"بروفة حرب"، هكذا يمكن وصف المناورات الصينية حول تايوان التي أحاطت الجزيرة من جهاتها الأربع، والتي تأتي رداً على زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي لتايبيه.
فقد بدأت الصين مناورات عسكرية، بحرية وجوية واسعة النطاق، حول جزيرة تايوان، التي تعتبرها الصين منشقة، بعد ساعات من مغادرة نانسي بيلوسي من تايبيه، عقب زيارة عاصفة أثارت غضب بكين، وهي الزيارة التي اختتمت مساء الأربعاء، واتجهت بعدها المسؤولة الأمريكية إلى كوريا الجنوبية ضمن جولة آسيوية تنتهي في اليابان في نهاية هذا الأسبوع.
والمناورات الصينية التي تنفذها القوات البحرية والجوية وإدارات أخرى تجري في ست مناطق محيطة بتايوان، التي تقول بكين إنها جزء من أراضيها.
وتقع بعض المناطق الست، التي أشارت بكين إليها كأماكن للمناورات، داخل ما تصفه وسائل الإعلام الغربية بالمياه الإقليمية لتايوان.
وقبيل زيارة بيلوسي حذر المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، تشاو ليجيان، من أن جيش التحرير الشعبي الصيني "لن يقف مكتوف الأيدي"، الأمر الذي أثار مخاوف أمريكية من احتمال حدوث عمل عسكري صيني محتمل، لا يعرف حدوده بعد.
أكبر مناورات في تاريخ الصين وتايوان تحذر شركات الطيران
وحذرت تايوان بالفعل شركات الشحن وشركات الطيران لتجنب مواقع المناورات الصينية.
وإضافة إلى المناورات العسكرية الصينية التي بدأت الثلاثاء، بعد وصول بيلوسي، أعلنت بكين، في وقت لاحق، مجموعة من الإجراءات الاقتصادية الانتقامية رداً على زيارة بيلوسي.
وذكرت وكالة الأنباء الصينية "شينخوا" أن التدريبات شاركت فيها قوات من البحرية والقوات الجوية والقوة الصاروخية وقوة الدعم الاستراتيجي وقوة الدعم اللوجستي.
في حين لم تعطِ الصين معلومات عن عدد القوات والأصول العسكرية المشاركة، ولكن يبدو أن التدريبات هي الأكبر بالقرب من تايوان من الناحية الجغرافية.
وعلى الأقل، فإن هذه تعتبر أكبر مناورات تجريها الصين ضد تايوان منذ عام 1996، والأهم أنها تُعد الأخطر والأشد مغزى من الناحية العسكرية والسياسية.
وتعيد المناورات الصينية الحالية للأذهان، أزمة مضيق تايوان الثالثة، التي تسمى أيضاً أزمة مضيق تايوان عام 1996، التي حدثت بسبب إطلاق الصين سلسلة من تجارب الصواريخ في المياه المحيطة بتايوان، بما في ذلك مضيق تايوان. من 21 يوليو/تموز 1995 إلى 23 مارس/أذار 1996، لإرسال إشارة قوية إلى حكومة تايوان، في عهد الرئيس لي تنغ هوي، الذي كان يُنظر إليه على أنه يتحرك بسياسة خارجية بعيدة عن سياسة الصين الواحدة، وأُطلقت المجموعة الثانية من الصواريخ في أوائل عام 1996، وقيل إنها بهدف توجيه رسالة للناخبين التايوانيين في الفترة التي سبقت الانتخابات الرئاسية عام 1996.
ولكن في عام 1996، كانت الصين في المرحلة الأولى لبناء قوتها البحرية كقوة حديثة، ولكن اليوم الصين قوة بحرية عظمى، لديها أكبر سلاح بحرية في العالم من حيث عدد السفن، وواحدة من أقوى البحريات، بحيث تتنافس مع روسيا على المركز الثاني (على الأقل في المركبات غير المسلحة نووياً، حيث تتفوق موسكو بشدة في الغواصات النووية بشكل كبيرة).
ورغم أن الولايات المتحدة ما زالت تحتل المركز الأول كصاحبة أقوى قوة بحرية في العالم، ولكن الفجوة بينها وبين بكين تراجعت كثيراً، حيث أصبح لدى بكين سفن حربية متطورة بما فيها غواصات نووية وسفن حربية محملة بصواريخ كروز أسرع من الصوت مضادة لحاملات طائرات، ويقال إن واشنطن لا تملك وسيلة لإسقاطها وحماية سفنها العملاقة منها، إضافة لامتلاك بكين حاملة طائرات، رغم أنها في بداية مراحلها التشغيلية وسفن وطائرات إبرار وسلاح جوي قوي يضم سلسلة من طائرات الجيل الرابع التي تضاهي نظيرتها الأمريكية مثل الطائرات جي 10 وجي 16 التي تقارن بـ"إف 15″ الأمريكية، وطائرات جي 10 التي تقابل "إف 16″، إضافة إلى الطائرة الشبحية الصينية من الجيل الخامس جي 20 التي تعد الطائرة الشبحية العاملة الوحيدة خارج الولايات المتحدة.
وعلى الصعيد السياسي، أصبحت الصين مختلفة عن التسعينيات، ففي ذلك الوقت كانت تتبنى مقاربة هادئة تركز على الانفتاح الغرب لتلقي استثماراته ونقل تكنولوجيته، وفتح أسواقه أما اليوم فالرئيس الصيني، شي جين بينغ، يتبنى سياسة قومية يصفها الغرب بالمتشددة، وهي تقوم على الرد على استفزاز غربي أو تايواني بالمثل مع سياسة بحرية هجومية تشمل إقامة جزر صناعية في بحر الصين الجنوبي؛ لتوسيع مياه الصين الإقليمية، وتأكيد ادعاءاتها بالسيادة على المناطق المتنازع عليها مع الدول المجاورة.
يتزامن ذلك مع تزايد التنافس الصيني الأمريكي وخروجه عن الإطار الدبلوماسي، وسعي الغرب لكسر الارتباط الاقتصادي مع الصين ومحاصرتها ومعاقبة بعض شركاتها أحياناً، مما يجعل بكين ليس لديها الكثير لتخسره، خاصة في ظل امتلاكها فوائض مالية كبيرة وعدم احتياجها للأموال الغربية، وسعيها لإيجاد بدائل للتكنولوجيا الغربية، والعمل على توسيع تجارتها مع الدول غير الغربية، وزيادة استهلاك سوقها المحلي ليكون بديلاً جزئياً عن أي عقوبات غربية محتملة، أو فرض قيود تجارية على المنتجات الصينية.
انعكس كل ما سبق إضافة إلى الاستفزاز الذي مثلته زيارة بيلوسي على طبيعة المناورات الصينية حول تايوان التي أحاطت الجزيرة، من كل الجهات ووصلت لمناطق نادراً ما تخترقها الصين، مع استخدام أسلحة بكين الجديدة، بطريقة هجومية.
وقالت وزارة الدفاع التايوانية إن الصين أطلقت عدة صواريخ باتجاه المياه بالقرب من شمال شرق وجنوب غرب الجزيرة اليوم الخميس، فيما هو مؤشر على عزم بكين تنفيذ وعيدها بأن تايبيه ستدفع ثمن استضافة رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي.
وقالت قيادة المسرح الشرقي بالجيش الصيني في بيان إن صواريخ متعددة أطلقت في البحر قبالة الجزء الشرقي من تايوان. وأضافت أن كل الصواريخ أصابت الهدف بدقة.
وقال البيان "تم الانتهاء من مهمة التدريب بالذخيرة الحية بأكملها بنجاح، وتم الآن رفع السيطرة على المنطقة الجوية والبحرية ذات الصلة".
في وقت سابق، أجرت الصين تدريبات طويلة المدى بالذخيرة الحية في مضيق تايوان، حسبما أفادت محطة CCTV الصينية الحكومية، كجزء من التدريبات العسكرية المخطط لها في جميع أنحاء الجزيرة.
مروحيات وصواريخ صينية فوق جزر تايوانية
وفي تصعيد لافت، أفادت تايوان بأن صواريخ صينية بعيدة المدى سقطت بالقرب من جزر ماتسو، ووتشيو، ودونغين، الواقعة في مضيق تايوان، لكنها تقع بالقرب من البر الرئيسي من جزيرة تايوان الرئيسية.
ورصدت وزارة الدفاع في تايوان إطلاق صواريخ من سلسلة دونغفنغ الصينية ابتداء من الساعة 1:56 بعد ظهر، يوم الخميس، واستخدمت العديد من أنظمة الإنذار المبكر لتتبع إطلاق الصواريخ، التي كانت موجهة إلى المياه شمال شرق وجنوب غرب تايوان.
وحلقت طائرات صينية من دون طيار حلقت فوق جزر كينمن، وهي منطقة تايوانية قبالة الساحل الجنوبي الشرقي للصين، وأطلقت قنابل إنارة، حسب ما يسمى بوزارة الدفاع في تايوان.
وظهرت صور لطائرات هليكوبتر عسكرية، تحلق فوق جزيرة بينغتان، إحدى أقرب نقاط تايوان إلى البر الرئيسي للصين.
وقال البيان العسكري الصيني "تم الانتهاء من مهمة التدريب بالذخيرة الحية بأكملها بنجاح وتم الآن رفع السيطرة على المنطقة الجوية والبحرية ذات الصلة".
بكين تخترق مناطق كانت تحترمها عادة
في غضون ساعات من مغادرة بيلوسي لتايبيه يوم الأربعاء، قالت وزارة الدفاع بالجزيرة إن الصين أرسلت أكثر من 20 طائرة مقاتلة عبر الخط الوسطي في مضيق تايوان، وهي نقطة منتصف الطريق بين البر الرئيسي وتايوان، والتي تقول بكين إنها لا تعترف بها، ولكنها تحترمها في العادة، حسب تقرير لشبكة CNN الأمريكية.
وقبل زيارة بيلوسي مباشرة، قامت الطائرات الصينية بشكل متكرر بتحركات تكتيكية من خلال "لمس" خط الوسط لفترة وجيزة والعودة إلى الجانب الآخر من المضيق، بينما كانت الطائرات التايوانية في وضع الاستعداد في مكان قريب، حسبما ذكر مصدر تايواني مطلع لوكالة رويترز.
وأفادت وسائل الإعلام الحكومية بأن التدريبات بالذخيرة الحية في ست مناطق حول تايوان بدأت في الظهيرة بالتوقيت المحلي (04:00 بتوقيت غرينتش) وستستمر حتى نفس الوقت في 7 أغسطس/آب.
المناورات الصينية حول تايوان بمثابة بروفة حرب
وتقول بكين إن تايوان تابعة لها ولم تستبعد استخدام القوة للسيطرة على الجزيرة، رغم أنها أكدت أنها تفضل إعادة التوحيد بشكل سلمي عبر طريقة دولة واحدة ونظامين التي اتبعت مع هونغ كونغ، التي كانت مستعمرة بريطانية عادت لبكين في التسعينيات وتحتفظ بقدر واسع من الحكم الذاتي، لاسيما في الجوانب الاقتصادية والتنظيمية، بما في ذلك امتلاك عملة خاصة، رغم أن هناك انتقادات غربية لما تعتبره تراجعاً في الحريات السياسية بالجزيرة، خاصة في عهد الرئيس الصيني الحالي، رغم أن الجزيرة ما زالت بحرية أكبر بكثير من تلك التي تتواجد في الصين البر الرئيسي، ولكنها شهدت احتجاجات بسبب بعض القوانين، التي أدت إلى فرض قيود خاصة على فكرة التعبير عن هوية مستقلة لهونغ كونغ.
وتحاكي المناورات "حصاراً" جوياً وبحرياً حول تايوان، حسب وسائل إعلام صينية رسمية، لكنها لم تقدم أدلة قوية لدعم هذا الادعاء.
وتركز المناورات الصينية عمليات مشتركة متعلقة بـ"الحصار والهجوم على أهداف بحرية وضرب أهداف أرضية والسيطرة على المجال الجوي"، حسبما ذكرت وكالة أنباء الصين الجديدة (شينخوا).
وتهدف التدريبات تهدف إلى إظهار قدرة الجيش الصيني على نشر أسلحة دقيقة لقطع علاقات تايوان مع الخارج وتسهيل إنزال القوات، وفقاً لما قاله ما تشين كون، الأستاذ في جامعة الدفاع الوطني في تايوان.
وقال أي غزو صيني لتايوان سيحاكي الإجراءات الملموسة التي سيتخذها في هذه المناورات بالتحديد".
فالجهد الرئيسي الذي تظهره المناورات الصينية هو أنهم سيقطعون روابط تايوان بالعالم الخارجي، بحرياً، وسوف يقمعون القوة النارية للدفاع الساحلي التايواني، حسب كون.
ووصفت "غلوبال تايمز"، وهي صحيفة شعبية تديرها الدولة الصينية، التدريبات على أنها بروفة لـ"عملية (عمليات) إعادة التوحيد".
ونقلت عن الخبير العسكري الصيني سونغ تشونغ بينغ قوله "في حالة نشوب صراع عسكري في المستقبل، من المحتمل أن تتم ترجمة الخطط العملياتية التي يتم التدرب عليها حالياً في المناورات الصينية الأخيرة بشكل مباشر إلى عمليات قتالية".
وذكرت أن الجيش الصيني يعتزم إطلاق مدفعية حية بعيدة المدى عبر مضيق تايوان.
وإذا تم إطلاق الصواريخ التقليدية الصيني من البر الرئيسي باتجاه غرب تايوان وضربت أهدافًا إلى الشرق، فهذا يعني أن الصواريخ ستطير فوق الجزيرة، وهو أمر غير مسبوق"، حسبما نقلت الصحيفة عن الخبير الصيني تشانغ زيفانج.
رد فعل تايوان
واعتبرت تايوان أن التدريبات تنتهك قواعد الأمم المتحدة، وتغزو مجالها الإقليمي وتصل إلى حد الحصار الجوي والبحري.
يوم الخميس، وصفت وزارة الدفاع بتايوان الأنشطة العسكرية للصين بأنها "غير عقلانية" وبغرض "تغيير الوضع الراهن، وتقويض السلام والاستقرار الإقليميين".
وقالت وزارة الدفاع في تايوان إن القوات المسلحة بالجزيرة ما زالت في حالة تأهب وتراقب عن كثب أنشطة جيش التحرير الشعبي، وأن قواتها في حالة تأهب، وأجريت تدريبات الدفاع المدني الأسبوع الماضي ووضعت إخطارات على الملاجئ المخصصة للغارات الجوية منذ أشهر.
وقالت الوزارة في بيانها إن تايوان "ستتمسك بمبدأ الاستعداد للحرب دون السعي للحرب، وبموقف عدم تصعيد الصراع وعدم إثارة الخلافات".
وقال البيان إن "الفروع الخدمية الثلاثة ستعمل على توحيد الجهود مع جميع الناس لحماية الأمن القومي وسلامة الأراضي بشكل مشترك"، مع التكيف مع الوضع أثناء تطوره.
أمريكا في مقاعد المتفرجين
وتقيم الولايات المتحدة علاقات دبلوماسية رسمية مع الصين، وتعترف بسياسة الصين الواحدة، وتقول في الوقت ذاته إن هذه السياسة لا تعني قبولها بسيادة الحزب الشيوعي على تايوان.
وتتبع واشنطن سياسة "الغموض الاستراتيجي" بشأن تايوان، والحكومة الأمريكية هي ملزمة بموجب قوانين أمريكية بتزويد الجزيرة بوسائل الدفاع عن نفسها، وهذه السياسة لا تتضمن بشكل صريح التزاماً أمريكياً بالدفاع عن الجزيرة بشكل مباشر، ولكن الرئيس الأمريكي، جو بايدن، قال مؤخراً إن بلاده ستدافع عن تايوان في حال تعرضها لهجوم صيني، ثم عاد وقال إن بلاده لم تغير موقفها من الوضع الراهن.
وقبل أيام، دعا وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكين، بكين إلى "التصرف بمسؤولية" رداً على زيارة بيلوسي إلى تايوان.
وقبيل زيارة بيلوسي، قال الرئيس الأمريكي إن الجيش الأمريكي لا يرى أن الزيارة مناسبة.
في حين أن الولايات المتحدة لم تقل إنها ستتدخل في مواجهة المناورات الصينية حول تايوان، فإن لديها قواعد وأصول منتشرة في الأمام في المنطقة، بما في ذلك مجموعات حاملة طائرات مقاتلة.
وتعمل ثلاث سفن تابعة للبحرية الأمريكية، وحاملة طائرات، وسفينتين هجوميتين برمائيتين تحملان مقاتلات شبحية من طراز إف 35 في المياه بالقرب من تايوان.
وقبل يومين، أعلنت واشنطن عن تمركز أربع سفن حربية أمريكية، بما في ذلك حاملة طائرات، في المياه شرق تايوان (من الناحية البعيدة عن البر الصيني) فيما وصفته البحرية الأمريكية يوم الثلاثاء الماضي بعمليات انتشار روتينية، وسط غضب صيني من زيارة بيلوسي للجزيرة.
وقبل زيارة بيلوسي مباشرة، قال متحدث باسم البنتاغون إن السفن الأمريكية تُجري عمليات انتشار عادية في المنطقة ولا يتم نشرها كأصول لاستعراض القوة في التوترات المتزايدة بين الولايات المتحدة والصين بشأن زيارة بيلوسي إلى تايوان.
ومع ذلك، أخبر مسؤول دفاعي أمريكي كبير موقع USNI News أن السفن والطائرات يمكن أن تبقى في المنطقة إذا كانت هناك حاجة إليها للطوارئ. ذكرت وكالة أسوشيتد برس الأسبوع الماضي أن الجيش الأمريكي يضع خططاً في حالة وقوع حادث.
وفيما يبدو أنها رسالة للولايات المتحدة، أجرت ثلاث سفن حربية صينية أخرى الثلاثاء الماضي تدريبات لمحاكاة هجمات على طائرات محمولة على حاملات طائرات في المياه بشرق تايوان، حسبما قاله مصدر تايواني مطلع لوكالة رويترز.
ويتطلب القانون الأمريكي من الحكومة الأمريكية التعامل مع التهديدات الموجهة لتايوان، بما في ذلك تعرض الجزيرة لعمليات حصار.
ولكن كان لافتاً أن ردود الفعل الأمريكية العسكرية على المناورات الصينية محدودة، ولم تقم واشنطن باستعراض للقوة قرب تايوان بنفس الطريقة الصينية، حتى أنها أشارت إلى أن تواجد قطعها البحرية جاء في إطار ما وصفته بانتشار روتيني.
وقد يؤشر ذلك إلى رغبة واشنطن في عدم التصعيد بعدما تمت الزيارة، وغادرت بيلوسي تاركة المنطقة تشتعل وسكان الجزيرة هم الذين يكابدون القلق من المناورات الصينية التي دفعت بعضهم لسحب الأموال من البنوك.
وقد يكون السبب في عدم تصعيد التحركات العسكرية الأمريكية، هو أيضاً الخوف من اقتراب سفن وطائرات البلدين بطريقة قد تؤدي لحدوث خطأ.
وهناك سبب آخر لعدم قيام واشنطن باستعراض للقوة، وهو أنه رغم التفوق الأمريكي النوعي الكبير على البحرية الصينية، فإن للجغرافيا حتمياتها.
فتايوان تقع على بعد 180 كيلومتراً من البر الرئيسي للصين، مما يعطي أفضلية لبكين، لأن الأخيرة تستطيع إطلاق قوتها البحرية بسهولة من قواعدها القريبة، كما أن الطيران الحربي الصيني، نظراً لقرب قواعده من الجزيرة، لا يحتاج للعمل من حاملات طائرات مثل الحال مع الولايات المتحدة، الأمر الذي يحدّ من قدرة واشنطن على نشر أعداد كبيرة من الطائرات، ويحد من نطاقات تحليق هذه الطائرات نفسها.
بل إن قرب تايوان من الصين يجعلها في مدى الصواريخ الصينية المتوسطة المدى وحتى بعض الطائرات المروحية الصينية وقطع المدفعية، يعني ذلك أنه في مقابل اقتصار قدرة أمريكا على توظيف جزء من بحريتها في أي استعراض محتمل للقوة، قرب تايوان، فإن الصين تستطيع توظيف معظم قوتها البحرية والجوية، وحتى جزء من قدرة جيشها البري خاصة الصواريخ والمدفعية والطائرات المسيرة، الأمر الذي يجعل ميزان القوة في صالح الصين عددياً على الأقل، علماً بأن ميزان القوة النوعي، رغم أنه لا يزال في صالح واشنطن فإن الفجوة تتضاءل بشكل يجعل أمريكا أقل جرأة في أي تحرك عسكري مقارنة بأزمة 1996، عندما شكل التفوق التكنولوجي الأمريكي الساحق في ذلك الوقت رسالة واضحة لبكين أظهرت محدودية قدرتها، ويقال إنها أطلقت جرس إنذار دفع الصين لتطوير جذري لقواتها المسلحة، وخاصة البحرية والجوية.
كما أنه لا الجيش ولا المواطن الأمريكي، لديهما الدافع لدفع ثمن عسكري أو مالي، لحرب قد تنشب من أجل جزيرة تعترف الحكومة الأمريكية رسمياً بأنها جزء من الصين.
وعلى الأرجح فإن المناورات الصينية الحالية حول تايوان، ستكون نقطة فارقة في تاريخ الجزيرة، فقد تؤدي إلى دفع الكثير من السكان إلى إعادة النظر في تأييدهم للتوجهات الانفصالية في ظل الخلاف الموجود حولها أصلاً بالجزيرة، وقد تؤدي في المقابل إلى تعزيز الشعور بالهوية الذاتية، وتفاقم العداء الموجود لدى بعض قطاعات السكان تجاه بكين، وقد يعني ذلك دفع تايوان لمزيد من العسكرة، بما قد يؤثر على ازدهار اقتصادها.
بالنسبة للولايات المتحدة، فإن رد فعلها العسكري الباهت قد يكشف أن موقف واشنطن الواقعي من تايوان قد لا يختلف كثيراً عن موقفها من أوكرانيا، التي شجعتها على الخصام مع روسيا ولوحت لها بعضوية الناتو دون وعود محددة، ودون تعهد قاطع بحمايتها، وفي النهاية عندما غزت قوات بوتين أوكرانيا، كانت واشنطن واضحة في أنها لن تحمي كييف ولن تتدخل عسكرياً، وأنه ليس لديها سوى أن تقدم لأوكرانيا مساعدات اقتصادية وعسكرية قُدرت بمليارات الدولارات، ولكن أغلبها إما أسلحة خفيفة أو معدات قديمة استغنى عنها الجيش الأمريكي ودول الناتو، وحتى الأسلحة المتطورة التي أرسلتها واشنطن لو ساعدت على جعل الأوكرانيين يقاومون الروس بشكل مثير للإعجاب، فإنها لن تؤدي لهزيمة روسيا، القوى العظمى، بل على الأغلب ستؤدي فقط لإطالة أمد الحرب لاستنزاف موسكو.
وقد ينتهي الأمر بتايوان إلى تكرار تجربة أوكرانيا، ولو بعد حين، إذا استمرت الولايات المتحدة في سياستها بالتضحية بأصدقائها الصغار لمناكفة خصومها الكبار، وخاصة إذا صدقها التايوانيون مثلما فعل الأوكرانيون من قبل.