يستعد معارضو الاتفاق النووي ومؤيدوه لصدام أخير، في ظل الأنباء عن اقتراب إدارة بايدن وإيران من "التوقيع" على إعادة إحيائه، لكن الصدام ليس في فيينا، بل في واشنطن هذه المرة، فمن موقفه يبدو أقوى؟
على مدى أكثر من 16 شهراً سعت إدارة بايدن إلى إعادة إحياء الاتفاق النووي، الذي كان الرئيس السابق دونالد ترامب قد انسحب منه عام 2018. وأجريت جولات متعددة من المفاوضات في فيينا، بحضور جميع أطراف الاتفاق الموقع عام 2015، وهي إيران والولايات المتحدة والصين وروسيا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، دون أن يكون هناك تفاوض مباشر بين الإيرانيين والأمريكيين.
لكن المفاوضات لم تؤدِّ إلى نتيجة، في ظل تمسك طهران بأن تقدم واشنطن ضمانات بأن ما فعله ترامب (الانسحاب من الاتفاق) لن يتكرر، ورفض الإدارة الأمريكية تقديم تلك الضمانات، أو عدم قدرتها على ذلك، فحتى يأخذ الاتفاق النووي شكل المعاهدة الدولية لا بد أن يصدق عليه الكونغرس، وهو أمر مستحيل بسبب الانقسام الحزبي في الولايات المتحدة، وعدم امتلاك حزب بايدن الديمقراطي أغلبية كافية للتصديق منفرداً على الاتفاق، بعيداً عن دعم الجمهوريين.
هل اقتربت العودة للاتفاق النووي؟
صحيح أن هناك تفاصيل كثيرة ومتشعبة، منها ما يتعلق بطلبات إيران الأخرى كرفع الحرس الثوري من قائمة الإرهاب الأمريكية، وهو ما ترفضه إدارة بايدن، لكن الأسابيع الأخيرة، على أية حال، شهدت تقديم الاتحاد الأوروبي لمشروع اتفاق يقوم بالأساس على الرجوع مباشرة إلى الاتفاق الأصلي الذي انسحب منه ترامب، وأبدت طهران انفتاحاً على المقترح الأوروبي وتدرسه إدارة بايدن.
كانت العاصمة النمساوية فيينا قد شهدت، الثلاثاء 6 أبريل/نيسان 2021، اجتماع الأطراف التي كانت قد وقَّعت على اتفاقية العمل الشاملة المشتركة (الاسم التقني للاتفاق النووي الإيراني) عام 2015، في مفاوضات يفترض أنها تمهيد لعودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق، بعد أن كانت إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب انسحبت منه عام 2018.
فانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق لم يؤدِّ إلى انتهائه، إذ ظلت باقي أطرافه متمسكة به وتسعى للحفاظ على استمراره، وتلك الأطراف هي ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين، بينما بدأت إيران في التخلي عن التزاماتها ببنود الاتفاق تدريجياً، منذ مايو/أيار 2019، في مواجهة العقوبات الأمريكية التي فرضتها إدارة ترامب.
وبحسب تقرير نشرته مجلة Politico الأمريكية، عنوانه "أعداء وأصدقاء الصفقة الإيرانية يستعدون لصدام آخر في واشنطن"، رصد كيف أن اقتراب واشنطن وطهران من إحياء الاتفاق النووي دفع مؤيديه ومعارضيه إلى شحذ جميع أسلحتهم، استعداداً لصدام جديد على غرار الصدام الذي شهدته الفترة التي سبقت الاتفاق الأصلي عام 2015.
فمنذ سبع سنوات، كان أعضاء جماعات الضغط والنشطاء والمسؤولون الأجانب والمشرعون يستغلون كل شيء من تسريبات إعلامية منتقاة، وشراء إعلانات وحملات خطابات لتوضيح وجهات نظرهم والترويج لها. وهذا الجدل سيزداد حدة في الأيام المقبلة على الأرجح، خاصة إذا تمكن المفاوضون في فيينا من الاتفاق على شروط بعد شهور من المحادثات.
ومن جانبه، أعرب البيت الأبيض عن استعداده لهذا الصدام، فيوم الخميس 18 أغسطس/آب مثلاً، غرد جيمس ريش، النائب عن ولاية أيداهو، والرئيس الجمهوري للجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، وأحد منتقدي الصفقة، بأن إيران تضغط على الرئيس جو بايدن لقبول شروط قد تمكنها من "تسريع إنتاجها لأسلحة نووية". وأقدم مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض على خطوة غير اعتيادية حين غرد موبخاً: "لا صحة لهذا، لن نقبل أبداً بشروط كهذه".
هل يختلف الصدام بشأن الاتفاق النووي هذه المرة؟
هناك عوامل ومتغيرات كثيرة تجعل الجدل هذه المرة بشأن الاتفاق النووي الإيراني مختلفاً عما كان عليه عام 2015، حين سخر اليمين الأمريكي من إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما، ووجه لها اتهامات بأنها تتعمد تضخيم قناعاتها بأن الاتفاق عصا سحرية، وستكون له نتائج إيجابية كبيرة، سواء على العلاقة بين واشنطن وطهران، أو على الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط.
لكن مفاوضات إحياء الاتفاق النووي قد تنهار أو تتأجل. فإيران تضغط لإدخال تغييرات على خارطة الطريق المقترحة لإحياء الاتفاق، والولايات المتحدة تدرس الخيارات. ومع ذلك، بعد أكثر من عام من المحادثات، يسود تفاؤل ملحوظ بين الأطراف المختلفة بإمكانية إحياء الاتفاق قريباً.
وأدت تلك التطورات الأخيرة، بطبيعة الحال، إلى احتدام جبهات المعركة من جديد، في لجان المؤسسات الفكرية والمقابلات التلفزيونية والمحادثات السرية في المنشآت الحكومية المؤمنة، أي باتت أرض المعركة هي واشنطن نفسها.
فإسرائيل، الحكومة الأجنبية الأشد اعتراضاً على هذا الاتفاق النووي، سترسل مستشارها للأمن القومي إلى واشنطن لتعرب عن مخاوفها المعروفة للبيت الأبيض مباشرة. وفي الوقت نفسه، يلجأ المسؤولون الإسرائيليون إلى وسائل الإعلام ليعربوا عن تحفظهم وينتقدوا بايدن ومعاونيه.
بل وتساءل مسؤولون إسرائيليون في تصريحات أدلوا بها مؤخراً لموقع Axios الأمريكي عما إن كان الرئيس جو بايدن وفريقه "على وعي تام"، بما يعتبره الإسرائيليون "تنازلات" في خارطة الطريق المقترحة لإحياء اتفاقية 2015.
وهذه النوعية من التلميحات هي ما يثير غضب من هم داخل الإدارة والمقربين منها، الذين ينفون وجود أي تنازلات جديدة ويقولون إن الرئيس يعرف ما يفعله.
لكن المسؤولين الإسرائيليين لديهم حليف قوي في واشنطن: لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية أيباك. ووفقاً لتقارير، أنفقت أيباك عشرات الملايين من الدولارات عام 2015 لوأد الاتفاق الأصلي. ولدى سؤال أحد متحدثيها الرسميين عما تخطط له إيباك هذا العام، لم يرد بشكل مباشر على السؤال، لكنه قال لمجلة بوليتيكو إن "مخاوف" اللجنة من جهود الإحياء "قوية".
ويمكن القول إن الخلاف بين واشنطن وتل أبيب بشأن الاتفاق النووي مع إيران قد خفت حدته كثيراً في الأشهر الأخيرة، عكس ما كانت عليه الأمور منذ وصول بايدن إلى البيت الأبيض، في ظل سعي الإدارة الديمقراطية إلى طمأنة إسرائيل وباقي القوى الإقليمية الرافضة للاتفاق النووي الأصلي الموقع عام 2015.
وفي هذا السياق، قال مسؤول كبير في الإدارة الأمريكية لشبكة CNN، السبت 20 أغسطس/آب، إن إيران لم تطالب في ردها الذي أرسلته، الإثنين الماضي، بإزالة الحرس الثوري من قائمة وزارة الخارجية الأمريكية للمنظمات الإرهابية.
وذكر المسؤول، الذي لم تذكر الشبكة الأمريكية هويته، للقناة، أن الإيرانيين أسقطوا أيضاً مطالب تتعلق بشطب العديد من الشركات المرتبطة بالحرس الثوري من القائمة نفسها. وأضاف أن الرئيس الأمريكي جو بايدن كان "حازماً وثابتاً" في عدم إزالته للتصنيف الإرهابي عن الحرس الثوري.
وعلى الجهة الأخرى، قال مستشار الوفد الإيراني لمفاوضات فيينا محمد مرندي، تعليقاً على تصريحات المسؤول الأمريكي، إن شطب الحرس الثوري من قائمة الإرهاب الأمريكية "لم يكن مطلقاً شرطاً مسبقاً" للاتفاق النووي.
وقال مرندي في تغريدة: "قلت أكثر من مرة خلال الأشهر القليلة الماضية إن شطب الحرس الثوري من قائمة الإرهاب الأمريكية لم يكن مطلقاً شرطاً مسبقاً أو أساسياًً" للاتفاق النووي.
وأضاف: "إذا أرادت الولايات المتحدة التسويق للاتفاق عبر طرح هذه الادعاءات، فهذا الأمر متروك لها". وتابع: "بكل بساطة، ستبقي إيران اسم القيادة المركزية الأمريكية في الشرق الأوسط على قائمة الإرهاب الخاصة بها"، بحسب تقرير لوكالة الأناضول.
كيف يستعد المعسكر الرافض لإفساد عودة بايدن للاتفاق النووي؟
في الوقت نفسه، تخطط J Street، المنظمة اليسارية المؤيدة لإسرائيل، لحشد الدعم لإحياء الاتفاقية. ونوه ممثلوها بأنهم يريدون مراجعة خارطة طريق هذا الإحياء أولاً، ولو كانت ما ينتظرونه، فـ"لدينا حملة كاملة جاهزة للانطلاق"، على حد تعبير ديلان ويليامز، نائب رئيس المنظمة.
وقال لمجلة بوليتيكو إن تلك الحملة ستشمل كل شيء من المكالمات الهاتفية إلى الإعلانات على وسائل التواصل الاجتماعي. وتستهدف هذه الحملة إلى حد كبير الديمقراطيين المعتدلين، الذين لم يؤيد بعضهم الاتفاق عام 2015، والمشرعين الجدد الذين لم يتبنوا مواقف واضحة بعد.
يقول مايكل سينغ، المحلل في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى للمجلة الأمريكية، إن الجدل هذه المرة يغلفه إحساس أكبر بالواقعية مقارنة بعام 2015، حين كان بعض مؤيدي الصفقة يتأملون أن تؤدي إلى تحولات كبرى في السياسة الخارجية.
سينغ قال للمجلة الأمريكية: "ما نستشعره من الإدارة هذه المرة مزيد من الواقعية والتسليم. أتصور أنهم أقل حماساً هذه المرة. فلن تسمع من يقول إن إحياء الاتفاق سيغير العلاقات الأمريكية الإيرانية، لكنك ستسمع كثيراً وبصوت عالٍ من يقول إن هذا خيارنا الوحيد".
وعام 2015، لم يتراجع أوباما ومساعدوه عن موقفهم، ووقفوا في وجه الإعلام الإلكتروني والتقليدي لحماية ما اعتبروه جزءاً مهماً من إرث سياستهم الخارجية. وخاض أوباما ما يزيد عن 100 مواجهة مع المشرعين في سبيل ذلك. وفي النهاية، حصل فريق أوباما على الدعم الكافي بين الديمقراطيين في مجلس الشيوخ ولم ينجح الجمهوريون في محاولتهم تعطيل الصفقة.
وواحد من أسباب امتداد الجدل للكونغرس هذه المرة أن الكونغرس أقر قانوناً عام 2015 منحه سلطة مراجعة أي اتفاقيات من هذا القبيل مع إيران. ويقول المشرعون إن هذا القانون، قانون مراجعة الاتفاقية النووية الإيرانية أو INARA، يمنح الكونغرس الحق في مراجعة "اتفاق إحياء الصفقة".
ورفض المسؤولون في إدارة بايدن هذا التأويل للقانون في البداية، لكنهم وافقوا في النهاية على عرض أي اتفاق يتوصلون إليه في فيينا على الكونغرس.
يقول جو دوريتي، المتحدث باسم مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات FDD، إن المؤسسة تخطط لتكثيف استعانتها باللجان ومقالات الرأي والوسائل التقليدية الأخرى لتوضيح وجهة نظرها الرافضة لإحياء اتفاق 2015 النووي، مضيفاً أن ما يجري إحياؤه في الواقع ليس الاتفاق الأصلي وإنما "اتفاق أضعف".