لم يكن أكثر المحللين العسكريين خبرة يتوقع أن تطول حرب أوكرانيا كل هذا الوقت، وأن يصمد هذا البلد المنقسم الهش لأكثر من ستة أشهر أمام روسيا، الدولة العظمى صاحبة الجيش الجرار والتي لديها أضخم أسطول من الدبابات في العالم، ولكن التاريخ يعلمنا أن الحروب عادة تخرج عن سيطرة أعتى القادة وأكثرهم حنكة في التخطيط.
إذ تنتشر الأدلة التي تثبت هذه الظاهرة في مختلف عصور التاريخ. حيث كتب جيوفري بلايني في كتابه "أسباب الحرب The Causes of War" أن العديد من الصراعات السابقة تغذت على "أحلام وأوهام الحرب المقبلة"، بما في ذلك القناعة بأنها ستكون سريعة ورخيصة وستحقق النجاح الحاسم، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
أشهر الحروب التي طالت أكثر من توقعات من أشعلوها
عندما خرجت جيوش الدول الأوروبية للحرب في أغسطس/آب عام 1914، كانت تقول إن الجنود سيعودون بحلول عيد الميلاد. لكنهم لم يعلموا أن عيد الميلاد المنتظر أن يشهد عودة الجنود لن يأتي حتى عام 1918.
وسقط الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين في فخ الأوهام نفسها عام 1980، عندما ظنّ أن الثورة الإسلامية عام 1979 في إيران قد أضعفت البلاد، وجعلتها أكثر عرضةً للسقوط في وجه الهجوم العراقي. لكن حربه دامت لثماني سنوات قبل أن ينهيها، وتمخّضت عن آلاف الوفيات والأضرار الاقتصادية المهولة.
وحتى العمليات العسكرية شديدة النجاح لم تؤد في الأغلب إلى انتصارات سريعة، بل تقود إلى ورطات لا تنتهي. إذ دام عدوان إسرائيل عام 1967 على الدول العربية لأقل من أسبوعٍ واحد، لكنه لم يحل أي مشكلة سياسية عالقة بين الاحتلال الإسرائيلي والدول المجاورة، كما أنه هيّأ الطريق لحرب الاستنزاف المكلفة لإسرائيل (1969-1970) وحرب أكتوبر/تشرين الأول عام 1973 التي أعادت جزءاً من الأراضي المصرية والسورية.
فارق هائل في القوة العسكرية بين روسيا وأوكرانيا
ويمثل الزعيم الروسي فلاديمير بوتين آخر الزعماء العالميين الذين أشعلوا حرباً وهم يظنون أنها ستكون سريعة وسهلة، حسب المجلة الأمريكية.
ولكن حتى الاستخبارات الأمريكية لم تتوقع صمود أوكرانيا على الإطلاق أمام الجيش الروسي، وفي الأيام التي سبقت الحرب، أبلغ مجتمع الاستخبارات صانعي السياسة الأمريكيين أنه من المحتمل أن تسقط كييف في غضون 3 إلى 4 أيام من الغزو الروسي.
ويبدو أن بوتين كان مقتنعاً بأن تحقيق أهدافه الأولى من الحرب لن يستغرق فترة طويلة أو يكلف بلاده هذه الأموال ويكبدها كل هذه الخسائر، وهي القوة العسكرية التي تعد الثالثة في قائمة الدول الأكثر إنفاقاً على التسليح، بميزانية سنوية بلغت نحو 64 مليار دولار، حسب تقرير "معهد ستوكهولم لأبحاث السلام" (SIPRI).
وفي عام 2021، بلغ عدد أفراد الجيش الروسي نحو 900 ألف عسكري، بينما لدى أوكرانيا نحو 204 آلاف جندي، أكثر من نصفهم متعاقدون، مع 46 ألف موظف عسكري إداري، بالإضافة إلى قوات داعمة أخرى، كحرس الحدود (نحو 53 ألفاً)، والحرس الوطني (60 ألفاً).
ويمتلك سلاح الجو الروسي نحو 4500 طائرة، وفق معطيات العام 2019، بينها 789 مقاتلة، و742 طائرة هجومية، و1540 مروحية، من بينها 538 مروحية هجومية.
مقابل 285 طائرة لدى أوكرانيا، منها 42 مقاتلة، و111 طائرة مروحية متعددة الأغراض، و34 طائرة مروحية هجومية.
أما القوات البرية الروسية فتضم 13 ألف دبابة ونحو 27 ألف مدرعة، و6540 مدفعاً ذاتي الحركة، و4465 مدفعاً ميدانياً، و3860 راجمة صواريخ، ويبلغ تعداد أفرادها 350 ألفاً.
ويبلغ تعداد قوات أوكرانيا البرية نحو 145 ألف جندي، وتمتلك 11.435 مركبة مدرعة، و2430 دبابة، و2815 مدفعاً، و550 راجمة صواريخ.
لماذا أخطأ بوتين في توقعاته بشأن أوكرانيا؟ إليك أسباب خروج الحروب عن السيطرة
أخطأ بوتين في تقديراته لمسار حرب أوكرانيا، لأنه بالغ في تقدير نقاط قوة روسيا، أو لأنه استخف بالعزيمة الأوكرانية، أو لأنه أساء تقدير ردود الأفعال المتوقعة من الأطراف الثالثة، أو بسبب مزيج من هذه الأمور معاً، حسب مجلة Foreign Policy.
لكنه بدأ اليوم يتعلم الدرس القاسي نفسه الذي اكتشفه العديد من قادة العالم قبله، وهو أن إشعال الحروب أسهل من إنهائها.
ولكن لماذا لا تلبي الكثير من الحروب القصيرة الحاسمة توقعات من أشعلوها، ويصعب عليهم إنهاءها؟ لأنه ليس من السهل الاعتراف بأن الحرب غير مضمونة أبداً، وأن تقديرات ما قبل الحرب دائماً ما تكون منقوصة، وأن القتال يؤدي عادةً إلى تداعيات غير مقصودة تجعل حسابات ما قبل الحرب غير متصلة بأرض الواقع.
لهذا يجب أن يعي القادة الذين يفكرون في الحرب طبيعة الاتجاهات القوية التي تجعل الحروب تكبر، وتزداد تكلفتها، وتدوم لوقتٍ أطول من المتوقع.
1- الاستخفاف بقدرة الخصم وإرادته وأن الوطنية سلاح خفي
من شبه المستحيل أن تعرف مبكراً مدى الشراسة التي سيقاوم بها الخصم، وعادةً ما يستخف القادة الذين يفكرون في الحرب بهذه النقطة.
لكن الإخفاق في تقدير قوة الوطنية يعد أحد أسباب هذه الاتجاهات الحاسمة، وترتبط بها ميول المرء لرؤية وطنه متفوقاً على جميع خصومه المحتملين، مما يشجع المعتدين دائماً على التقليل من قدرات الخصم على المقاومة. ولن يدخل أحدٌ الحرب إذا كان يرى خصمه أقوى، أو أكثر اتحاداً، أو أكثر حرصاً على النتيجة النهائية. لكن المثير للاهتمام هو العدد الكبير للدول التي تقع في هذا الخطأ أثناء إشعال الحروب.
2- محاولة تحقيق مكاسب تعوض التكاليف غير المتوقعة
تظهر المشكلة المألوفة التي تتمثل في التكاليف الغارقة أو غير المتوقعة بمجرد اندلاع الحرب. حيث سيرغب القادة في تحقيق ما يكفي من المكاسب لتبرير التضحيات المقدمة بالفعل. ولن ترغب العائلات التي فقدت أحبابها في أن يُقال لها إن تضحياتهم ذهبت هباءً.
وربما حذّر قادة الجيش الزعماء السياسيين من مخاطر الحرب أو عارضوا القرار الأوّلي قبل اتخاذه، لكنهم لن يرغبوا في تحمل مسؤولية الهزيمة وسيحاولون انتهاز كل فرصة لتحقيق الانتصارات.
وربما يكون السماح للتكاليف الغارقة بتحديد السياسة الحالية تصرفاً غير منطقي، لكن هذا هو واقع الأمور الذي يحدث على الأرض.
كما أن الرغبة في تعويض التكاليف الغارقة تشجع على قيام كل طرف في الحرب بتوسيع أهدافه، بينما يحاول تحقيق المكاسب التي توازي حجم خسائره المتزايدة.
3- شيطنة الخصم وتزايد الكراهية وقود للحروب
وثالثاً، تستمر الحروب لأن فكرة القتال نفسها تزيد سوء الصورة المثيرة للكراهية لدى كل طرفٍ تجاه الآخر.
وبغض النظر عن مدى تشكك أو عدوانية الأطراف المتحاربة في بداية الصراع، فسنجد أن مشاعر الكراهية والشك تزيد مع سقوط كل ضحية وتدمير كل بناية ومرور كل دقيقة معاناة.
وبالتالي فإنّ الرغبة في الانتقام وسط هذه الظروف تعد أمراً طبيعياً، مما يغذي بالتبعية الرغبة في تحقيق الانتصار الحاسم على العدو الذي تزداد الكراهية والاحتقار له بصورةٍ متزايدة.
4- تفاقم الكراهية يصعب التفاوض
تتراجع إمكانية التفاوض مع ازدياد صورة العدو سوءاً. إذ ربما تُقطع العلاقات الدبلوماسية وتُصبح الاتصالات المباشرة أكثر صعوبة، وبالتالي سيُدان أي شخص يتجرأ على طرح احتمالية التصالح باعتباره خائناً (أو أسوأ).
وحتى لو بدأت المفاوضات، فلن يثق أي من الطرفين في الآخر بالدرجة الكافية لتوقيع اتفاق معه. وعادةً ما تُعاني تسويات السلام من مشكلات الالتزام الخطيرة، فكيف يضمن المرء ألا يُعيد خصمه التسلُّح ليطارده مرةً أخرى؟
5- دائرة الانتقام تتوسع حتى إنها تصل لقصف المحطات النووية
تميل الحروب إلى التصعيد والتوسّع بكل قوتها. ويفكر الطرف الذي يخسر على الأرض عادةً في استخدام قوةٍ أكبر، أو الانتقام بقصف أهداف جديدة وأكثر خطورة، أو رفع الرهانات بمختلف الطرق.
ويتجلى هذا في الانفجارات الأخيرة بالقرم، والوضع الخطير لمحطة الطاقة النووية الأوكرانية في زاباروغيا، وتفجير سيارة محلل مؤيد لبوتين في موسكو. إذ تُظهر هذه الأمثلة طريقة سير مثل هذه الأمور تحديداً، بغض النظر عن هوية المسؤول النهائي عن مثل هذه الأفعال.
6- دور الأطراف الخارجية كما ظهر في سوريا وأوكرانيا
كما تكبر الحروب عندما تهب الأطراف الخارجية لدعم أحد جانبي الحرب، كما فعل حلف الناتو من أجل أوكرانيا منذ بداية الهجوم، أو بغرض تحقيق المكاسب لنفسها في ظل تشتُّت انتباه الجميع.
في هذا الصدد قال وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، في إبريل/ نيسان الماضي عن هدف بلاده من دعم أوكرانيا: "نريد إنهاك روسيا إلى درجة لا تتمكن فيها من الإقدام على خطوات مثل غزو أوكرانيا"، ولم تُصدر موسكو أي حصيلة منذ 25 مارس/آذار 2022 عندما أكدت أنها خسرت 1351 من جنودها.
وتمثل الحرب الأهلية السورية خير مثالٍ على ذلك. حيث بدأت بانتفاضة شعبية داخل سوريا قبل أن تشهد في النهاية تدخلات عسكرية مباشرة وغير مباشرة من جانب روسيا، وتركيا، وإيران، والسعودية، والولايات المتحدة، وإسرائيل، وغيرها من الدول.
وللأسف، سنجد أن زيادة أعداد الدول المشاركة في الحرب يزيد مصالحها في نتائج الصراع النهائية، مما يزيد بالتبعية صعوبة إقناعها جميعاً بالتوافق على إنهاء الحرب.
7- إخفاء القادة لحقيقة الحرب المريرة على شعوبهم
أحد العوامل التي تُطيل أمد الحرب تدهور جودة المعلومات. إذ تنص المقولة المنسوبة للسيناتور الأمريكي السابق حيرام جونسون على أن "أول ضحايا الحرب هي الحقيقة". وربما يجب أن تُفكر الدول المنخرطة في الحروب وتتصرف بشكلٍ هادئ وواضح قدر الإمكان، لكن ظروف الحرب تجعل الأمر صعباً.
إذ تُصبح لدى الحكومات دوافعها الجوهرية للحفاظ على الروح المعنوية العامة بنقل الأنباء السارة، وإخفاء الإخفاقات، والتذكير المستمر للشعب بالطبيعة الشيطانية للعدو. فتفرض تلك الحكومات الرقابة، وتقمع أو تُهمِّش المعارضة، وتزيد صعوبة رسم صورةٍ دقيقة لما يحدث في أرض المعركة حتى بالنسبة للمطلعين من الداخل.
وقد تظن أن الأنظمة الديكتاتورية لديها العديد من الأساليب للتحكم في ما يعرفه عامة الجمهور، لكنها مشكلةٌ مألوفة لدى الأنظمة الديمقراطية أيضاً، حيث تخضع المؤسسات الإعلامية عادةً للحماس الوطني أو التلاعب الحكومي المقصود.
ولن تكون هناك الكثير من الضغوط لإنهاء الحرب طالما استمرت قناعة النخب والعامة في الجانبين المتحاربين بأن الحرب تسير على ما يُرام لصالحهم. ومن المستحيل أن يكون كلاهما على حقٍ بالطبع، لكن فهم الوضع الحقيقي على نطاقٍ واسع سيستغرق فترةً طويلة. حيث قال رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ديفيد لويد عام 1917: "لو علم الناس ما يحدث على الجبهة في الواقع، لانتهت الحرب غداً. لكنهم لا يعرفون، ولا يجب أن يعرفوا".
8- الزعماء الذين أشعلوا الحرب يصعب عليهم إنهاءها
أما المشكلة الأخيرة فتكمن في أن الأشخاص الذين أشعلوا الحرب لن يرغبوا في إنهائها قبل تحقيق ما يمكن تسميته نصراً، لأن الرضا بما هو أقل من ذلك سيكون اعترافاً منهم بالفشل الذريع. حيث أشار الراحل فريد سي إيكل في كتابه الرائع "يجب أن تنتهي كل الحروب Every War Must End" إلى أن إنهاء الحرب يتطلب تولي السلطة زعماء جدداً عادةً، لأن من يختارون دخول الحروب سيكونون عازفين أو عاجزين عن الاعتراف بخطئهم. ولا شك أنها أنباء مُحزنة لأن الإطاحة بالمسؤولين ستكون صعبةً دائماً، ومستحيلةً أحياناً، وقد لا تحدث قبل خسارة الكثير من الأرواح.
وتنتهي كل الحروب في النهاية بالطبع، لكن أطرافها لن يجدوا العزاء طالما أن تكلفتها كانت أكبر من مكاسبها. والدرس واضحٌ هنا: قد تكون الحروب ضروريةً أحياناً، لكن لا يجب دخولها إلا بعد تفكيرٍ طويل وفي حالات الضرورة القصوى فقط. ولا يجب أن ينسى المكلفون باتخاذ مثل هذه القرارات أن دخول الحرب يُطلق يد القوى السياسية والاجتماعية النافذة التي يصعب التنبؤ بها أو السيطرة عليها. وبمجرد إطلاق العنان لكلاب الحرب، لن يعرف أحدٌ هوية من سيسقط ضحيتها في النهاية. ولهذا فمن المنطقي أن تعلم أن أي حرب ستستغرق وقتاً أطول وتكبدك تكلفةً أكبر مما تصورت.