مر عامان على تفجير مرفأ بيروت دون معاقبة الجاني، ويبدو أن الفاعل دائماً مجهول في لبنان مهما كان حجم الجريمة أو المأساة، سواء اغتيال رفيق الحريري أو حتى انهيار اقتصاد الدولة.
ويوافق الخميس، 4 أغسطس/آب 2022، الذكرى الثانية لانفجار مرفأ بيروت الذي أودى بحياة ما لا يقل عن 215 شخصاً وأصاب الآلاف، وألحق أضراراً ضخمة بأجزاء كبيرة من العاصمة اللبنانية.
ورغم الدمار الذي خلّفه الانفجار -وهو أحد أكبر الانفجارات غير النووية المسجلة على الإطلاق- لم تُسفر التحقيقات القضائية عن محاسبة أي مسؤول كبير، ولا يبدو أنها قد تسفر عن ذلك في المستقبل، في ظل تاريخ ممتد من الهروب من المسؤولية في لبنان مهما كان حجم الجريمة أو الكارثة.
كارثة تفجير مرفأ بيروت
كان الانفجار قد وقع بعد الساعة السادسة، من مساء الرابع من أغسطس/آب 2020، نتيجة تفجّر مئات الأطنان من نترات الأمونيوم بعد اشتعالها بسبب حريق في المستودع الذي كانت مُخزنة فيه. وكانت المواد الكيمياوية متجهة في الأصل إلى موزمبيق على متن سفينة مستأجرة من روسيا، وبقيت في المرفأ منذ عام 2013 عندما تم تفريغ حمولتها خلال توقف غير مخطط له لتحميل شحنة إضافية.
ولم تغادر السفينة المرفأ مطلقاً، وعلِقت في نزاع قانوني حول رسوم للميناء لم يتم دفعها، بالإضافة إلى وجود عيوب فيها. ولم يتقدم أحد للمطالبة بالشحنة. وخلص مكتب التحقيقات الاتحادي الأمريكي (إف.بي.آي) إلى أن كمية نترات الأمونيوم التي انفجرت كانت خُمس إجمالي الكمية البالغة 2754 طناً، التي تم تفريغها في 2013، ما زاد من الشكوك في اختفاء جزء كبير من الشحنة.
كان الانفجار قوياً لدرجة أنه أمكن الشعور به على بعد 250 كيلومتراً في قبرص، وأطلق سحابة أشبه بسحب الانفجارات النووية.
كان مسؤولون لبنانيون كبار، من بينهم الرئيس ميشال عون ورئيس الوزراء آنذاك حسان دياب، على علم بأمر الشحنة القاتلة، إذ قال عون بعد قليل من الانفجار إنه طلب من السلطات الأمنية "القيام بما هو ضروري" بعد أن علم بوجود المواد الكيماوية. وقال دياب إنه "مرتاح الضمير".
وذكرت منظمة هيومن رايتس ووتش في تقرير العام الماضي أن كبار مسؤولي الأمن والحكومة "كانوا يدركون الخطر الكبير على الحياة… وتقبلوا ضمنياً خطر حدوث وفيات".
وبعد الانفجار، قام وزير العدل بتعيين القاضي فادي صوان كبيراً للمحققين بعد فترة وجيزة من الانفجار. وفي ديسمبر/كانون الأول 2021، اتهم صوان ثلاثة وزراء سابقين ودياب بالإهمال، لكنه واجه بعد ذلك مقاومة سياسية قوية. وأبعدته المحكمة عن القضية، في فبراير/شباط 2021، بعد أن اشتكى وزيران سابقان، هما علي حسن خليل وغازي زعيتر، من أنه تجاوز صلاحياته.
وخلفه القاضي طارق البيطار، وسعى إلى استجواب شخصيات بارزة من بينها زعيتر وخليل، وكلاهما عضو في حركة أمل التي يتزعمها رئيس البرلمان نبيه بري، وحليف لحزب الله المدعوم من إيران. كما سعى لاستجواب اللواء عباس إبراهيم المدير العام جهاز الأمن العام. ونفى الجميع ارتكاب أي مخالفات.
واجه البيطار مقاومة من جميع المسؤولين الحاليين والسابقين الذين سعى إلى استجوابهم، بحجة أنهم يتمتعون بالحصانة أو أنه يفتقر إلى سلطة مقاضاتهم. وامتد الصراع في ساحات المحاكم وفي الحياة السياسية والشوارع.
وأغرق المشتبه بهم المحاكم، العام الماضي، بأكثر من 20 قضية تسعى لإبعاد البيطار بدعوى تحيزه وارتكابه "أخطاء جسيمة"، ما أدى إلى توقف التحقيق عدة مرات. وقال الوزراء السابقون إن أي قضايا ضدهم يجب أن تنظرها محكمة خاصة بالرؤساء والوزراء. ولم تحاسب تلك المحكمة أي مسؤول قط، وستنقل قيادة التحقيق إلى الأحزاب الحاكمة في البرلمان.
والتحقيق في غياهب الجب منذ أوائل 2022، بسبب تقاعد قضاة محكمة يتعين أن تفصل في العديد من الشكاوى بحق البيطار قبل أن يتمكن من الاستمرار في تأدية عمله، بحسب تقرير لرويترز. وأوقف وزير المالية، المدعوم من بري، التوقيع على مرسوم بتعيين قضاة جدد، مشيراً إلى مخاوف بشأن التوازن الطائفي.
اغتيال رفيق الحريري
لكن مسار الأحداث فيما يتعلق بكارثة بحجم تفجير مرفأ بيروت وانتهاء الأمور بتقييد الحادث "ضد مجهول" ليس غريباً على الساحة اللبنانية، فيوم 14 فبراير/شباط 2005، أي قبل نحو 15عاماً من كارثة المرفأ، شهد وسط العاصمة تفجيراً ضخماً ودموياً آخر.
ذلك التفجير الآخر استهدف موكب رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، وتم استخدام 1800 كلغم من مادة الـ"تي إن تي" شديدة الانفجار، ونتج عنه مقتل 20 شخصاً، بخلاف الحريري نفسه، وإصابة مئات آخرين وإيقاع أضرار مادية جسيمة بمنطقة وسط بيروت.
ونظراً للطبيعة السياسية لتفجير موكب الحريري، تم تشكيل محاكمة دولية خاصة للتحقيق فيها، ظلت تعمل طوال أكثر من 15 عاماً، وكان يفترض أن تصدر حكمها النهائي يوم 7 أغسطس/آب 2020، أي بعد 3 أيام فقط من تفجير مرفأ بيروت، فأجلت النطق بالحكم إلى يوم 18 أغسطس/آب 2020، وهو ما حدث بالفعل.
كان حزب الله المتهم الرئيسي في قضية اغتيال رفيق الحريري، حيث إن المتهمين الخمسة، بحسب المحكمة الدولية، ينتمون إلى الحزب الشيعي المرتبط بإيران، وباستثناء مصطفى بدر الدين، القيادي العسكري السابق في حزب الله، والذي قُتل في سوريا عام 2016، تقتصر المعلومات عن المتهمين الأربعة الآخرين على ما قدمته المحكمة الدولية، ولا يُعرف شيء عن مكان وجودهم.
ورغم إدانة المحكمة للمتهمين الأربعة، سليم عياش وحسن مرعي وحسين عنيسي وأسد صبرا، باتهامات عدة، أبرزها "المشاركة في مؤامرة لارتكاب عمل إرهابي، والقتل عمداً، ومحاولة القتل عمداً"، إلا أنه حتى بصدور الأحكام في تلك القضية من جانب المحكمة الدولية يمكن القول إن "الفاعل مجهول".
ويبدو أن حزب الله قد استوعب درس المحاكمات الدولية، فوقف بشكل صارم ضد تشكيل محكمة دولية للتحقيق في تفجير مرفأ بيروت. ورغم أن البيطار، قاضي التحقيق، لم يلاحق أياً من أعضاء جماعة حزب الله المسلحة، فإن الحزب شن حملة شرسة عليه العام الماضي بعد أن سعى لاستجواب حلفاء له. وبعث مسؤول كبير في حزب الله برسالة إلى البيطار يحذر فيها من أن الجماعة "ستقتلعه".
وتحولت مظاهرة مناهضة للبيطار دعا إليها حزب الله وحلفاؤه، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، إلى أعمال عنف دامية. واتهم حزب الله الولايات المتحدة، التي تصنف الجماعة على أنها منظمة إرهابية، بالتدخل في التحقيق، وهو ما نفاه السفير الأمريكي. ونفى حزب الله الاتهامات التي وجهت إليه وقت الانفجار بأنه كان يخزن أسلحة في المرفأ، وقال إنه لا علاقة له بالانفجار. ولطالما اتهم خصوم حزب الله الجماعة بالسيطرة على المرفأ، وهو ما تنفيه أيضاً.
اللبنانيون فقدوا الأمل في محاسبة الجاني
كان الحريق الذي استمر أسابيع وأدى إلى انهيار أجزاء من صوامع تخزين الحبوب الضخمة في مرفأ بيروت، قبل أيام من الذكرى الثانية لتفجير المرفأ نفسه، تذكيراً قاسياً للبنانيين بأن "الجاني المجهول" لم يكتفِ بعد من الكوارث في البلد المنكوب.
إذ انهارت صوامع الحبوب التي تضررت سابقاً بانفجار بيروت، ولحسن الحظ لم يقتل أحد هذه المرة، لكن الصوت الذي كان أشبه بالانفجار، والذي جاء مرافقاً لدخان كثيف وحرائق أعاد إحياء الصدمة الناجمة عن انفجار المرفأ نفسه.
"لا أشعر أن عامين قد انقضيا على الإطلاق"، قال وليام نون من بيروت لموقع دويتش فيلة بعد الانهيار الأخير لصوامع القمح، والذي فقد شقيقه جو نون في انفجار عام 2020. ويضيف "ما زلت أشعر بنفس الحسرة التي شعرت بها في اليوم الأول".
وجاء انهيار الصوامع التي يبلغ ارتفاعها 50 متراً بعد حريق استمر أسابيع بسبب الحبوب التي تخمرت واشتعلت في حرارة الصيف، ورفض وزير الأشغال العامة والنقل اللبناني على حمية، المسؤول عن المرفأ، الاتهامات بأن الحكومة فشلت في اتخاذ إجراء عندما اندلع الحريق قبل ثلاثة أسابيع.
وقال حمية للموقع الألماني: "قال لنا الخبراء إنه من المستحيل إخراج القمح بسبب الحالة الهشة لهياكل الصوامع"، مضيفاً أن الحكومة ستظل تحاول الحفاظ على الأجزاء الأكثر أماناً.
وأراد الناجون التمسك بالصوامع كنصب تذكاري لما حدث بالمرفأ، حيث أثارت الصوامع، التي كانت تحمي أجزاء من بيروت خلال انفجار عام 2020، جدلاً. وفي أبريل/نيسان، وافقت الحكومة اللبنانية على هدم الصوامع بعد أن وجد مسح أنها قد تنهار في الأشهر المقبلة.
وفي السياق ذاته، عندما فاض الكيل باللبنانيين وخرجوا إلى الشوارع محتجين ورافعين شعار "كلن.. يعني كلن"، في إشارة للطبقة السياسية التي تتحكم في مقدرات البلاد منذ عام 1990، وكان ذلك في أكتوبر/تشرين الأول 2019، كانت النتيجة أن الطبقة السياسية لا تزال على حالها، بينما وصلت البلاد إلى حافة الانهيار، ومن خرجوا يطالبون بحقوقهم هم من يدفعون الثمن.
إذ فقدت الليرة أكثر من 90% من قيمتها ووصل معدل التضخم إلى 90%، وأصبحت غالبية اللبنانيين تعاني من الفقر، وبحسب ما قالته آنا فلايشر، رئيسة مكتب مؤسسة هاينريش بول في بيروت، لدويتش فيلة: "نحن نشهد بالفعل طابوراً طويلاً خارج المخابز"، مضيفة أنه من الواضح أن لبنان ليس في خضم أزمة فقط، بل إنه يشهد "انهياراً كاملاً"، حيث هناك حاجة إلى إصلاحات بعيدة المدى وليس "تدابير تجميلية خفيفة".
الإصلاحات بعيدة المدى تعني تغييراً جذرياً في هيكلية النظام الطائفي الذي يتحكم في مقدرات البلاد، لكن أحداث السنوات الماضية ودروس التاريخ تؤكد أن ذلك أمر أقرب إلى المستحيل، ففي لبنان حتى وإن كان الجاني معلوماً للجميع فإنه يظل من الناحية الرسمية والقانونية "مجهولاً" ولا عزاء للضحايا.