يستمر الهجوم المضاد المفاجئ لأوكرانيا، الذي بدأ في 6 سبتمبر/أيلول 2022، في التغلب على الدفاعات الروسية شمال شرق البلاد وكسب المزيد من موطئ القدم. وقال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي مساء الثلاثاء 13 سبتمبر/أيلول إن قوات بلاده حررت نحو 8 آلاف كيلومتر مربع حتى الآن منذ بدء العملية المضادة، معظمها منطقة خاركيف الشمالية الشرقية.
في الوقت نفسه، جعل هجوم خاركيف الجيش الروسي يظهر في موقف ضعيف، وسط تساؤلات عن أسباب التقهقر الروسي المفاجئ والتقدم الأوكراني المتسارع على الأرض. فما التكتيكات العسكرية التي سمحت لأوكرانيا بالتقدم على الأرض؟
ما الذي يحصل في شمال شرق أوكرانيا؟
تقول أوكرانيا إنها وضعت نصب عينيها تحرير جميع الأراضي التي سيطرت عليها القوات الروسية بعد دفعها للتقهقر في هجوم مضاد سريع في شمال شرق البلاد.
ونقلت رويترز عن متحدث أمريكي قوله إن القوات الروسية تركت مواقع دفاعية، لا سيما في خاركيف، ثاني أكبر مدينة في أوكرانيا، وما حولها.
واعترف فيتالي جانتشيف، الرئيس المعين من قبل روسيا للإدارة في المنطقة التي ما زالت روسيا تسيطر عليها من منطقة خاركيف، بأن القوات الأوكرانية أحرزت تقدماً نحو الحدود.
ومنذ أن تخلَّت موسكو عن معقلها الرئيسي في الشمال الشرقي يوم السبت 10 سبتمبر/أيلول، في أسوأ هزيمة لها منذ الأيام الأولى للحرب، استعادت القوات الأوكرانية السيطرة على عشرات البلدات في تحول مذهل في مسار القتال.
في الوقت ذاته، تحدث المستشار الرئاسي الأوكراني أوليكسي أريستوفيتش عن احتمالات التحرك في مقاطعة لوغانسك الشرقية، والتي تُعرف مع دونيتسك باسم دونباس، وهي منطقة صناعية رئيسية قريبة من الحدود مع روسيا.
أريستوفيتش قال، في مقطع مصور نُشر على موقع يوتيوب: "يوجد الآن هجوم على ليمان، ويمكن أن يكون هناك تقدم في سيفرسك"، في إشارة إلى بلدتين. وتوقع معركة من أجل السيطرة على بلدة سفاتوفو؛ حيث قال إن للروس مستودعات للتخزين. مضيفاً: "هذا هو أكثر ما يخشونه، أن نأخذ ليمان ثم نتقدم على ليسيتشانسك وسيفيرودونيتسك، وسيُعزلون عن سفاتوفو".
في غضون ذلك، قال دينيس بوشلين، زعيم جمهورية دونيتسك الشعبية التي يديرها وكلاء لروسيا، في مقطع مصور إن ليمان لا يزال في أيديهم. وأضاف: "استقر الوضع. العدو يحاول بطبيعة الحال التقدم في مجموعات صغيرة، لكن قوات الحلفاء (بقيادة روسيا) تصده تماماً".
ولا تزال القوات الروسية تسيطر على حوالي خُمس مساحة أوكرانيا في الجنوب والشرق، لكن الجيش الأوكراني الآن في حالة هجوم في كلتا المنطقتين ويستمر في إحراز تقدم ملحوظ على الأرض.
"اللامركزية".. ما التكتيكات التي جعلت أوكرانيا تحقق مكاسب على الأرض؟
منذ بداية الحرب، تعتمد استعادة الأرض بالنسبة لأوكرانيا، على الروح المعنوية وانهيار الخدمات اللوجستية على الجانب الروسي، ومع طول أمد الحرب ومراوحة القوات الروسية مكانها، لا شك أن العامل النفسي يلعب دوراً كبيراً في نتائج المعركة الآن، ولكي تحقق أوكرانيا بعض المكاسب، يجب أن تتراجع الإرادة الروسية والقدرة على القتال.
مع ذلك، فإن قدرة أوكرانيا على إيقاف وصد وحتى تدمير القوات الروسية المهاجمة لا يمكن أن تحدث بدون كفاءة تكتيكية كبيرة، كما يقول تقرير لمجلة national interest الأمريكية.
وصرح رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية الجنرال مارك ميلي، في الاجتماع الأخير لمجموعة الاتصال الدفاعية الأوكرانية في قاعدة رامشتاين الجوية بألمانيا، الذي عقد في 8 سبتمبر/أيلول 2022، بأن "الأوكرانيين أظهروا كفاءة تكتيكية فائقة"، خلال المعارك الأخيرة.
حيث استخدمت أوكرانيا الأسلحة التي قدمتها الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي وتكتيكات الحرب المبتكرة لتحقيق نجاح غير متوقع في معركة خاركيف، وبالمعنى التكتيكي، يمكن تفسير النجاح الأوكراني بمفهوم "اللامركزية"، كما يقول كريس أوزبورن محرر الشؤون الدفاعية في مجلة "ناشونال إنترست".
حيث طبق الأوكرانيون فكرة القيادة والسيطرة اللامركزية خلال المعارك الأخيرة، وكان لهذا التكتيك تأثير كبير في العديد من النواحي الرئيسية للمعركة. وربما يكون استخدام أوكرانيا للأسلحة المضادة للدروع هو العنصر الأكثر وضوحاً في هذا الأمر؛ حيث أظهرت مجموعات متفرقة من المقاتلين المترجلين القدرة على نصب الكمائن وضرب وشن الهجمات على القوات الروسية الآلية القادمة من خلال التفريق والضرب في زوايا مختلفة من مواقع مخفية بالكتف.
وبواسطة هذه الأسلحة المضادة للدبابات، ومن خلال عدم الحاجة إلى "الحشد" في تشكيلات كبيرة أو تنظيم كل حركة من مركز قيادة مركزي واحد، كان المقاتلون الأوكرانيون قادرين على الاستفادة من عنصر المفاجأة مع جعل أنفسهم أهدافاً أصغر وأقل عرضة لخطر المهاجمين الروس.
مع وضع هذه العوامل في الاعتبار، أوضح قائد سابق رفيع المستوى داخل مجتمع الاستخبارات الأمريكية، أن قدرة القائد على الإلهام تكون فعالة فقط إلى الحد الذي يقابلها بالكفاءة التكتيكية والقدرة العملية على القيادة. وقال مايك ميرز، المدير السابق لرأس المال البشري في وكالة المخابرات المركزية، لصحيفة ناشيونال إنترست، إن أهم نوعية قيادة مطلوبة وسط القتال والنيران المعادية الواردة هي الكفاءة التكتيكية.
ويقول ميرز إنه "إذا وقعت في معركة بالأسلحة النارية، فإن ما تتمناه أكثر من أي شيء آخر، هو أن الرقيب يعرف ماذا يفعل وكيف يفعل ذلك. أنت لا تهتم كثيراً بهذه الأشياء الأخرى. وهذا هو الاستثناء الوحيد في القيادة".
عناصر حاسمة في أرض المعركة
على هذا المنوال، تقول ناشيونال إنترست، إنه يمكن رؤية جانب آخر من الاستخدام الفعال لأوكرانيا لاستراتيجية "اللامركزية" في مجال الاتصالات، حيث لا يبدو أن هناك أي نوع من "محور" القيادة والسيطرة الوظيفية، أو المركز، أو الموقع الذي يتم من خلاله تنسيق القرارات التكتيكية لدى الجيش الأوكراني.
بدلاً من ذلك، يتم تمكين أولئك الذين هم على رأس الرمح لاتخاذ قرارات سريعة ضمن إطار أو هيكل قيادة أوسع. ويعد وجود "عُقد" راديو متعددة ومشتتة عنصراً حاسماً في استراتيجية "اللامركزية"؛ لأنها تجعل الاتصال أكثر قابلية للبقاء واستدامة عند مواجهة تهديد كبير.
و"العقد" الأصغر أو المواقع الراديوية الفردية المنتشرة على حدة في أرض المعركة، تخلق إشارات أصغر وأقل قابلية للاكتشاف يحتمل أن يتم العثور عليها أو مهاجمتها من قبل القوات الروسية. وكلما كان الراديو أو الجهاز الإلكتروني أصغر، كانت الإشارة المنبعثة أقل قابلية للاكتشاف لتتبع الأعداء والتشويش عليها.
وقد تكون استراتيجية القيادة والسيطرة اللامركزية هذه أحد الأسباب الرئيسية لعدم وجود تقارير قليلة أو معدومة عن استخدام روسيا لأنظمة الحرب الإلكترونية بشكل كبير، وهو أمر كان معروفاً على نطاق واسع بقدرته على القيام به خلال توغلها السابق في أوكرانيا في عام 2014.
إعادة تنظيم الصفوف وحُسن استغلال الثغرات
في الوقت نفسه، يذكر تقرير لموقع Vox الأمريكي، أن من ضمن الأسباب الرئيسية التي أدت لتحقيق مكاسب أوكرانية على الأرض، هو استمرار تدفق المعونات العسكرية الغربية الحديثة، وإمداد الأوكرانيين بالمعلومات الاستخباراتية الخاصة بمناطق الضعف لدى القوات الروسية، إضافة إلى إعادة تنظيم صفوف الجيش الأوكراني بصورة أفضل، بعد الضربات القوية التي تلقاها في بداية الحرب.
وقال جون سبنسر، رئيس قسم شؤون الحرب الحضرية في معهد الحرب الحديثة التابع لكلية ويست بوينت العسكرية الأمريكية، للموقع: "ما حققته القوات الأوكرانية (هذا الأسبوع) هو نتيجة لأشهر من التخطيط، إضافة إلى أسابيع من الاستفادة من مسار الحرب على الأرض من جانب تلك القوات. الواضح أن هناك قوات أوكرانية أخرى كانت تتحيَّن فرصة وجود أي ثغرات في الخطوط الأمامية للقوات الروسية لاستغلالها وتحقيق تلك الانتصارات الخاطفة".
والإشارة هنا تتعلق بجبهتَي خيرسون في الجنوب، وخاركيف في الشرق؛ إذ كانت القوات الروسية تكثف وجودها وتحصّن دفاعاتها في الجبهة الأولى، لكن الأوكرانيين وضعوا ثقلهم العسكري على الجبهة الثانية، وهو ما فاجأ القوات الروسية في منطقة خاركيف فانسحبت سريعاً حتى لا يتم تطويقها من جانب الأوكرانيين، بحسب الخبراء العسكريين الغربيين.
أما روسيا فلم تقر مباشرة بأنها تعرضت لهزيمة على الأرض، لكن وزارة الدفاع الروسية قالت، السبت 10 سبتمبر/أيلول، إن قواتها تخلت عن مدينة إيزيوم، معقلها الرئيسي في شمال شرق أوكرانيا، وبالاكليا المجاورة، مضيفة أن ذلك كان عبارة عن "إعادة تجميع" للقوات مقررة مسبقاً.
وتقول وزارة الدفاع البريطانية، من جانبها، إن روسيا أمرت على الأرجح بالانسحاب من منطقة خاركيف، غربي نهر أوسكيل، ويعني هذا التخلي عن خط السكك الحديدية الوحيد الذي دعم العمليات الروسية في الشمال الشرقي.
وقالت بريطانيا إن موسكو تكافح أيضاً لجلب قوات الاحتياط إلى الجنوب؛ حيث تسعى أوكرانيا من خلال هجومها لعزل آلاف الجنود الروس على الضفة الغربية لنهر دنيبرو؛ ما يجبر معظم القوات الروسية على التركيز على "الإجراءات الدفاعية الطارئة".
روسيا في مواجهة أخطر هزيمة منذ بداية الحرب
الخلاصة هنا هي أنه من شأن المزيد من عمليات الانسحاب الروسية أن تجعل القوات الأوكرانية قريباً في وضع يمكنها من مهاجمة الأراضي التي تسيطر عليها موسكو والانفصاليون الأوكرانيون منذ عام 2014 في إقليم دونباس. واعترف دينيس بوشيلين، زعيم الإدارة الانفصالية الموالية لموسكو في إقليم دونيتسك، بالتعرض بالفعل لضغوط من اتجاهات عديدة خلال الأيام الأسابيع والأيام الماضية.
من المؤكد أن المكاسب الأوكرانية السريعة في منطقة خاركيف تضع روسيا في مواجهة أخطر هزيمة لها منذ على بداية الحرب؛ إذ حرم هذا التقدم القوات الروسية من مراكز لوجستية حيوية كانت تستخدمها لتوصيل الإمدادات إلى قواتها في شرق أوكرانيا.
لكن تأثير ذلك التقدم الأوكراني على مسار الحرب ذاتها، أو بمعنى أدق إذا ما كان ذلك يعني إمكانية تحقيق أوكرانيا انتصاراً عسكرياً حاسماً على روسيا، يظل محل شك كبير، بحسب الأمريكيين والأوكرانيين أنفسهم.