جاء إعلان إسرائيل عن استخدام طائرات مسيّرة لقمع المقاومة الفلسطينية بالضفة ليمثل جريمة حرب محتملة؛ لأنه يهدد حياة المدنيين الفلسطينيين، ولكنه في الوقت ذاته يشكل اعترافاً بتنامي المقاومة التي بات مسارها يقلق تل أبيب، ولكن هل يمكن بالفعل لهذه المسيّرات الإسرائيلية أن تئد المقاومة في الضفة؟ علماً بأنها فشلت في تحقيق ذلك بغزة.
وكشفت القناة الـ12 الإسرائيلية أن الجيش الإسرائيلي بدأ استخدام طائرات مُسيّرة مُسلحة في الضفة خلال عمليات في جنين ونابلس، معقلي المقاومة بالضفة الغربية، حيث رافقت هذه الطائرات اقتحامات في مناطق جنين بالمدينتين الواقعتين بشمال الضفة في الأيام الأخيرة.
حتى الآن لم تنفذ تلك الطائرات أية هجمات، ولكن إن كانت هناك ضرورة ستقوم القوات بتشغيلها، فالخطوة تدخل في إطار تغيير معايير استخدام النيران في الضفة الغربية"، حسب القناة الإسرائيلية.
ويمثل القرار جزءاً من سلسلة من القرارات التي اتخذتها الحكومة الإسرائيلية المنتهية ولايتها قبيل الانتخابات المقررة في نوفمبر/تشرين الثاني، والتي تتسم كلها بالتشدد الأمني والسياسي، سواء في الملف النووي الإيراني، أو ضد لبنان والضفة، في مؤشر على سعي الساسة الإسرائيليين لفعل أي شيء لإرضاء الناخبين، حتى لو أدى ذلك إلى سفك دماء الفلسطينيين أو إشعال أزمة بالمنطقة.
ويرى مراقبون فلسطينيون أن قرار الجيش الإسرائيلي استخدام طائرات مُسيّرة مُسلحة في الضفة الغربية، مؤشر قوي على توسّع أعمال "المقاومة" هناك.
وكان آخر هجمات المقاومة الفلسطينية، صباح أمس الأربعاء، حيث قُتل ضابط إسرائيلي، في هجوم نفذه فلسطينيان قرب حاجز الجلمة، شمالي الضفة.
جيل جديد من المقاومين قد يشعل انتفاضة جديدة
وتتوقع إسرائيل اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة في الضفة الغربية في أي لحظة، وتشعر بالقلق من تزايد عمليات المقاومة الفلسطينية المسلحة بالضفة، والتي ينفذها في الأغلب شباب لا ينتمي لحركات المقاومة الفلسطينية الأساسية، مما يجعل رصدهم أصعب.
وتتخوف الأوساط العسكرية الإسرائيلية تحديداً من عودة مدينة جنين ومخيمها كمعقل للمقاومة الفلسطينية المسلحة، وكذلك مدينة نابلس.
نداف أرغمان، رئيس الشاباك (جهاز الأمن العام الإسرائيلي)، ومعلّقون آخرون كثر، تحدثوا عن جيل فلسطيني وطني وشاب غير منتمٍ تنظيمياً، ولا يتأثر بالانقسام والتباينات السياسية، ومنفتح على كافة شرائح المجتمع، لكن دون أخذ تعليمات من أحد. وهو مرتبط أكثر بالسوشيال ميديا والإعلام الجديد المعبّر فعلاً عن العقل الجمعي الفلسطيني، ولا يستطيع الاحتلال أو السلطة الفلسطينية السيطرة أو إحكام قبضتهم عليه.
كانت مساعدة وزير الخارجية الأمريكية لشؤون المنطقة، باربرا ليف، قد زارت إسرائيل مؤخراً، وكان لافتاً اجتماعها مع مسؤولين أمنيين إسرائيليين، مثل رئيس جهاز الشاباك، ومنسق شؤون الاحتلال بالأراضي الفلسطينية غسان عليان، وسمعت منهما ما ذكره أرغمان علناً في ندوة بجامعة هرتسليا، حيث طرح أرقاماً عن تصاعد، بل تضاعف العمليات في السنة الجارية وجرأة الشباب الفلسطيني في مواجهة جيش الاحتلال، وزعمه أن هذا الأخير يجتاح مناطق سيطرة السلطة بشكل يومي مضطراً؛ نتيجة عجز أو تقاعس هذه الأخيرة. ما يؤجج الأوضاع ويؤدي إلى سقوط شهداء وجرحى واعتقالات، وبالمقابل إلى مزيد من الغضب في صفوف الجمهور الفلسطيني.
فنحن أمام جيل فلسطيني شاب عشريني في معظمه – الشهيد إبراهيم النابلسي لم يتخطّ العشرين، كما عديد من منفذي العمليات الفردية والشهداء في الأسابيع والشهور الأخيرة – جيل لم يشهد، ولكن سمع عن الانتفاضة الثانية "والأولى بالطبع"، التي قمعتها إسرائيل بدموية ووحشية، بما في ذلك حصار غزة، وإعادة احتلال الضفة الغربية.
أسقط مرور الزمن على هذه المذابح الإسرائيلية سقوط جدار الخوف جيل، ولكنه لم يسقط الجدار الغضب الفلسطيني، الذي لا تبقي جذوته ذكريات المذابح فقط، بل الممارسات الإسرائيلية والانتهاكات بحق المقدسات في القدس.
وفيما يخص السلطة وقيادتها فيراها الجيل الجديد عاجزة عن تحمل مسؤوليتها وحمايته وتحريره من الاحتلال، كما عن توفير حياة كريمة له، بعيداً عن قبضته وهيمنته الناتجة أساساً عن أداء السلطة وخياراتها السياسية السيئة، بل الكارثية.
حرب منخفضة الكثافة.. إسرائيل قتلت ما يقرب من 100 فلسطيني منذ بداية العام
وتشهد الضفة الغربية توتراً ملحوظاً منذ بداية العام الجاري، حيث تتكرر حوادث إطلاق النار من قبل الفلسطينيين على قوات الاحتلال، ويقول الفلسطينيون إن ما يجري هو رد على الاقتحامات الإسرائيلية اليومية للمدن والمخيمات الفلسطينية بالضفة الغربية.
وقتلت قوات الاحتلال الإسرائيلي ما لا يقل عن 85 فلسطينياً حتى الآن هذا العام، بحسب معطيات صدرت عن وزارة الصحة التابعة للسلطة الفلسطينية. وتشمل هذه الأرقام فلسطينيين نفذوا هجمات داخل إسرائيل، بالإضافة إلى الصحفية المخضرمة مراسلة قناة "الجزيرة" شيرين أبو عاقلة، التي تحمل جنسية أمريكية، كما قتلت فتية شاركوا في مظاهرات رداً على العمليات العسكرية الإسرائيلية الليلية في أحيائهم، وزعمت سلطات الاحتلال أنها عنيفة.
وتقلق إسرائيل من صعود المقاومة في الضفة الغربية تحديداً، بالنظر إلى الاتصال الجغرافي بين الضفة، ولاسيما شمالها وأراضي 48، مما يعني إمكانية انتقال الهجمات لداخل الخط الأخضر.
وقال وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس، الخميس 15 سبتمبر/أيلول 2022، إن الواقع بالضفة الغربية بات "أكثر تعقيداً من الماضي"، في إشارة إلى المواجهات شبه اليومية التي تشهدها الضفة بين الفلسطينيين وجيش الاحتلال الإسرائيلي.
وقال غانت، في المؤتمر السنوي لمعهد سياسة مكافحة الإرهاب في جامعة رايخمان الإسرائيلية: "كل الساحات نشطة وحساسة، ويمكن أن يحدث شيء ما، في كل منها في الصباح، أو في فترة ما بعد الظهر، ويجب الحفاظ على هذه اليقظة".
تل أبيب تشعر بالخطر على حياة جنودها
وأوضح خبراء فلسطينيون في أحاديث منفصلة مع وكالة الأناضول، أن إسرائيل باتت تشعر بخطر محدق يهدد حياة جنودها خلال عمليات الاقتحام شبه اليومية للمناطق السكنية الفلسطينية.
ومنذ بداية العام الجاري، ينفذ الجيش الإسرائيلي سلسلة عمليات تركزت في مدن نابلس وجنين وطوباس شمالي الضفة، قَتل خلالها عدداً من الفلسطينيين، واعتقل آخرين.
وتعرض الجيش الإسرائيلي في تلك العمليات لإطلاق نار من قبل مسلحين فلسطينيين، كما واجه مئات الفلسطينيين الغاضبين الذين رشقوا آلياته بالحجارة والعبوات الحارقة.
القرار سببه تزايد فعالية المقاومة وصعوبة اقتحام بعض المناطق الفلسطينية
الخبير في الشأن الإسرائيلي، محمد أبو علان، يرى أن قرار إسرائيل استخدام الطائرات المُسيّرة يحمل مؤشرين اثنين: الأول هو أن الجيش بات يشعر بمخاطر المقاومة الفلسطينية، التي تتسع بالضفة وتهدد حياة جنوده.
وأضاف: "الجيش الإسرائيلي يحاول تحقيق أهداف عمليات الاقتحام بأقل ما يمكن من الاحتكاك المباشر مع الفلسطينيين، والطائرات هي وسيلة يمكن استخدامها في قصف مناطق يصعب الوصول إليها".
وأشار إلى أن الجيش الإسرائيلي بات يشعر بمخاطر حقيقية تهدد حياة جنوده، جراء اتساع نطاق الهجمات المسلحة ضدهم.
وعن المؤشر الثاني يقول أبو علان، إن "استخدام الطائرات دليل على فشل عملياتي للجيش الإسرائيلي الذي يسيطر على الأرض، ويمكنه دخول أي موقع، لكن بعض المواقع يحدث فيها احتكاكات عنيفة، وليس من السهل اقتحامها كالمخيمات، والبلدة القديمة في نابلس.
فإسرائيل فشلت، ليس في وقف المقاومة فقط، بل في منع توسعها، وانتقالها لمناطق أخرى".
وتريد تقليل خسائرها حتى لو سقط عشرات الفلسطينيين
"لهذه الأسباب تسعى إسرائيل لتغيير قواعد الاشتباك مع المقاومة عبر المُسيّرات، للحد من المقاومة ووقفها"، حسب أبو علان.
ولم يستبعد الخبير بالشأن الإسرائيلي، تنفيذ هجمات عبر المُسيّرات في المستقبل القريب.
وقال: "قرار الاستخدام سيكون ميدانياً خلال تنفيذ عمليات للجيش الإسرائيلي، وإذا ما احتاجوا لتنفيذ اغتيالات عبر الطائرات لن يترددوا".
وتابع: "إسرائيل تقول إن الأمر سيكون بحذر شديد، لكن التجارب تقول إن إسرائيل مستعدة لقتل عشرات الفلسطينيين من أجل قتل مقاوم واحد".
ويرى أحمد رفيق عوض، مدير مركز القدس للدراسات، التابع لجامعة القدس، إن إسرائيل فتحت صفحة جديدة من المواجهة في الضفة الغربية.
وأضاف في حديث مع وكالة الأناضول، إن "إسرائيل تسعى لتقليل خسائرها، وتمنع الحرج على جنودها الذين يقتحمون المدن والمخيمات بالمئات لاعتقال فلسطيني، بينما يواجهون المئات من راشقي الحجارة، ومسلحين يطلقون النار".
وقال: "إسرائيل تريد وتحاول أن تصنع حالة رعب بالضفة، وتردع المقاومة، دون أن تدخل أطراف أخرى للمواجهة".
وأشار إلى أن قرار استخدام المُسيرات دليل "فشل أمني وسياسي إسرائيلي".
ولفت عوض إلى أن القرار الإسرائيلي دليل على "توسّع المقاومة أكثر وأكثر، وأن التقديرات الإسرائيلية بأن المقاومة ستتصاعد ولن تتوقف قريباً، لذلك تعمل (إسرائيل) على تغيير الأسلوب والأداة".
استخدام المسيّرات الإسرائيلية محاولة لتخويف المقاومين ولإرضاء ناخبي اليمين
ويرى مدير مركز "يبوس" للدراسات السياسية (خاص)، سليمان بشارات، أن إعلان الجيش الإسرائيلي عن إمكانية استخدام المسيّرات يأتي ضمن إطارين: الأول "هو محاولة خلق حالة من الخوف والردع"، والثاني "رسالة طمأنة من المؤسسة السياسية والعسكرية للمجتمع الإسرائيلي، الذي بات يشعر بتزايد عمليات المقاومة التي ينفذها شبان فلسطينيون، وبات المجتمع الإسرائيلي يضغط على قادة الجيش باتجاه توفير الحماية".
واللافت أن قرار استخدام المسيّرات الإسرائيلية يأتي قبيل الانتخابات العامة المقررة في نوفمبر/تشرين الثاني القادم، وهو الأمر الذي يؤشر أنها ضمن محاولات قادة الحكومة الحالية لجذب الناخبين الميالين لليمين، وإظهار أنهم أقدر على ردع الفلسطينيين من رئيس الوزراء السابق زعيم الليكود بنيامين نتنياهو.
وأضاف بشارات لوكالة الأناضول: "كأن إسرائيل تريد إيصال رسالة تخويف وردع أولية مفادها: أن كل شخص قد يُشكّل خطرا على أمن إسرائيل سيكون مستهدفاً ولا حاجة للانتظار".
وأشار مدير مركز "يبوس"، إلى أن إسرائيل تسعى لتعزيز الجنود الميدانيين الذين يقومون بعمليات الاقتحام والاعتقال، وتنفيذ عمليات الاغتيال، ويخوضون اشتباكات مسلحة تهدد حياتهم.
غير أن بشارات يرى بأن "إسرائيل لن تلجأ لاستخدام الطائرات العسكرية المسيّرة، إلا ضمن ضوابط عالية جداً، لخشيتها من أن تتوسع دائرة المواجهة، وكذلك الأمر تخشى من أن تتوسع دائرة ردة الفعل الميداني".
فتح تصف القرار بأنه تطور خطير
ويصف الناطق باسم حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح، حسين حمايل، القرار الإسرائيلي بـ"التطور الخطير".
وقال حمايل لوكالة الأناضول: " واضح أن إسرائيل تضع لنفسها أهدافاً إجرامية، نحن لا نفعل سوى أننا ندافع عن أنفسنا، وإسرائيل جربت كل إمكاناتها القتالية".
وأضاف: "استخدام المُسيّرات تطور خطير، ونية مبيّتة لحكومة الاحتلال لتصعيد الإجرام".
وقال: "لم يبق شيء لم تستخدمه إسرائيل، وهذا كله لن يرهبنا، ولن نتراجع للخلف، مستمرين في الدفاع عن شعبنا، ونفعل كل ملفات الصدام الميداني مع الاحتلال ومستوطنيه".
هل يأتي القرار بنتيجة عكسية؟
وبينما قد يؤدي هذا القرار إلى مأساة مروعة بحق المدنيين الفلسطينيين، فإنه قد يتسبب في المقابل بتزايد غضب الشباب الفلسطيني، وقد يدفع المقاومين لتطوير أساليبهم للتعامل مع خطر المسيّرات الإسرائيلية التي يعلمون أنها لن تحمل الموت لهم فقط، بل قد تصيب كل أبناء الشعب الفلسطيني حتى النساء والأطفال.
خاصة أن تجربة المقاومة في قطاع غزة أظهرت أن الحركات الفلسطينية تمكنت من تطوير أساليبها الدفاعية والهجومية للتعامل مع التهديدات الإسرائيلية.
وقد يؤدي ظهور خطر المسيّرات الإسرائيلية في الضفة الغربية لتحفيز عملية نقل خبرات المقاومين في غزة إلى أقرانهم في الضفة.