كان مشهد هجوم قوات الاحتلال الإسرائيلي على جنازة شيرين أبو عاقلة لا يُنسى، وكان تبرير سلطات الاحتلال لهذا التصرف الصادم أن المشيعين رفعوا علم فلسطين داخل القدس، ولكن الغريب أن رفع العلم الفلسطيني ليس جريمة في أي مكان، وفقاً للقانون الإسرائيلي.
وما زالت معركة الأعلام مستمرة في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
فقبل شهرين، وسط أمواج من الأعلام الإسرائيلية المنتشرة عند مدخل الحي الإسلامي في البلدة القديمة بالقدس، سار عبدالله الحاج في اتجاه مجموعة من المتظاهرين اليهود اليمينيين المتطرفين، الذين كان يهتف بعضهم هتافات عنصرية.
وفجأة رفع عبد الله الحاج العلم الفلسطيني فوق رأسه.
وعلم أنه ليس لديه سوى ثوانٍ معدودة.
إذ تعالت من حوله أصوات الصيحات من المؤيدين والسخرية والتهكم من المتظاهرين اليهود.
ثم أُوقف الحاج، 61 عاماً، عن طريق ثلاثة ضباط شرطة شبه عسكرية إسرائيليين أخذوا العلم الفلسطيني عنوة من يديه، وحملوه بعيداً، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
قال الحاج من منزله في أريحا في الضفة الغربية المحتلة، بينما كان يتذكر مواجهته مع المسيرة اليمينية المتطرفة في مايو/أيار الماضي: "بعد أن رفعت العلم، لم أكترث بما كان سيحدث لي، لو كنت قُتلت أو كُسرت عظامي أو اعتُقلت. كان هذا مهماً لي كي أُظهر أن هذه الأرض تنتمي إلى الفلسطينيين".
علم فلسطين ليس ممنوعاً ولكن الكنيست بدأ تمرير قانون لحظره
علم فلسطين ليس محظوراً في إسرائيل، لكن إظهاره في المجال العام يتعرض لهجمات متزايدة عن طريق السلطات الإسرائيلية التي تسعى لقمع أي تعبير عن الهوية القومية الفلسطينية، حسب الصحيفة الأمريكية.
وذلك هو الحال في القدس الشرقية على وجه الخصوص، وهو نصف المدينة الذي يتكون غالبية سكانه من الفلسطينيين.
عندما زار الرئيس الأمريكي جو بايدن إسرائيل في الأسبوع الماضي، عُلقت الأعلام الأمريكية حول القدس لعدة أيام، بما في ذلك حدود القدس الشرقية. لكن غالبية الأعلام الفلسطينية التي رُفعت هناك، أزالتها سلطات الاحتلال في غضون ساعات قليلة.
وفي الكنيست الإسرائيلي، حصلت مسودة قانون تحظر رفع العلم داخل الأحرام الجامعية، على موافقة مبدئية في الشهر الماضي، رغم أن مصيرها يبدو غير واضح بعد انهيار الحكومة. أما في الضفة الغربية المحتلة، فإن المستوطنين الإسرائيليين المتجرئين يزيلون الأعلام الفلسطينية التي تظهر داخل البلدات الفلسطينية، وأحياناً يحدث هذا تحت حماية جيش الاحتلال الإسرائيلي.
اللوحات الجدارية في مواجهة أعلام إسرائيل
احتلت إسرائيل القدس الشرقية في عام 1967 وضمتها لاحقاً إلى عاصمتها المزعومة، لكن أغلب دول العالم تعتبرها أراض محتلة. يغيب العلم الفلسطيني في واقع الأمر عن المشهد في الشوارع، بينما تنتشر الأعلام الإسرائيلية بالأزرق والأبيض، التي تتدلى من أعمدة الإنارة ومنازل المستوطنين اليهود. يلجأ السكان الفلسطينيون، العاجزون عن رفع أعلامهم على منازلهم، إلى رسم اللوحات الجدارية بألوان العلم الفلسطيني: الأسود والأبيض والأخضر والأحمر.
قال فادي خوري، محامي الحقوق المدنية لدى مركز عدالة الفلسطيني لحقوق الإنسان: "ما يحدث اليوم هو أن هناك تحريضاً داخل الكنيست الإسرائيلي وخارجه للتركيز على الأعلام، بزعم أنها تعبير عن الإرهاب أو دعم للإرهاب. إنه جزء من محاولة مستمرة لتجريم جوانب محددة من الهوية الفلسطينية الجمعية".
لم يُحظر العلم الفلسطيني صراحة من قبل، ولكن بموجب القانون الإسرائيلي يُحظر رفع علم أي جماعة تعدها الدولة تنظيماً إرهابياً. قبل توقيع اتفاقيات أوسلو في تسعينيات القرن الماضي، تضمن ذلك منظمة التحرير الفلسطينية، وبالتبعية مُنع العلم الفلسطيني.
تغير ذلك في عام 1993، عندما اعترفت إسرائيل بمنظمة التحرير بوصفها ممثلة الشعب الفلسطيني، وبدأ العلم الفلسطيني في الظهور حول القدس الشرقية والضفة الغربية.
ولكن عندما انطلقت الانتفاضة الفلسطينية عام 2000، تضمن قمع الانتفاضة قمع أي تعبير عن الهوية الفلسطينية، بما في ذلك الأعلام الفلسطينية.
كيف تبرر سلطات الاحتلال قمعها لمن يرفع علم فلسطين؟
ومنذ ذلك الحين، في ظل غياب أي قانون يحظر العلم الفلسطيني، استخدمت الشرطة الإسرائيلية أوامر إدارية وقضائية أخرى، بما في ذلك قوانين أحداث الشغب العامة، لاعتقال الفلسطينيين وتوجيه الاتهامات إليهم لرفعهم الأعلام الفلسطينية، وذلك وفقاً للمحامين الحقوقيين والجماعات الحقوقية.
قال خوري: "إن الطريقة التي يُبرَّر بها الأمر، ولا سيما الاعتقالات، كانت تزعم أن التلويح بالعلم يعد سلوكاً مخلاً بالنظام، وهي جريمة منفصلة. ليست هناك مادة صريحة في أي وثيقة قانونية تجرم التلويح بالأعلام، لكن ضباط الشرطة الإسرائيليين يعدونه جريمة على أساس أنه سلوك مخل بالنظام".
عندما سُئلت الشرطة الإسرائيلية عن مصادرة علم الحاج في مايو/أيار، إضافة إلى المواجهات الأخرى في ذلك اليوم بين الضباط والمحتجين الفلسطينيين، قالت في بيان لها: "إن تصرف رفع العلم لا يشكل جريمة". ولكن عندما يهدد هذا التصرف حياة البشر، "فإن القائد المسؤول في الميدان لديه سلطة لاتخاذ التحركات اللازمة لإيقاف التهديد والحفاظ على النظام العام"، وذلك حسبما أضاف البيان.
والمحاكم ترفض الدعاوى المرتبطة بالتلويح به
ومع ذلك، ترفض المحاكم الإسرائيلية نفسها بصورة منتظمة الدعاوى المرتبطة ارتباطاً مباشراً بالتلويح بالعلم.
في سبتمبر/أيلول الماضي، حكم قاض إسرائيلي في القدس بأن محتجاً اعتُقل للتلويح بالعلم الفلسطيني ينبغي إطلاق سراحه، مضيفاً أن الشرطة لم تفسر كيفية عرقلته النظام العام والسلامة العامة.
في وقت سابق من هذا العام، اقترح عضو من حزب الليكود اليميني مسودة قانون تحظر التلويح بأعلام أي دولة معادية أو أعلام السلطة الفلسطينية داخل المؤسسات التي تمولها الدولة، وتحديداً الجامعات والكليات. وبموجب مسودة القانون، سوف يعاقَب المخالفون بالسجن لمدة سنة ودفع غرامة لا تقل عن 10 آلاف شيكل (نحو 3000 دولار).
حشدت مسودة القانون تأييداً داخل الكنيست بعد أن سُمح لطلاب في جامعة بن غوريون بإحياء ذكرى النكبة، مع التظاهر بالعلم الفلسطيني، مما أغضب بعض الإسرائيليين.
بعد أن قطعت الشرطة الإسرائيلية في مايو/أيار فاعلية إظهار الهوية القومية الفلسطينية الذي شرع فيه الحاج، نُقل إلى برج حراسة شرطية قريب عن طريق أربعة ضباط شرطة، ثم أُطلق سراحه لاحقاً.
على بُعد بنايات معدودة، حيث احتشد عشرات الفلسطينيين لتنظيم احتجاج مضاد لمسيرة اليهود اليمنيين المتطرفين، اعترض ضباط شرطة مجموعة من الأشخاص الذي يلوحون بالأعلام الفلسطينية، وأطلقوا عليهم قنابل الدخان، وهو ما أظهره فيديو يعرض المشهد.
وقال المحامي الحقوقي منير نسيبة: "لا ترى في الأساس العلم الفلسطيني مرفوعاً في القدس على البنايات أو السيارات أو أي شيء عام. عندما يحاول فلسطيني رفع علم فلسطيني، يُقابَل بالعنف".
حتى في مناطق السلطة رفع علم فلسطين يتم قمعه
وحتى الضفة الغربية تشهد معارك حول علم فلسطين.
ففي بلدة حوارة الفلسطينية، قال رئيس المجلس البلدي، ناصر الحواري، إن هذه المعركة صارت متكررة الحدوث بصفة شبه يومية. التُقط فيديو لمستوطن إسرائيلي كان يقود سيارته في البلدة، وهو يصعد عمود إنارة ويُنزل علماً فلسطينياً صغيراً.
قال الحواري إن المستوطنين يأتون الآن بصفة منتظمة لإزالة الأعلام في حوارة، وفي كثير من الأحيان تحت حماية الجيش الإسرائيلي. وأوضح أن هناك ارتفاعاً في وتيرة العنف من جانب المستوطنين الذين يهاجمون المحال في البلدة.
وأضاف: "يعيش الفلسطينيون ليلاً ونهاراً تحت العلم الإسرائيلي. فلماذا يريدون إزالة علمي وهذه المنطقة تحت حكم السلطة الفلسطينية؟ إنهم يحاولون التحريض".
ورداً على تساؤل حول إزالة المستوطنين الإسرائيليين الأعلام الفلسطينية، قالت متحدثة باسم الجيش الإسرائيلي إن فرض القانون وتطبيقه عند ارتكاب مواطنين إسرائيليين جريمة يقع على عاتق الشرطة الإسرائيلية.
وقالت الشرطة الإسرائيلية في بيان إنه إذا تورط مشتبهون في أي جريمة "سوف تُجرى مزيد من التحقيقات عن طريق الشرطة وفقاً لذلك". لكنها لم توضح ما إذا كانت هناك أية تحقيقات حول حوادث تمزيق المستوطنين للأعلام الفلسطينية.
قبل أسبوعين من المسيرة، شهد العالم بأسره مشاهد صادمة في جنازة الصحفية الفلسطينية الأمريكية شيرين أبو عاقلة، التي قُتلت أثناء تغطيتها اشتباكات بين القوات الإسرائيلية وفلسطينيين، وتشير الفرضية الأرجح إلى أنها قُتلت عن طريق رصاصة إسرائيلية.
جنازة أبو عاقلة أظهرت هوس إسرائيل بقمع رافعي العلم الفلسطيني
هاجمت الشرطة الإسرائيلية المشيعين الذين يحملون نعشها، ويلوحون بالأعلام الفلسطينية. وأظهر فيديو ضابط شرطة يخطف أعلاماً فلسطينية صغيرة ويلقي بها على الأرض.
قال طوني أبو عاقلة، شقيق الراحلة شيرين، إن الشرطة أبلغته قبل الجنازة بأنهم لا يريدون رفع الأعلام الفلسطينية، ولا يريدون أن يهتف المشيعون هتافات وطنية.
قال أبو عاقلة في حديثه عن أحداث العنف المشهودة خلال جنازة شقيقته: "كلما حاولوا إزالة العلم، يبقى العلم عالياً. لا أعتقد أن الناس جاءت إلى الجنازة لرفع العلم، لكن شيرين فلسطينية أولاً وقبل أي شيء".
حتى بعد ساعات من مقتل شيرين أبو عاقلة، تصدت الشرطة لمسألة رفع الأعلام تكريماً لها. فبينما كان المعزون يتدفقون إلى داخل منزل العائلة في شمال القدس، طالبت الشرطة بإزالة علم فلسطيني صغير فوق البيت المكون من دورين، وذلك حسبما أوضح طوني أبو عاقلة. لكن العائلة رفضت الأمر.
وبعد مرور أسابيع من مقتل الصحفية الفلسطينية، لا يزال العلم يرفرف بأجنحته أمام الرياح.