كان رفض معظم دول إفريقيا وآسيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية الاصطفاف خلف موقف الغرب في أزمة أوكرانيا أمراً صادماً بالنسبة للغرب، وأثار تساؤلات هل تؤدي هذه المواقف إلى إحياء حركة عدم الانحياز من جديد، بل هل يصل الأمر إلى تحالف بين دول العالم الثالث وبين الصين وروسيا.
وسط مواجهة الغرب بقيادة الولايات المتحدة مع روسيا والصين، فإن فكرة عودة هذه المناطق إلى سياسة عدم الانحياز ولّدت القلق في العواصم الغربية وقليلاً من الإثارة في مناطق أخرى.
ومع ذلك، قد تكون هذه المشاعر في غير محلها، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
لماذا يقلق الغرب من احتمال إحياء حركة عدم الانحياز؟
في الغرب، لا يزال الجدل إن لم يكن القلق من حركة عدم الانحياز نابعاً من أنه ظل الحرب الباردة، كان "عدم الانحياز" في كثير من الأحيان مرادفاً للموقف المعادي للغرب.
منظمة دول عدم الانحياز لا تزال قائمة حتى اليوم، فهي تجمع دولي يضم 120 عضواً من الدول النامية، ولكنها فقدت بريقها الذي اكتسبته بدءاً من قمة باندونغ بإندونيسيا التي أسستها عام 1955 (المؤتمر الآسيوي – الإفريقي)، وهو أول مؤتمر واسع النطاق على مستوى دول إفريقية وآسيوية معظمها حديثة الاستقلال، وقد نُظم بمبادرة رئيسية من الهند وإندونيسيا، إلى جانب ميانمار (بورما حينها) وسريلانكا (سيلان حينها) وباكستان.
وشارك في المؤتمر رؤساء ورؤساء حكومات 29 دولة ينتمون إلى الجيل الأول من قيادات ما بعد الحقبة الاستعمارية من قارتي إفريقيا وآسيا، ومن أبرزهم نهرو، والرئيس الإندونيسي أحمد سوكارنو، والرئيس المصري جمال عبد الناصر.
مؤتمر باندونغ قاد بشكل مباشر إلى قيام حركة عدم الانحياز، عام 1961 في العاصمة اليوغسلافية بلغراد حينما اجتمعت 29 دولة، في أوج الحرب الباردة، ودعا الرئيس اليوغسلافي جوزيف تيتو الدول النامية إلى اتباع ما عُرف وقتها بـ"الطريق الثالث" بعيداً عن استقطابات معسكري الحرب الباردة، الغربي والسوفييتي (علماً بأن تيتو كان زعيماً شيوعياً بارزاً بل كان ينظر في بعض الأوقات أنه أكثر عداءً للغرب من موسكو، ولكنه اختلف معها بسبب حرصه على استقلال قرار بلاده).
بالنسبة للبلدان النامية، كان هدف بناء نظام غير غربي أو ما بعد غربي- وهو جزء من أيديولوجية عدم الانحياز منذ بداياتها في حقبة إنهاء الاستعمار- سراباً دائماً وبعيد المنال، حسب المجلة الأمريكية، التي تقول إن أيديولوجية عدم الانحياز قد ماتت منذ زمن بعيد. وعلى الرغم من أنها قد لا تُدفَن بالكامل، إلا أنها تشكل تهديداً كبيراً للغرب ولا تقدم خلاصاً للشرق، حسب تعبيرها.
كيف تفرقت دول عدم الانحياز عند أول اختبار حقيقي؟
إن ردود فعل الدول خارج الغرب على الصراع المتجدد بين القوى العظمى اليوم متنوعة للغاية بحيث لا تتناسب بدقة مع تصنيفها ضمن فئة معينة.
وهي ليست لديها علاقة تذكر بمفاهيم عدم الانحياز التي سادت خلال ذروة الحركة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، عندما وجدت الدول التي أنهت الاستعمار حديثاً نفسها في وسط نزاع عالمي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي- وشكلت كتلةً ثالثةً فضفاضة نتيجةً لذلك.
لم يكن عدم الانحياز مطلقاً مفهوماً متماسكاً، فقد كان يعكس باقةً من الأفكار المتميزة حول عالم ما بعد الاستعمار.
كانت إحدى هذه الأفكار هي الاقتراح القائل بأن الابتعاد عن القوى العظمى والكتل المنافسة لهو أمرٌ حاسم لحرية العمل في العالم. لم يستغرق الأمر وقتاً طويلاً حتى اصطدمت فكرة الحياد بالواقع.
كان على أحد مؤسسي فكرة عدم الانحياز، رئيس الوزراء الهندي، جواهر لال نهرو، أن يتخلى عنها مع اندلاع الحرب الصينية-الهندية في عام 1962. وبينما لجأ نهرو إلى الولايات المتحدة للمساعدة العسكرية، دخلت خليفته وابنته، إنديرا غاندي، في تحالف مع الاتحاد السوفييتي في عام 1971، في مواجهة التقارب الباكستاني-الأمريكي، كان التهديد الفعلي هو المهم وليس المبدأ المجرد.
العنصر الثاني لعدم الانحياز كان أيديولوجياً بحتاً: تحول مناهضة الاستعمار إلى مناهضة للغرب. استوعبت الكثير من النخب في العالم النامي النظريات الاشتراكية عن التنمية ورأوا الغرب الرأسمالي على أنه استعماري جديد.
كان الاتحاد السوفييتي والصين جيدين في استغلال هذا الاستياء المعاد للغرب وتقديم الدعم الاقتصادي والسياسي للأنظمة المستقلة حديثاً.
بلغ هذا الشعور ذروته في عام 1979، عندما أعلنت حركة عدم الانحياز، في قمة استضافها الزعيم الكوبي فيدل كاسترو في هافانا أن الاتحاد السوفييتي هو "الحليف الطبيعي" للعالم النامي.
لكن مقابل كل زعيم لجأ إلى موسكو للحصول على الدعم، كان هناك زعيم آخر يلجأ إلى الغرب من أجل بقاء النظام وتوازن القوى الإقليمي، وفي الأغلب فإن كل دولة نامية في إقليم حليف لأمريكا كان جارها وخصمها المحتمل حليف لموسكو والعكس، مثلما حدث في العالم العربي ومحيطه، حيث كانت إيران قبل الثورة الإسلامية حليفاً لأمريكا والعراق حليفاً للاتحاد السوفييتي، والجزائر صديقة لموسكو والمغرب أقرب للغرب.
البعد الثالث لعدم الانحياز كان فكرة الحركة التي ستقلب نظام ما بعد عام 1945 وتبني نظاماً جديداً يكون أكثر إنصافاً. بدا أن إنهاء الاستعمار السريع في الستينيات وظهور أغلبية تصويت البلدان النامية في الجمعية العامة للأمم المتحدة يوفران رياحاً خلفية لأولئك الذين يسعون إلى تغيير النظام العالمي طوال السبعينيات.
تزامنت تلك الحقبة مع شعور واسع النطاق بالانحدار الغربي وتنامي النفوذ السوفييتي في جميع أنحاء العالم. مثل الصين وروسيا اليوم، أقنع الاتحاد السوفييتي- بالإضافة إلى العديد من الحركات الراديكالية في جميع أنحاء العالم- أنفسهم بأن لحظة ما بعد الغرب قد حانت.
هزيمة الولايات المتحدة في حرب فيتنام، ونمو الحركات الاحتجاجية في الغرب، وانتصار أوبك في رفع أسعار النفط بشكل كبير وإلقاء الغرب في أزمة اقتصادية، والأزمة العامة للرأسمالية، والخطاب الكاسح لحركة عدم الانحياز.
أسباب أفول الحركة
كان جزء من زوال تأثير عدم الانحياز هو نتيجة عوامل اقتصادية بسيطة.
رأى القادة البراغماتيون في الجنوب العالمي قيود النموذج السوفييتي الاقتصادي، وبحلول الثمانينيات، تحول العديد منهم إلى الرأسمالية الغربية ونظامها للمؤسسات العالمية من أجل التنمية.
اتضح أن الاشتراكية كانت في أزمة عميقة وأن الرأسمالية تتمتع بقدر كبير من المرونة، حسب المجلة الأمريكية، بحلول الوقت الذي انهار فيه الاتحاد السوفييتي في عام 1991، كان الكثير من العالم النامي قد انضم بالفعل إلى توافقٍ في الرأي مع واشنطن بشأن التنمية الاقتصادية.
لماذا تبدو دول العالم الثالث غاضبة من الغرب الآن؟ فتش عن غطرسة النخب الجديدة
كان من الممكن أن تكون هذه نهاية قصة عدم الانحياز. لكن بذور اللامبالاة التي يعيشها العالم النامي اليوم تجاه الحرب الروسية في أوكرانيا زُرعت في حقبة ما بعد الحرب الباردة. بعد هزيمة الاتحاد السوفييتي، رأى الغرب القليل من الحاجة إلى تنمية علاقات جيدة مع النخب الحاكمة في جنوب الكرة الأرضية.
انعكست الغطرسة الجديدة أيضاً في السياسات التي حاولت تعزيز الديمقراطية وإعادة هندسة المجتمعات في العالم النامي، حيث قامت حكومات العالم الغني، والمنظمات، والمنظمات غير الحكومية الناشطة بتغطية الجنوب العالمي بأجهزة ضخمة من المساعدات المشروطة. والهيكلة السياسية، من الحكم الديمقراطي إلى سياسة المناخ.
أصبحت هذه المساعدات المشروطة بمثابة عادة غربية، بينما باتت العقوبات وقطع المساعدات أدوات مفضلة لتأديب المجتمعات النامية التي لم ترُق إلى المعايير التي وضعها الغرب.
كان هناك قناعة في الغرب بأن هذه السياسات تخدم قضية أسمى، وهي تحقيق التنمية والديمقراطية والاستدامة البيئية والمساواة الجنسانية في العالم الثالث.
سرعان ما بدا أن هذه السياسات تتحول إلى شكل من أشكال الوصاية والتدخل في شؤون العالم بما في ذلك اتهامات بتشجيع الانفصال والانقسامات وفرض قيم منافية لكثير من القيم المتفق عليها في دول العالم الثالث.
وتم تجاهل حقيقة أن الآخرين قد لا يرغبون في هذا التحول. كما لم تكن الثروة والقوة الغربية مكافأة لا نهاية لها يمكن الاعتماد عليها لإحداث تغيير مفضل في بقية العالم، حسب المجلة الأمريكية.
ورغم هذه الإخفاقات والنكسات المتكررة، فإن الافتراض بأن بقية العالم سوف يسير نحو الغرب لا يزال قائماً. ليس من المستغرب إذاً أن يكون المجتمع الاستراتيجي الغربي متفاجئاً للغاية عندما لم يقف بقية العالم ببساطة أمام الغزو الروسي لأوكرانيا.
كيف أخطأ الغرب في ترويج قضية أوكرانيا؟
ومع ذلك، لا يعني أي من هذا أن رد الفعل العكسي في العالم النامي سيتبلور في شكل عدم انحياز جديد، حسب المجلة الأمريكية.
يحتاج الغرب إلى تعلم عدد من الدروس إذا كان يسعى للحصول على دعم أوسع- بشأن أوكرانيا أو غيرها من القضايا الجيوستراتيجية- مما كان قادراً على حشده حتى الآن.
أولاً، كان بإمكان الغرب تقديم حجة أفضل بشأن حرب موسكو من خلال تأطير المشكلة بشكل مختلف. بدلاً من تعريفها على أنها صراع بين الديمقراطيات والأنظمة الاستبدادية، كان من الممكن أن يركز الغرب على مسألة سيادة أوكرانيا وسلامتها الإقليمية. هذه الأفكار لها صدى أكبر بكثير في العالم النامي، لأسباب ليس أقلها كثرة الحدود المتنازع عليها والصراعات المستعرة (ومخاوف الدول النامية من أطماع الدول الكبرى، لا سيما الغربية).
ثانياً، المسافة مهمة. إذا لم تستطع أوروبا الغربية والشرقية الاتفاق بشكل كامل على كيفية الرد على الحرب في أوكرانيا، وإذا لم يرَ الجمهوريون والديمقراطيون الأمريكيون روسيا بنفس العيون، فلماذا ينبغي للمرء أن يفترض أن أمريكا اللاتينية وإفريقيا وآسيا ستلتزم بالموقف الغربي الحالي في أوكرانيا؟
ثالثاً، يجب أن يكسب الغرب دعم العالم النامي في القضايا السياسية الكبرى بدلاً من المطالبة بهذا الدعم وكأنه استحقاق.
بعد إهمال المشاركة السياسية مع الجنوب العالمي والتنازل عن مساحة اقتصادية كبيرة للصين في سعيها لتحقيق العولمة، يحتاج الغرب الآن إلى العمل بجد لاستعادة دعم دول الجنوب.
تتمثل الخطوة الأولى في هذا الاتجاه في إدراك أن المنافسة بين الغرب والتحالف الصيني الروسي تتطلب العودة إلى الأشكال الكلاسيكية للدبلوماسية- لكسب الأصدقاء والتأثير على الشعوب. قد ينطوي على ضرورة التخلي عن الوعظ الغربي الذي ساد في العقود الثلاثة الماضية.
ومن المفارقات أن الأشخاص الذين سيجدون هذا الأمر أصعب هم أولئك الموجودون في الغرب الذين يعتبرون أنفسهم أصدقاء لجنوب العالم، ومع ذلك فقد مارسوا أكبر قدر من الضغط على البلدان النامية في سلسلة كاملة من القضايا.
ثانياً، ستساعد استعادة أهمية دراسات الأقاليم المختلفة في العلاقات الدولية الحكومات والمؤسسات الغربية على فهم تعقيدات المناطق والبلدان المختلفة حول العالم بشكل أفضل. لقد كان ظهور مجموعات ذات قضية فردية عالية الصوت في الغرب- جنباً إلى جنب مع نجاحها في وضع أجندة الحكومات ومؤسسات التنمية متعددة الأطراف- ضاراً بالعلاقات مع العالم النامي. إن الاستمرار في هذا المسار ستكون له نتائج عكسية أكبر في عصر احتدام التنافس بين القوى العظمى.
ثالثاً، تتمتع الدول النامية اليوم بفاعلية سياسية أكبر بكثير مما كانت عليه عندما كان عدم الانحياز موضوعاً آخر خلال الحرب الباردة.
نمت ثروات كثير من الدول النامية ومؤسساتها وثقتها، وتعلم العديد من نخبهم فن المساومة الجيوسياسية بين القوى العظمى المتنافسة. وهذا يوفر فرصاً من الحكمة للغرب اغتنامها، خاصة بالنظر إلى التحدي الاستراتيجي الأكبر بكثير الذي تمثله الصين اليوم مقارنة بالاتحاد السوفييتي في الماضي.
أخيراً، يجب على القادة الغربيين أن يتجاهلوا الخطاب السائد حول "عدم رغبة" جنوب العالم في الاختيار والتركيز بدلاً من ذلك على الاهتمامات الفردية ونقاط الضعف ومصالح الدول الرئيسية في العالم النامي. هذا هو بالضبط ما فعلته الدبلوماسية التقليدية وفن الحكم قبل أن يخطف القراصنة الأيديولوجيون السياسات الخارجية الغربية.
هل يعني ذلك تحالف العالم الثالث مع روسيا والصين أو تشكيل حركة عدم انحياز جديدة؟
لا يتوق العالم النامي إلى إعادة اختراع حركة عدم الانحياز الفاشلة.
جسدت النزعة العالمثالثية- مع نسلها الأيديولوجيات المتمثلة في القومية الآسيوية، والقومية العربية، والقومية الإسلاميةـ فشلاً ذريعاً، حسب كاتب التقرير.
ورغم الصخب السائد بين قسم من التعليقات الخاصة بجنوب الكرة الأرضية، فإن القليل من القادة في العالم النامي اليوم يخدعون أنفسهم بفكرة المساومة الجماعية ضد الشمال العالمي. إنهم أكثر حكمة الآن وأكثر مهارة في السعي وراء الأهداف الوطنية المُفرَدة.