طغت التغطية الإعلامية لوفاة الملكة إليزابيث على الإنترنت حول العالم، ولا تزال، لكن ذلك الحيز الضخم من الاهتمام لم يكن تعبيراً خالصاً عن الحزن، فالتاريخ الطويل للاستعمار البريطاني في إفريقيا عاد للواجهة مرة أخرى.
كانت الملكة إليزابيث الثانية قد فارقت الحياة عن عمر 96 عاماً، وأعلن قصر باكنغهام وفاة الملكة إليزابيث الثانية مساء الخميس 8 سبتمبر/أيلول، بعد أن كان الأطباء قد أبدوا قلقهم بشأن صحتها صباح اليوم نفسه، وأوصوا ببقائها تحت الملاحظة.
وتربعت إليزابيث الثانية على عرش التاج البريطاني منذ عام 1952، وكانت تحكم أيضاً 32 دولة، ضمن دول الكومنولث التي تشكلت مع نهاية الاستعمار البريطاني الممتد لتلك الدول، ثم تقلص العدد إلى 15 دولة، من بينها كندا وأستراليا ونيوزيلندا.
وبعد 70 عاماً قضتها إليزابيث الثانية على العرش في المملكة المتحدة، أصبح نجلها الأكبر وولي العهد الأمير تشارلز، تلقائياً، ملكاً للمملكة المتحدة، ليتولى مسؤولية قيادة العائلة الملكية الأقدم، حيث يمتد حكم الأسرة لأكثر من ألف عام، ويصبح الملك تشارلز الثالث حاكماً لتلك الدول خلفاً لوالدته.
"لم أحزن عليها"
"سحابة الاستعمار تخيم على إرث الملكة إليزابيث في إفريقيا"، تحت هذا العنوان رصدت شبكة CNN الأمريكية كيف أثارت وفاة الملكة إليزابيث الثانية كثيراً من ردود الأفعال على الإنترنت، والتي لم تكن جميعها حزناً عليها، فقد نشر بعض الشباب الأفارقة صوراً وقصصاً لأجدادهم، الذين قاسوا فترة وحشية من تاريخ الاستعمار البريطاني خلال فترة حكم الملكة الطويلة.
وكتبت شابة إفريقية على تويتر: "لم أحزن عليها"، ونشرت صورة لما قالت إنه "تصريح تنقل" يخص جدتها، وهو عبارة عن وثيقة استعمارية تقيد حرية تنقل الكينيين الخاضعين للاستعمار البريطاني في الدولة الشرق إفريقية.
وكتبت أخرى أن جدتها "كانت تحكي لنا كيف كن يتعرضن للضرب ويحرمن من أزواجهن ويقمن على رعاية أطفالهن وحدهن" في زمن الاستعمار. وأضافت: "لن ننساهم أبداً؛ هؤلاء أبطالنا".
يسلط هذا الرفض الشديد للحداد الضوء على مدى تعقيد إرث الملكة الراحلة، التي رغم شعبيتها الهائلة، كانت تعتبر أيضاً رمزاً للقمع في أجزاء العالم التي امتدت الإمبراطورية البريطانية إليها ذات يوم.
يقول أستاذ الاتصالات فاروق كبيروغي بجامعة ولاية كينيساو لشبكة CNN، إن ذكرى الملكة لا يمكن فصلها عن ذلك الماضي الاستعماري في إفريقيا، وأضاف: "إرث الملكة بدأ في فترة الاستعمار ولا يزال غارقاً فيه. وكان يُقال إن الإمبراطورية البريطانية لا تغرب عنها الشمس، ومشاعر الحزن والأسى مهما بلغ حجمها لن تمحو هذا".
وعلى الرغم من أن كثيراً من القادة الأفارقة قدموا تعازيهم في وفاة الملكة، مثل الرئيس النيجيري محمد بخاري، الذي وصف عهدها بأنه "فريد ورائع"، إلا أن حركات أخرى بارزة في القارة السمراء لم تفعل ذلك.
ففي جنوب إفريقيا، كان أحد أحزاب المعارضة، Economic Freedom Fighters، واضحاً. وقال في بيان: "لم نحزن لوفاة إليزابيث، لأن موتها بالنسبة لنا تذكير بفترة شديدة المأساوية في هذا البلد وتاريخ إفريقيا". وأضاف: "تجربتنا مع بريطانيا كانت مؤلمة… قتل وانتزاع ملكية وتجريد الشعوب الإفريقية من إنسانيتها".
مآسي الاستعمار البريطاني في إفريقيا
أشار آخرون إلى دور بريطانيا في الحرب الأهلية النيجيرية، وتزويدها الحكومة بالأسلحة سراً لاستخدامها ضد سكان بيافرا الذين أرادوا تشكيل جمهورية مستقلة لهم. وقُتل ما بين مليون وثلاثة ملايين شخص في تلك الحرب. وأعاد المغني البريطاني جون لينون لقبه الفخري "رتبة الإمبراطورية البريطانية" إلى الملكة احتجاجاً على دور بريطانيا في هذه الحرب.
كانت الملكة الراحلة إليزابيث الثانية في زيارة إلى كينيا عام 1952 حين توفي والدها وأصبحت ملكة. ونالت كينيا استقلالها عن بريطانيا في 1963 بعد تمرد استمر 8 سنوات خلّف 10 آلاف قتيل على الأقل.
وافقت بريطانيا عام 2013 على التعويض عن 5 آلاف كيني عانوا من تجاوزات خلال انتفاضة ماو ماو، في صفقة قيمتها حوالي 20 مليون جنيه إسترليني (23 مليون دولار)، بحسب تقرير لموقع دويتش فيله الألماني.
وكتبت "ذي ديلي نايشن"، أكبر صحيفة في كينيا، في افتتاحية في نهاية الأسبوع أن "الملكة تترك إرثاً متفاوتاً من قمع وحشي لكينيين في بلادهم وعلاقات مفيدة للطرفين".
وأضافت الصحيفة: "ما تبع ذلك كان فصلاً دموياً في تاريخ كينيا، مع فظاعات ارتكبت ضد شعب كانت خطيئته الوحيدة المطالبة بالاستقلال". وقالت: "في حين أن العلاقات مع بريطانيا كانت مفيدة، من الصعب نسيان هذه الفظاعات".
ومع ذلك، يرى كثيرون في القارة أن الملكة كانت عامل استقرار وأحدثت تغييراً إيجابياً خلال فترة حكمها. وقالت أيوديلي مودوبي أوبايلو من نيجيريا لشبكة CNN: "شهد عهدها نهاية الإمبراطورية البريطانية والدول الإفريقية… أصبحت جمهوريات. وهي فعلاً لا تستحق أي جائزة أو احتفاء حار، لكنها كانت خطوة في الاتجاه الصحيح".
وأغدق ناشر مجلة Ovation، ديلي مومودو، عليها بالثناء وتحدث عن لقائه بها عام 2003 في أبوجا أثناء تغطيته لزيارتها إلى نيجيريا. وقال إنه فر من نيجيريا إلى المملكة المتحدة عام 1995، إبان حكم الديكتاتور ساني أباتشا.
وقال لشبكة CNN: "أخبرتها أنني كنت لاجئاً وأنا الآن صاحب مجلة، فهنأتني وواصلت تحيتها للآخرين في الصف. وأنا أقدّرها، فقد عملت بجد من أجل بلدها. وبذلت قصارى جهدها من أجل بلدها، وهذا درس في القيادة".
ويرى مومودو أن الملكة حاولت "التكفير" عن وحشية الإمبراطورية البريطانية. وقال: "جاءت إلى نيجيريا وهي دولة مستقلة وعادت بعض القطع الأثرية في عهدها. ولهذا السبب فدول الكومنولث مستمرة في الازدهار. وأنا أشعر بحزن بالغ لأن العالم فقد إنسانة عظيمة".
وقالت أديكونبي رولاند، من نيجيريا أيضاً: "وفاة الملكة تمثل نهاية حقبة. وأنا كفتاة مفتونة بقصتها. فهذه السيدة الشابة اعتلت العرش بطريقة لم يسبق لها مثيل، وبكثير من الكياسة والكرامة فعلت كل ما بوسعها لحماية بلدها ودول الكومنولث".
إليزابيث.. ملكة الكومنولث
صرحت الملكة الراحلة يوماً: "أعتقد أنني زرت دولاً إفريقية أكثر من أي شخص آخر تقريباً". وكانت أول زيارة خارجية رسمية لها في جنوب إفريقيا عام 1947، وهي أميرة، وزارت أكثر من 120 دولة بعد ذلك خلال فترة حكمها، وكثير منها في القارة الإفريقية.
وبعد انهيار الاستعمار وإفساح المجال بعد ذلك للاستقلال والحكم الذاتي فيما كان مستعمرات بريطانية، أصبحت هذه المستعمرات السابقة جزءاً من مجموعة دول الكومنولث برئاسة الملكة التي عملت بلا كلل للحفاظ على تماسك هذه المجموعة على مر السنين.
وأقامت روابط قوية مع القادة الأفارقة، ومنهم نيلسون مانديلا، الذي زارته مرتين في جنوب إفريقيا، وكوامي نكروما، الذي التُطقت لها صورة شهيرة وهي ترقص معه خلال زيارتها إلى غانا عام 1961.
على أن الدعوات تتنامى الآن للاستقلال ومحاسبة بريطانيا عن جرائمها السابقة مثل العبودية. ففي نوفمبر/تشرين الثاني عام 2021، أزالت بربادوس الملكة من منصب رئيستها، بعد 55 عاماً من إعلانها استقلالها عن بريطانيا، وأعلنت دول كاريبية أخرى، مثل جامايكا، نيتها فعل الشيء نفسه.
وزار الأمير وليام وزوجته، كاثرين، دوقة كامبريدج، جامايكا في مارس/آذار، لكنهما قوبلا باحتجاجات ومطالبات بتعويضات خلال رحلتهما. وظهرت مطالبات أيضاً بتقديم اعتذار رسمي عن دور العائلة المالكة في العبودية.
وكتب أعضاء المنظمة الاحتجاجية Advocates Network Jamaica: "جدتك خلال سنواتها السبعين على العرش لم تفعل شيئاً للتعويض والتكفير عن معاناة أجدادنا خلال فترة حكمها وخلال كامل فترة الاتّجار البريطاني بالأفارقة واستعبادهم واستعمارهم".
وفي يونيو/حزيران، أصبح الأمير تشارلز أول فرد في العائلة المالكة البريطانية يزور رواندا، حيث كان يمثل الملكة في اجتماع رؤساء حكومات الكومنولث.
وبعد وفاة والدته، أصبح رئيس مجموعة دول الكومنولث، وسيبدأ علاقة جديدة مع أعضائها، التي ينتمي حوالي ثلث أعضائها إلى إفريقيا.
ويتساءل البعض إن كان سينجح في إدارة المنظمة بالكفاءة نفسها التي أدارتها بها والدته، وإن كانت لا تزال مهمة بالنظر إلى تاريخها مع الإمبراطورية البريطانية.