فصل الجيش الأمريكي أحد جنوده من الخدمة لأسباب عنصرية، فما مدى عمق تلك القضية التي ترجع جذورها إلى نشأة الولايات المتحدة وجيشها؟ وهل لا تزال تمثل أزمة حتى الآن، رغم أن وزير الدفاع نفسه أمريكي من أصل إفريقي؟
وبشكل عام ارتبط تأسيس الولايات المتحدة الأمريكية بتاريخ طويل من العبودية والتفرقة العنصرية بين المهاجرين البيض، الذين قدموا من أوروبا للعالم الجديد، بين المواطنين من القارة السمراء الذين تم جلبهم كعبيد للعمل في مزارع القطن والدخان، قبل أكثر من أربعة قرون.
لكن نضال الأمريكيين السود من أجل الحرية والمساواة طويل وممتد، وبه محطات جوهرية أسهمت في تحقيق مطالب المساواة من الناحية القانونية بصورة لافتة، وصولاً إلى أن يتولى باراك أوباما منصب الرئيس، ورغم ذلك يرى كثيرون أن العنصرية في البلاد هي القاعدة، وما سواها ليس سوى الاستثناء الذي يثبتها ويؤكدها.
العنصرية في الجيش الأمريكي
فيما يخص الجيش الأمريكي كانت العنصرية الركن الرئيسي الذي تأسست عليه وحدات الجيش وأفرعه المختلفة منذ البداية، ولم يكن هذا الأمر غريباً أو مستهجناً، ففي نهاية المطاف كانت تلك هي القاعدة الرئيسية في البلاد.
واشتمل الفصل العنصري في القوات المسلحة الأمريكية على فصل القوات البيضاء وغير البيضاء، وفرض قيود على الجنود والضباط من القوات الملونة، التي كانت أدوارها محصورة في مهام الدعم، مثل المطبخ وحفر القبور وغيرها من المهام غير القتالية.
لم يتوقف الأمر عند ذلك الفصل في المهام والأدوار، بل امتد أيضاً إلى العقوبات والجزاءات المطبقة في الجيش الأمريكي، حيث كان السود والملونون يتعرضون لعقوبات مباشرة، تصل إلى حد الإعدام، في أي خلاف بين أحدهم وفرد آخر من الجيش يتمتع بالبشرة البيضاء. الفصل العنصري في صفوف الجيش الأمريكي كان شاملاً شكلاً ومضموناً، لدرجة أن الوجبات كانت تُقدَّم للجنود البيض في طابور وللجنود والضباط السود في طابور آخر.
وحتى فيما يتعلق بالنساء، لم يكن الأمر مختلفاً؛ إذ إنه باستثناء 18 أنثى أمريكية إفريقية كنّ قد خدمن في الحرب العالمية الأولى، ظل فيلق التمريض في الجيش الأمريكي، والذي تم تأسيسه رسمياً عام 1901، يتكون حصرياً من البيض حتى عام 1941، حين أفضت ضغوط من الرابطة الوطنية للممرضين الخريجين الملونين، وإيليانور روزفلت، إلى قبول الجيش للممرضين السود والملونين.
وهكذا تم تأسيس وحدة تمريض من السود كان قوامها 48 ممرضاً، وخلال الحرب العالمية الثانية تم الفصل بين الممرضات السود من جهة والممرضين والجنود البيض من جهة أخرى.
وربما يتبادر للذهن أن هذا الوضع العنصري غير المفهوم قد تغير منذ أمد طويل، خصوصاً في دولة تتفاخر بميثاقها الدستوري القائم على المساواة والحرية، إلا أن الأمور ظلت على حالها تقريباً حتى عام 1948، عندما صدر القرار التنفيذي 9981 الذي أنهى الفصل العنصري رسمياً في صفوف القوات المسلحة الأمريكية.
لكن حقيقة الأمر هي أن بعض أشكال الفصل العنصري في صفوف الجيش الأمريكي ظلت مستمرة بعد الحرب العالمية الثانية وحتى ما بعد حرب كوريا، بل إن الحكومة الأمريكية كانت قد امتثلت لطلب الحكومة الأيسلندية بعدم وضع جنود سود في القاعدة الأمريكية في كيفلافيك، أيسلندا، حتى السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، عندما بدأ الجنود السود يتمركزون في أيسلندا.
وزير دفاع أمريكي أسود
عندما تولى لويد أوستن، وزير الدفاع الأمريكي الحالي، منصبه كأول وزير دفاع أمريكي من أصل إفريقي، جعل من محاربة التطرف والعنصرية في صفوف القوات المسلحة الأمريكية هدفاً رئيسياً له، خصوصاً أن إدارة الرئيس جو بايدن تولت المسؤولية العام الماضي، خلفاً لدونالد ترامب، المتهم بتغذية العنصرية في البلاد.
وأعلن البنتاغون بالفعل حملة شعواء لمكافحة العنصرية في صفوف القوات المسلحة، وتم فرض إجراءات مثل تعديل عملية مراجعة طلبات الالتحاق بالجيش لتتضمن أسئلة تخص انضمام المتقدم لأي جماعات ذات أيديولوجية متطرفة، وهو ما لم يكن معمولاً به من قبل.
لكن الممارسة العملية على أرض الواقع لا تزال تؤكد أن مدى نجاح إجراءات البنتاغون في الكشف عن الميول العنصرية أو الأنشطة المتطرفة للساعين إلى الالتحاق بصفوفه، تعتمد بشكل كبير ورئيسي على مدى صدق المتقدم للالتحاق بالخدمة في الإجابة عن الأسئلة في استمارة الالتحاق، بحسب تقرير لموقع Military News الأمريكي. وربما تكون واقعة كيليان ريان خير مثال على تلك المعضلة.
والتطرف في الولايات المتحدة يقصد به الآن جماعات اليمين المتطرف المسلحة، والتي منها تنظيم Proud Boys "الأولاد الفخورون"، وتنظيم Oath Keepers "حماة القسم" وغيرهما، والتي كان لها الدور الأكبر خلال أحداث اقتحام الكونغرس الأمريكي، يوم 6 يناير/كانون الثاني 2021، بغرض تعطيل جلسة التصديق على خسارة ترامب وفوز بايدن.
ومن بين نحو مئتي متهم تم القبض عليهم بالفعل على خلفية ذلك اليوم الدامي والمشؤوم في تاريخ الديمقراطية الأمريكية، كان هناك 95 متهماً خدموا في الجيش الأمريكي في فترة ما من حياتهم، أي هم عسكريون سابقون، وهو ما مثل جرس إنذار مخيفاً في أروقة المؤسسة العسكرية الأمريكية، وجعل من قضية "التأكد من خلفية المتقدمين للالتحاق بالخدمة" أمراً حتمياً.
ما قصة العسكري الأبيض الساعي "لقتل السود"؟
لكن يبدو أن تلك الإجراءات التي بدأ البنتاغون في تطبيقها للتأكد من عدم انتماء المتقدمين للخدمة في صفوف الجيش لا تزال بحاجة لمزيد من المراجعة، بعد أن اتضحت مؤخراً تفاصيل قصة عسكري يدعى كيليان ريان.
ريان هو متخصص في دعم إطلاق النيران، كان يحمل رتبة أخصائي ضمن الكتيبة 319 المجوقلة للمدفعية، كما خدم في الكتيبة 325 المجوقلة، سرية المشاة. ويتمثل دور ذلك الأخصائي في جمع المعلومات الاستخباراتية على الأرض وتوصيلها إلى قوات إطلاق النيران، جوية كانت أو برية أو بحرية، لاستهداف أهداف بعينها.
يوم 26 أغسطس/آب الماضي، ألقى مكتب المباحث الفيدرالية القبض على ريان، وفي اليوم نفسه تم تسريحه من الخدمة في الجيش، لإدانته بالكذب في معلومات كتبها في طلب الحصول على تصريح أمني سري، بحسب ما نقلته شبكة CNN الأمريكية، نقلاً عن مستندات محاكمة الأخصائي السابق في الجيش الأمريكي. كما أظهرت مستندات المحاكمة أن ريان كان قد تعرض لغرامات سابقة بسبب القيادة تحت تأثير الكحول.
لكن القيادة تحت تأثير الكحول ليست مخالفة تؤدي إلى "التسريح غير المشرف من الخدمة"، كما أن طلب الحصول على تصريح أمني سري من جانب ريان- في إطار تأدية مهامه العسكرية- يرجع تاريخه إلى شهر مايو/أيار 2020، وهو ما أثار الفضول بشأن السبب الحقيقي وراء تسريحه من الخدمة، خصوصاً أن ذلك تم في نفس يوم القبض عليه.
التحق ريان بالجيش الأمريكي أوائل مايو/أيار 2020، وتم تقديم طلب الحصول على التصريح الأمني السري الخاص به، والمطلوب لتأدية مهام وظيفته "كأخصائي دعم لعمليات إطلاق النار" في نفس الوقت.
لكن تحقيق القوة المشتركة لمكافحة الإرهاب، التابعة للإف بي آي (مكتب التحقيقات الفيدرالي)، اكتشف روابط بين ريان وأيديولوجية القومية البيضاء، إضافة إلى إصداره تهديدات صريحة بالعنف بحق الأقليات عبر حسابات له على منصات التواصل الاجتماعي، وهو ما أظهرته أيضاً سجلات محاكمته.
اللافت هنا هو أن ريان كتب نصاً عبر أحد الحسابات الخاصة به على السوشيال ميديا: "أنا أخدم (في الجيش) للحصول على خبرات قتالية لأصبح أكثر كفاءة وقدرة في قتل السود (استخدم وصفاً عنصرياً للغاية هو زنوج)".
نشر ريان ذلك المنشور يوم 27 مايو/أيار 2020، وكان البريد الشخصي الذي يستخدمه في ذلك الوقت هو "NaziAce1488″، في إشارة إلى الزعيم النازي أدولف هتلر، وحركة تفوق البيض الأمريكية، بحسب موقع Military News.
لم يصدر تعليق رسمي عن البنتاغون أو الإف بي آي بشأن قضية ريان، خصوصاً أن ارتباطه بجماعات وأفكار اليمين المتطرف يرجع إلى ما قبل تقدمه للالتحاق بالجيش، ما يثير التساؤلات بشأن كيف ولماذا مر أكثر من عامين حتى تم اكتشاف تلك الروابط من جانب الجهات المختصة، ومن ثم تسريحه من الخدمة.
كما أنه ليس واضحاً إذا ما كان رؤساء الأخصائي السابق المباشرون من الضباط، أو قادة البنتاغون كانوا على دراية بتوجهاته العنصرية، وميله الواضح لارتكاب العنف بحق الأقليات، خصوصاً أن ريان أنهى فترة التدريب الأساسية وانتقل بالفعل إلى قاعدة فورت براغ، منذ ديسمبر/كانون الأول 2021، أي أنه قضى فترة طويلة في الخدمة العسكرية الفعلية، وإن كان لم يتم بعد مشاركته في أي مهام قتالية خارج الولايات المتحدة.
الخلاصة هنا هي أنه على الرغم من وجود وزير دفاع أمريكي غير أبيض، واتخاذ إجراءات هدفها محاربة العنصرية في صفوف الجيش، وحرمان أصحاب الأفكار المتطرفة من الالتحاق بالجيش من الأساس، فإن كل ذلك يبدو أنه ليس كافياً لمعالجة العنصرية، التي كانت ركناً أساسياً من أركان العسكرية الأمريكية منذ تأسيسها.