"هتلر الروسي قد يحكم موسكو قريباً"، بينما يركز الغرب على شيطنة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فإن الواقع أن غياب بوتين قد يكون خبراً سيئاً لأوروبا والعالم، فقد يكون البديل شكلاً من أشكال النازية الروسية، وهو أمر بدأت تظهر ملامحه مع الانتكاسات المهينة التي تعرض لها الجيش الروسي في أوكرانيا مؤخراً.
تتشكل حركة احتجاجية روسية جديدة، لكنها ليست مؤيدة للديمقراطية ولا معارضة للحرب في أوكرانيا. بل إنها تضم أشد أنصار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تطرفاً، الذين أزعجتهم الانتكاسة العسكرية التي حلت بروسيا في الحرب الدائرة منذ ستة أشهر في أوكرانيا، وتحديداً في إقليم خاركييف.
فهم يريدون من بوتين أن يصعِّد الحرب، ويستخدم أسلحة أشد فتكاً، ويضرب المدنيين الأوكرانيين بلا رحمة. ويهاجمون علناً الجيش الروسي والقيادة السياسية بزعم أنهما لا يستخدمان القوة الروسية بكامل طاقتها، على أنهم نادراً ما يذكرون بوتين بالاسم، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
نفس الأجواء التي جاءت بهتلر.. العدو الداخلي أخطر من العدو الخارجي
ومطالبتهم بتصعيد الحرب واستخدام الأسلحة النووية، أمر خطير في حد ذاته ومؤشر على احتمال ظهور شكل من أشكال "النازية الروسية" بالفعل.
لكن الأكثر إثارة للقلق أن اختلاقهم لعالم خيالي يفترضون فيه أن هزيمة الجيش الروسي الذي يتمتع بكامل قوته جاءت من أعداء داخليين- وليس جنوداً أوكرانيين يقاتلون من أجل أرضهم باستخدام تكتيكات حديثة وأسلحة غربية- يشير إلى أن هذه الحركة ربما تكون لها تداعيات خطيرة في روسيا بعد الحرب وربما بعد بوتين.
فهذا الخطاب يبدو شبيهاً بنظرية المؤامرة الألمانية "الطعن في الظهر" التي حمّلت مسؤولية هزيمة البلاد في الحرب العالمية الأولى لأعداء أشرار في الداخل، من ضمنهم اليهود. وأصبح هذا الخطاب عن الهزيمة العسكرية جزءاً لا يتجزأ من الدعاية التي جلبت النازيين إلى السلطة.
والمروّجون الروس لخرافة الطعن في الظهر ليسوا حزباً أو حركة أو مجموعة واحدة. ولكنهم مزيج فضفاض -معظم أفراده نشطون على الإنترنت- من منظّري اليمين المتطرف والمتطرفين المتشددين والجنود المتقاعدين الذين شاركوا في حرب دونباس عام 2014 ومرتزقة شركة فاغنر والمدونين والمراسلين الحربيين الذين يديرون قنوات على تليغرام وموظفين في وسائل الإعلام الحكومية الروسية، وبعضهم جنود أو مرتزقة يقاتلون في أوكرانيا، ويسخّرون قنواتهم للتجنيد أيضاً.
القوميون يطالبون بقصف نووي لكييف ويرون الأوكرانيين محتلين لأراضي روسيا
ويتراوح ولاء هؤلاء للكرملين بين التبجيل والخضوع الكامل لبوتين الذي يعتبرونه رمزاً تاريخياً مقدساً والنشاط في حركات المعارضة اليمينية. ولكن على عكس أبواق الكرملين في التلفزيون الحكومي والجيوش الإلكترونية، فأعضاء معسكر تصعيد الحرب غير المنظم توحدهم انتقاداتهم اللاذعة للحملة العسكرية الروسية في أوكرانيا.
ويطالب عديد من هؤلاء النشطاء المؤيدين للحرب، المحبطين من الهزيمة الصادمة وغير المتوقعة على جبهة خاركيف الأوكرانية، بانتقام سريع دون اعتبار لقتل المدنيين. واقترح بعضهم شن هجوم نووي على كييف، عاصمة أوكرانيا، لتدمير الحكومة. ودعا المدون الشهير ماكسيم فومين (المعروف باسم فلادلين تاتارسكي) إلى توجيه ضربة تحذيرية نووية لجزيرة الثعبان الأوكرانية. ودعا آخرون إلى "حرب شاملة" على البنية التحتية المدنية في أوكرانيا.
ومستوى الكراهية والازدراء لكل ما هو أوكراني في منشوراتهم لا يمكن وصفه؛ إذ يصفون الأوكرانيين بأنهم محتلون غير شرعيين على أراضي الإمبراطورية الروسية أو بأنهم أتباع اللصوص النازيين الذين يحكمون كييف. وينادون بدكّ مدنهم إلى أن تعود إلى العصر الحجري فيما يصفون المذابح التي ترتكب بحق المدنيين بأنها "ذبح للخنازير".
منذ شهر إبريل/نيسان عام 2014، بدأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الحديث بوتيرة متزايدة عن مفهوم إعادة إحياء "روسيا الجديدة" أو "نوفوروسيا"، وهي مناطق في شرق وجنوب أوكرانيا يراها القوميون الروس في روسيا وأوكرانيا مناطق روسية منحها الاتحاد السوفييتي لأوكرانيا.
لماذا يفضح هؤلاء النشطاء إخفاقات الجيش الروسي للصحافة الغربية؟
ورغم أن معظم هؤلاء المدونين غير معروفين في الغرب- باستثناء دائرة صغيرة من متابعي الشؤون الروسية- جذب قليل منهم انتباه الصحافة الدولية. فحرصهم على نشر الإخفاقات العسكرية الروسية على أمل استفزاز الكرملين ودفعه إلى التصعيد جعل منهم مصادر غنية بالأخبار غير المصطنعة من الجبهة.
ومن أشهر هؤلاء المنتقدين إيغور جيركين، المعروف باسمه الحركي، ستريلكوف. وهو ضابط متقاعد من جهاز الأمن الفيدرالي ويفتخر بأنه "تسبب في اندلاع حرب دونباس عام 2014" حين قاد مجموعة من الروس المسلحين عبر الحدود الأوكرانية، واستولى على مدينة سلوفيناسك، واحتفظ بها ستة أسابيع.
وبكل المقاييس، فستريلكوف متطرف عنيف- وربما مجرم حرب لارتكابه عمليات قتل خارج نطاق القانون في دونباس المحتلة عام 2014. لكنه اشتهر كثيراً في الصحافة الغربية باعتباره منتقداً لحرب بوتين منذ أبريل/نيسان، حين قال صراحة إن انسحاب روسيا من ضواحي كييف وأجزاء من شمال شرق أوكرانيا جعل هزيمة روسيا حتمية.
وفي قناته على تلغرام، التي تضم حوالي 500 ألف مشترك، وفي بث مباشر له على شبكة التواصل الاجتماعي الروسية VKontakte، وصف ستريلكوف وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو بأنه "جنرال من ورق" ونائب رئيس مجلس الأمن الروسي دميتري ميدفيديف بالـ "أحمق". وقال إن غياب تعبئة عسكرية على مستوى البلاد فشل لا يغتفر. لكنه يتحاشى انتقاد بوتين مباشرة في الغالب، لا بدافع الاحترام ولكن فقط "حتى تنتهي الحرب"، مثلما ألمح في منشور حديث. وربما لهذا السبب غابت أي محاولات معلنة لإسكاته.
ينتقدون بيروقراطية الجيش الروسي، ويتوعدون الأوكرانيين بأخذ أطفالهم
ومن المفارقات أن بعض الشخصيات الأقل شعبية في روسيا هم الآن من أشد المنتقدين لاستراتيجية الكرملين، وإن كان ذلك لأسباب جميعها خاطئة، حسب المجلة الأمريكية.
وأحد هؤلاء إيغور مانغوشيف، المدير في وكالة أبحاث الإنترنت، مصنع الجيوش الإلكترونية في مدينة سانت بطرسبرغ الروسية، الذي كان مسؤولاً عن حملات التضليل والتدخل في الانتخابات الغربية. ومانغوشيف من أشد مؤيدي الإبادة في الحرب الروسية في أوكرانيا، ومؤخراً عرض جمجمة بشرية في نادٍ بموسكو زعم أنها تنتمي لجندي أوكراني قُتل أثناء الحصار الدموي لماريوبول. ويقول في منشور على قناته على تلغرام: "سنحرق منازلكم، ونقتل عائلاتكم، ونأخذ أطفالكم، ونربيهم كروس". على أن المودة مفقودة بين مانغوشيف وضباط الجيش وصناع القرار الروس؛ إذ يهاجمهم باستمرار بسبب ما يقول إنه ترددهم وبيروقراطيتهم البطيئة، التي يعتبرها العقبة الرئيسية أمام المجهود الحربي.
وأحدهم احتفى بعيد ميلاد هتلر
ومن هؤلاء المنتقدين أيضاً يفغيني راسكازوف، المعروف أيضاً باسم توباز والعضو في وحدة المرتزقة اليمينية المتطرفة التابعة لمجموعة فاغنر. ففي 20 أبريل/نيسان، نشر راسكازوف ما بدا أنه احتفال بيوم ميلاد أدولف هتلر دون إشارة مباشرة إلى اسم الزعيم النازي السابق.
وبعد خسارة الروس لمدينة بالاكليا، في شرق خاركيف أوبلاست، خلال الهجوم الأوكراني المفاجئ الأسبوع الماضي، سخر من وزارة الدفاع الروسية لمحاولتها تقديم الهزيمة على أنها "خدعة تكتيكية". وسرد راسكازوف جميع الأشياء التي، في رأيه، تفتقر إليها آلة الحرب الروسية: الصدق في الاعتراف بهزيمة داخلية، وزارة دفاع جديدة بالكامل، قادة أكثر براعة، وجيش مجهز جيداً ينسق بين مختلف فروعه.
هل تصعد النازية الروسية بعد ذهاب بوتين، أم نرى غورباتشوف جديداً؟
ترى المجلة الأمريكية أن هزيمة روسيا المحتملة، والأزمة الاقتصادية العميقة، وخسارة مكانة القوة العظمى على يد دولة لا يعترف الكرملين بوجودها أصلاً (أوكرانيا)، كلها عوامل تشكل أرضاً خصبة للمتطرفين الذين سيتضاعف تطرفهم في حال سقوط نظام بوتين وبدء الصراع على المسار الذي ستسلكه روسيا مستقبلاً. ولو أن القوميين المؤيدين للحرب الذين يفتشون عن أعداء يحمّلونهم المسؤولية هم المعارضة الوحيدة المتبقية في روسيا، فقل على الدنيا السلام.
وحتى الآن ما زال بوتين خط أحمر بالنسبة للقوميين الروس، فهو راعيهم، والرجل الذي يعمل على إعادة أمجاد روسيا، ولكن مثل هذه التيارات الشعوبية يصعب السيطرة عليها، خاصة لو طالت الحرب ولحقت إهانات أخرى بموسكو.
ورهان الغرب أن سقوط أو غياب بوتين، قد يصبح أفضل لأوكرانيا وأوروبا، قد يكون رهاناً خاطئاً تماماً، فبوتين بإرثه المستمد من الاستخبارات السوفييتية قد يكون أكثر براغماتية وأقل راديكالية من جوانب أخرى كامنة في التركيبة الروسية التي قدمت للعالم طابوراً طويلاً من الطغاة الدمويين بدءاً من إيفان الرهيب مروراً ببطرس الأكبر، وصولاً لجوزيف ستالين.
وتعرض روسيا للحصار وما يترتب عليه من مشكلات اقتصادية أو الإذلال العسكري لها، قد يمهد لصعود فاشية روسية، خاصة أن موجة اليمين المتطرف تتزايد في الديمقراطيات الغربية، رغم كل رخائها، وقيمها الديمقراطية التي تتباهى بها.
فإذا كانت السويد واحدة من أغنى دول العالم وأكثرها تقدماً وليبرالية، قد منحت للتو حزباً يمينياً معادية للهجرة فوزاً بحصة كبيرة من البرلمان، وأمريكا بعد أن أوصلت أول رئيس أسود للسلطة (باراك أوباما) والذي عاشت في عهده فترة من الرخاء غير المسبوق، انتخبت بعده دونالد ترامب الرجل الذي توعد بوقف دخول المسلمين للبلاد وإقامة سور عظيم لمنع تدفق المهاجرين من المكسيك.
فكيف يمكن أن تقدم روسيا للعالم، إذا تعرضت لخليط من الأزمات الاقتصادية والإذلال السياسي والعسكري.
فالشعور الروسي التقليدي بالمظلومية من الغرب، مع أفكار التيارات الشعوبية الروسية التاريخية المعادية لمحيط روسيا سواء الإسلامي أو الأوروبي (لا سيما الكاثوليكي والبروتستانتي)، والتاريخ الذي يفاخر به الروس والمعمد بالدم والمذابح قد يجعل اليمين الشعوبي الروسي أخطر كثيراً من اليمين المتطرف الأوروبي الحالي وحتى النازية.
وحتى لو تحقق ما يتمناه الغرب، وجاء بعد بوتين رئيس معتدل بالمعايير الغربية (ميخائيل غورباتشوف جديد)، ويريد عودة موسكو للساحة الدولية واستعادة العلاقات مع أوروبا وأمريكا، فإن طلبات الغرب المتوقعة منه والتي ستكون على الأرجح مبالغاً فيها ومحاولاته لتقليم أظافر موسكو أو إذلالها، قد تدفعها للنكوص نحو التطرف القومي.
قد تتفاعل هذه العوامل لتأتي بهتلر روسي، ولكن الفارق بين هتلر الألماني وهتلر الروسي أن الألماني لم تكن لديه أسلحة نووية، أما الروسي فلديه ما يكفي من القنابل ليجعل الأرض غير صالحة للسكنى.