مجموعة من الشباب الذين يبدو أنهم من هواة ألعاب الفيديو، يجلسون أمام شاشة ويمسكون بأذرع تحكم، وفجأة صاح أحدهم: "التقطت دبابة"، لم تكن هذه الدبابة جزءاً من لعبة فيديو بل دبابة تايوانية حقيقية، وكان هذا الشاب واحداً من أعداد متزايدة من المدنيين الصينيين الذين يطلقون أسطولاً من المسيرات المدنية الصينية فوق تايوان.
وانتشر مقطع فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي الصينية يصور هذا المشهد، في الوقت الذي لم تخفِ الحكومة التايوانية ورعاتها الغربيون قلقها من تحليق المسيرات المدنية الصينية فوق تايوان، وسط تساؤلات هل من يقوم بذلك مجموعة من الشباب الصينيين مدفوعين بالحماسة القومية أم موجهون من قبل الجيش الصيني سراً؟
وهذا المقطع الذي لا تتجاوز مدته 15 ثانية واحد من عدد من المقاطع التي انتشرت مؤخراً على موقع التواصل الاجتماعي الصيني "ويبو"، وتصور ما تبدو مسيرات مدنية تتلصص على الجيش التايواني. وأكدت قوات الجزيرة لاحقاً أن هذه التهديدات الغامضة هي بالفعل مسيرات مدنية قادمة من الصين.
وأطلق هؤلاء الشباب مؤخراً مجموعة من المسيرات الصينية المدنية فوق تايوان، وتحديداً لتحلق فوق جزيرة خاضعة لحكم تايبيه، حسبما ورد في تقرير لشبكة CNN الأمريكية.
وتعرض هذه المقاطع لقطات تفصيلية صورتها المسيرات لثكنات وقوات عسكرية على جزيرة كينمن التايوانية النائية، وتصحبها موسيقى تصويرية ما بين أغانٍ شعبية وموسيقى راقصة. ويبدو أن الهدف منها تسليط الضوء على غياب استعداد الجيش التايواني.
تحليق المسيرات المدنية الصينية فوق تايوان يكشف نقاط ضعف جيشها
ويصور أحد المقاطع اللحظة التي يدرك فيها أربعة جنود تايوانين أنهم مراقبون بمسيرة تحلق فوق ثكنتهم. ورد الجنود المتفاجئون بقذف هذه المسيرة المتطفلة التي التقطت صوراً مقربة لدرجة يمكن معها تحديد ملامح وجوههم بالحجارة.
والمقاطع التي تصور هذه المواجهات الغريبة انتشرت على الشبكات الاجتماعية الصينية على نطاق واسع وتجتذب مئات التعليقات التي تسخر من الجيش التايواني. ويبدو أن هذه المقاطع تفضح نقطة ضعف خطيرة: وهي قدرة المسيرات المدنية الصينية على تصوير المواقع العسكرية في تايوان في أي وقت.
إنها تمثل خطراً على تايبيه
يقول محللون إن هذه المقاطع المنتشرة على الإنترنت- التي تعرض تفاصيل المواقع العسكرية والجنود ليراها العالم- في أحسن الأحوال محرجة لتايوان وفي أسوئها تهديد خطير لها.
وتزعم رئيسة تايوان تساي إنغ وين أن هذه الغارات بالمسيرات أحدث تصعيد للضغوط الصينية على تايوان؛ أو جبهة جديدة من جبهات "حرب المنطقة الرمادية" لبث الرهبة في نفوس جنود الجيش التايواني. وفي الأول من سبتمبر/أيلول، بعد تحذيرها من أنها ستمارس حقها في الدفاع عن النفس.
ومؤخراً، أسقطت تايوان واحدة من هذه المسيرات لأول مرة.
ولكن من يقف وراءها؟ إليك ما تقوله بكين
بكين قللت من أهمية تحليق المسيرات المدنية الصينية فوق تايوان. إذ قال متحدث باسم وزارة الشؤون الخارجية الصينية لدى سؤاله عن هذه المسيرات المدنية التي تحلق فوق منطقة كينمن: "مسيرات صينية تحلق فوق أرض صينية، ما الغريب في هذا؟".
رغم استفزازية هذه المقاطع بالنسبة لتايوان ورعاتها الغربيين، من الصعب الجزم بمن يقف وراء هذه الطلعات الجوية بالمسيرات، حسب الشبكة الأمريكية.
وما أثار الشكوك أن الصين لم تحذف هذه المقاطع من مواقعها الخاضعة لرقابة مشددة، ولم تمنع المسيرات من التحليق في مجالها الجوي كثيف الحراسة.
ولا تبدو بكين مهتمة أيضاً بمعاقبة المسؤول عن تصوير هذه المقاطع؛ فإرسال مسيرات فوق مواقع عسكرية محلية عقوبته السجن.
أداة مماثلة لميليشيات الصين البحرية
تقول إيزابيل هيلتون، الصحفية الدولية ومراقبة الشؤون الصينية، إنه من المستحيل معرفة المسؤول عن توجيه هذه الطائرات، وهذا يجعلها مناسبة تماماً لنهج "الاستفزازات القابلة للإنكار".
تضيف إيزابيل أن هذه المسيرات تبدو مدنية الطراز، ولكن بإمكان أي شخص تشغيلها، وهذا يشمل الجيش الصيني، وأشارت إلى أن هيئات حكومية تتظاهر بأنها حركات شعبية ربما تكون هي المسؤولة.
وشبهت إيزابيل حوادث هذه المسيرات بما حدث في بحر الصين الجنوبي، حين اُتهمت الصين باستخدام ميليشيا بحرية لتأكيد سيادتها عليه باجتياح المناطق المتنازع عليها بما يبدو ظاهرياً قوارب صيد مدنية.
وقالت إيزابيل إنه في كلتا الحالتين، المسيرات والقوارب، فالصين مستفيدة "دون أن يظهر الجيش الصيني متورطاً"
ويقول خبراء غربيون إن هذه الميليشيا- التي يطلق عليها أحياناً اسم Little Blue Men في الصين- يمولها ويسيطر عليها جيش التحرير الشعبي. والصين لا تعترف بوجودها وحين يُسئل مسؤولوها عنها، يشيرون إليها بالقول "ما يسمى بالميليشيا البحرية".
صور الجنود التايوانيين تنتشر على مواقع التواصل الصينية
تقول إيزابيل إن هذه الطائرات المسيرة لا تخدم أغراض الاستطلاع فقط- "فهي تحلق على ارتفاع شديد الانخفاض فوق منشآت عسكرية أو تلتقط صوراً شديدة الوضوح للجنود"- ولكن لها تأثير نفسي على الجنود أيضاً، الذين "يجدون صوراً شديدة الوضوح لوجوههم على مواقع التواصل الاجتماعي الصينية، التي قد يتعرضون فيها للإهانة أو مطالبات بقتلهم".
وذكرت وسائل الإعلام التايوانية أن هذا يضر بمعنويات جنود الجزيرة.
وتقول إيزابيل: "الهدف منها تذكير تايوان بأنه لا مهرب لها من الضغوط الصينية، وأن بكين ستنتصر في النهاية".
إنها ليست تابعة للجيش الصيني، ولكن بكين سعيدة بها
لكن البعض لا يرونها يداً خفية للجيش الصيني.
إذ يرى بول هوانغ، الباحث في مؤسسة الرأي العام التايوانية، وهي مؤسسة فكرية غير حكومية وغير هادفة للربح، أن هذه المسيّرات يشغلها مدنيون عاديون "ربما بدافع الفضول، وربما بدافع القومية" لأنهم يريدون استفزاز تايوان.
وكانت زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي قد مثلت استفزازاً كبيراً للصين سواء على الصعيدين الرسمي أو الشعبي، خاصة أن الزيارة تحمل شبهة اعتراف بأن تايوان دولة مستقلة، وهي السياسة التي تخالف مبدأ الصين الواحدة، والذي تقره كل من الولايات المتحدة وبكين على السواء، وكانت تقره تايوان قبل سنوات قليلة.
ويقول هوانغ: "التحليق بهذا القرب من موقع عسكري تايواني وجذب الانتباه.. هذه ليست الطريقة التي ينشر بها أي جيش مسيراته أو يستخدمها. وبصراحة لا أرى أي سبب وجيه لأن يفعل الجيش الصيني شيئاً من هذا القبيل".
على أنه يتفق مع إيزابيل هيلتون في أن الصين يمكنها وقف هذه الغارات لو أرادت ذلك، لكنها لا تفعل، لأنها تستفيد منها.
وقال هوانغ إن "بكين ترى في هذه المسيرات محاولة من شعبها للضغط على تايوان، واستفزازها، والسخرية من انعدام كفاءتها. وهي تتعامل معها على أنها انتصار لدعايتها".
وقالت إيزابيل إن بكين "تلعب لعبة مزدوجة بكل تأكيد".
وقالت: "بكين، كما نعلم، تفرض سيطرتها على شبكة الإنترنت المحلية، وكذلك على المجال الجوي للبلاد. وهذا إن كان يحدث، فهو يحدث لأن الحكومة تريده أن يحدث".