مدى الأيام العشرة التي شهدت الاستعداد لجنازة الملكة إليزابيث، طفت على السطح مخاوف بشأن حرية التعبير في المملكة المتحدة، لدرجة لجوء البعض إلى "اللافتات البيضاء"، وهي تقليد يعود للقرن الثامن عشر، فماذا يعني؟ وما دلالاته؟
كانت الملكة إليزابيث الثانية قد فارقت الحياة عن عمر 96 عاماً، وأعلن قصر باكنغهام وفاتها مساء الخميس، 8 سبتمبر/أيلول، بعد أن كان الأطباء قد أبدوا قلقهم بشأن صحتها صباح اليوم نفسه، وأوصوا ببقائها تحت الملاحظة، بعد تربعها على عرش التاج البريطاني منذ عام 1952، وكانت تحكم أيضاً 32 دولة، ضمن دول الكومنولث التي تشكلت مع نهاية الاستعمار البريطاني الممتد لتلك الدول، ثم تقلص العدد إلى 15 دولة.
وبعد 70 عاماً قضتها إليزابيث الثانية على العرش في المملكة المتحدة، أصبح نجلها الأكبر وولي العهد الأمير تشارلز، تلقائياً، ملكاً للمملكة المتحدة، ليتولى مسؤولية قيادة العائلة الملكية الأقدم، حيث يمتد حكم الأسرة لأكثر من ألف عام، ويصبح الملك تشارلز الثالث حاكماً لتلك الدول خلفاً لوالدته.
والإثنين 19 سبتمبر/أيلول، بدأت رحلة النهاية لجنازة الملكة، حيث اصطف عشرات الآلاف في الشوارع لمشاهدة مرور نعشها من قاعة وستمنستر التاريخية في البرلمان البريطاني إلى كنيسة وستمنستر القريبة، ثم في النهاية إلى قلعة وندسور؛ حيث سيتم دفنها إلى جانب زوجها الراحل.
اعتقالات وقلق على حرية التعبير في بريطانيا
كانت التغطية الإعلامية لوفاة الملكة إليزابيث قد طغت على الأجواء حول العالم، ولا تزال، لكن ذلك الحيز الضخم من الاهتمام لم يكن تعبيراً خالصاً عن الحزن، فالتاريخ الطويل للاستعمار البريطاني في إفريقيا وحول العالم عاد أيضاً للواجهة.
"سحابة الاستعمار تخيم على إرث الملكة إليزابيث في إفريقيا"، تحت هذا العنوان رصدت شبكة CNN الأمريكية كيف أثارت وفاة الملكة إليزابيث الثانية كثيراً من ردود الأفعال على الإنترنت، والتي لم تكن جميعها حزناً عليها، فقد نشر بعض الشباب الأفارقة صوراً وقصصاً لأجدادهم، الذين قاسوا فترة وحشية من تاريخ الاستعمار البريطاني خلال فترة حكم الملكة الطويلة.
وكتبت شابة إفريقية على تويتر: "لم أحزن عليها"، ونشرت صورة لما قالت إنه "تصريح تنقل" يخص جدتها، وهو عبارة عن وثيقة استعمارية تقيد حرية تنقل الكينيين الخاضعين للاستعمار البريطاني في الدولة الشرق إفريقية.
لكن حتى داخل المملكة المتحدة، التي تضم بريطانيا واسكتلندا وويلز وأيرلندا، ظهرت أصوات احتجاجية معارضة للملكية خلال فعاليات الحداد الممتدة، وأثار تعرض عدد من الأشخاص للاعتقال انتقادات منظمات حقوقية عبّرت عن مخاوفها على ما يعنيه ذلك لحرية التعبير في البلاد.
كانت الشرطة في اسكتلندا قد ألقت القبض على شخصين خلال الأسبوع الماضي بسبب مزاعم بانتهاك السلام، بينما تم القبض على رجل في منطقة أكسفورد قبل إطلاق سراحه لاحقاً. وجاءت الاعتقالات في فعاليات بمناسبة وفاة الملكة وتنصيب تشارلز الثالث ملكاً جديداً لبريطانيا.
ووجّهت السلطات اتهاماً لامرأة، تبلغ من العمر 22 عاماً، فيما يتعلق بانتهاك السلام، وذلك بعد القبض عليها أثناء إعلان تنصيب الملك خارج كاتدرائية سانت جايلز في إدنبرة، ثم أُطلق سراحها لاحقاً، وستمثل أمام محكمة في العاصمة الاسكتلندية لاحقاً.
وفي اليوم نفسه، احتجز رجل يُدعى سيمون هيل (45 عاماً) للاشتباه في ارتكابه مخالفة تتعلق بالنظام العام بعد أن صاح "من انتخبه؟" خلال إعلان آخر في أكسفورد. وقالت الشرطة بمنطقة تيمز فالي إن هيل أُطلق سراحه لاحقاً، وأنه ساعد الضباط "طواعية".
واعتقلت السلطات أمس رجلاً، يبلغ من العمر 22 عاماً، لصلته بانتهاك للسلام، وذلك بعد أن قيل إنه أزعج الأمير أندرو، بينما كان الموكب الملكي ماضياً في شارع رويال مايل في إدنبرة.
روث سميث، الرئيسة التنفيذية لمنظمة "مؤشر الرقابة"، قالت لهيئة الإذاعة البريطانية BBC إن الاعتقالات "مقلقة للغاية"، وأضافت: "يجب علينا الحذر من استخدام هذا الحدث، عن طريق الصدفة أو عن قصد، لتقويض حرية التعبير التي يتمتع بها مواطنو هذا البلد بأي شكل من الأشكال".
بدورها قالت سيلكي كارلو، مديرة منظمة "بيغ براذر ووتش"، إن على ضباط الشرطة "واجب حماية حق الناس في الاحتجاج بقدر ما عليهم واجب تسهيل حق الناس في التعبير عن دعمهم أو حزنهم أو احترامهم".
كما قالت جودي بيك، مسؤولة السياسات والحملات بمنظمة "ليبرتي"، إنه "من دواعي القلق الشديد أن نرى الشرطة تفرض سلطاتها الواسعة بطريقة قاسية وعقابية". وأضافت "الاحتجاج ليس هدية من الدولة، إنه حق أساسي".
القبض على حامل "لافتة بيضاء"
لكن واقعة المحامي البريطاني، بول باولزلاند، أثارت الجانب الأكبر من الانتقادات للسلطة، رغم أنه لم يكن من بين المعتقلين. كان المحامي بطلاً لحادثة مثيرة للجدل وقعت يوم 12 سبتمبر/أيلول، إذ كان يحمل في يديه "ورقة بيضاء" في ساحة البرلمان بلندن، عندما اقترب منه ضابط شرطة وسأله عن بياناته الشخصية.
وقال باولزلاند، الذي صور جزءاً من الحوار الذي جرى بينه وبين الضابط وبثه على موقع تويتر، أن الضابط قال له إنه سيعتقله إذا كتب على الورقة البيضاء عبارة "ليس مَلِكي"، بحسب تقرير للبي بي سي.
وكانت هناك مظاهرات لافتات "بيضاء" مماثلة في إدنبرة أثناء سير موكب نعش الملكة في شوارع اسكتلندا، ولم يكن هناك أي تقارير تفيد بحدوث اعتقالات، لكن الضجة التي أثارها مقطع الفيديو الذي بثه باولزلاند على تويتر دفعت شرطة لندن إلى إصدار بيان جاء فيه أن الشعب "من حقه التظاهر".
وكتبت شرطة العاصمة على صفحتها على توتير في 12 سبتمبر/أيلول: "قطعاً من حق الشعب أن يتظاهر، وقد أوضحنا ذلك لكافة الضباط المشاركين في العملية الأمنية غير العادية التي تجري حالياً".
وسبب هذه الانتقادات للشرطة ترجع بطبيعة الحال إلى كون حق التظاهر السلمي مكفول للجميع في المملكة المتحدة. وحقوق حرية التعبير عن الرأي وحرية التجمع منصوص عليها في الميثاق الأوروبي لحقوق الإنسان، والذي تم تضمينه في التشريعات البريطانية عام 1998 في إطار ما يُعرف بقانون حقوق الإنسان.
لكن ثمة حدود لحقوق الإنسان هذه. فهناك قوانين أخرى تسمح للشرطة بتقييد الحريات عندما يكون من الضروري ومن الملائم القيام بذلك – لا سيما عندما يستوجب الأمر حماية الأمن الوطني والسلامة العامة، أو الحيلولة دون وقوع الفوضى أو ارتكاب جرائم.
إذ يجوز اعتقال المتظاهرين بموجب قانون النظام العام. فالبند رقم 5 من ذلك القانون يمنح للشرطة في إنجلترا وويلز سلطة اعتقال شخص إذا كان ثمة احتمال أن يؤدي سلوكه إلى مضايقة الآخرين أو إخافتهم أو إزعاجهم. وقد تُفرض غرامات مالية على المتظاهرين إذا ما اتهموا بارتكاب تلك المخالفات.
ما قصة "اللافتات البيضاء" بغرض الاحتجاج؟
أن يجد مواطن بريطاني نفسه مضطراً للتعبير عن احتجاجه من خلال رفع "لافتة بيضاء"، بجانب ما أثاره من مخاوف حقوقية، فتح باب التساؤلات أيضاً عن أصل تلك الطريقة في التعبير عن الاحتجاج، والتي ترجع إلى القرن الثامن عشر.
وعن ذلك، قالت الدكتورة كاترينا نافيكاس، الخبيرة في تاريخ المظاهرات والعمل الجماعي بجامعة هارتفوردشير بالمملكة المتحدة، لـ"بي بي سي"، إن التظاهر برفع لافتات بيضاء يسير على نفس خطى أشكال أخرى من المعارضة، والتي تعود إلى القرن الثامن عشر.
وأضافت نافيكاس أن "الحركة الميثاقية الديمقراطية التي شهدتها أربعينيات القرن التاسع عشر نظمت مظاهرات صامتة في الشوارع احتجاجاً على قمع السلطات المحلية لاجتماعاتها المعتادة. في مانشستر عام 1795، شُكل 'نادي التفكير' لعقد اجتماعات صامتة احتجاجاً على التشريع الحكومي الذي يحظر 'الاجتماعات المثيرة للفتنة' والتجمعات الديمقراطية".
لكن الدكتورة نافيكاس قالت إنها ليست على دراية بحدوث التظاهر باللافتات البيضاء، الذي يخلو من الشعارات والرموز وحتى الألوان التي تمثل قضية سياسية في التاريخ الحديث للمملكة المتحدة. "يبدو ذلك ابتكاراً جديداً، وإن كان يتم باتباع أسلوب النقد الساخر للقيود التي تفرضها السلطة".
وبشكل عام، هذه ليست المرة الأولى التي تستخدم فيها "ورقة بيضاء" بغرض التظاهر والاحتجاج، لكن هذا النوع من الاحتجاج يتكرر حدوثه بشكل أكبر في بلدان يعتبر فيها قمع أي معارضة أمراً شائعاً.
إذ احتجزت الشرطة في كازاخستان ناشطاً شاباً يدعى أصلان ساغوتينوف في عام 2019 بعد أن حمل لافتة بيضاء في ساحة أباي بوسط مدينة أورال، الواقعة غرب البلاد، ورفعها أمام مكاتب المجلس المحلي.
وقال الناشط البالغ من العمر 24 عاماً في الفيديو، مخاطباً الصحفيين: "أنا لا أشارك في مظاهرة، ولكنني أرغب في أن أثبت أنهم سيقتادونني إلى قسم الشرطة رغم أنه ليست هناك أية كلمات مكتوبة على اللافتة، ورغم أنني لم أردد أية شعارات".
كما شوهدت لافتات بيضاء في روسيا خلال العقدين الماضيين، ولكنها أضحت أكثر شيوعاً في أعقاب الهجوم الروسي على أوكرانيا في فبراير/شباط الماضي، والذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة" وتعاقب من يسميها حرباً أو غزواً. وظهرت تقارير وروايات على وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل إعلام مستقلة تفيد باعتقال أشخاص يحملون لافتات بيضاء في عدة مدن روسية.
وتقول الدكتورة نافيكاس إن مثل هذا الشكل من أشكال الاحتجاج أحياناً يكون "مزعجاً" بشكل خاص للسلطات: "كما في حالة المظاهرات الصامتة، يكون من الصعب على الشرطة أن تثبت ارتكاب مخالفة، أو أن هناك نية لارتكاب مخالفة".
كما تضمنت المظاهرات التي شهدتها هونغ كونغ عام 2020 احتجاجاً على قانون أمني جديد فرضته الصين على الإقليم، والذي يجرم بعض الشعارات المؤيدة للديمقراطية، لافتات بيضاء كجزء من تلك الاحتجاجات.