تزداد العلاقات الدبلوماسية بين روسيا وإسرائيل توتراً وتعقيداً، حيث كان آخر فصولها طلب وزارة العدل الروسية، يوم 21 يوليو/تموز 2022، تصفية الفرع الروسي لـ"الوكالة اليهودية"، بدعوى "ارتباطها بانتهاكات غير محددة للقانون الروسي". على إثر ذلك وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي، يائير لابيد، قرار موسكو إغلاق مكاتب الوكالة اليهودية في روسيا بأنه "حدث خطير"، بينما كشفت وسائل إعلام محلية أن الحكومة تستعد لاتخاذ إجراءات تصعيدية للرد على قرار موسكو. فماذا وراء هذه الأزمة، وما خطورة القرار الروسي بالنسبة لتل أبيب؟
ماذا وراء إغلاق الوكالة اليهودية في روسيا؟
لم تكن الحرب الأوكرانية هي العامل الوحيد الذي أسهم في صدور هذا القرار الروسي، الذي يوصف في الأوساط الإسرائيلية بأنه "خطير"، وفيما يلي نحاول كشف الصورة الكاملة لأسباب الأزمة.
1- "المقاتلون المتطوعون" والموقف الإسرائيلي من الغزو الروسي
هاجمت الصحافة العبرية الموقف الروسي، وقال العديد من المحللين الإسرائيليين إن قرار الحكومة الروسية بإغلاق عمليات الوكالة اليهودية في أراضيها هو "رد انتقامي" على دعم إسرائيل لأوكرانيا بالدرجة الأولى، واصطفافها إلى جانب واشنطن والموقف الغربي عموماً من الغزو الروسي.
وبعد القرار الروسي، قررت إسرائيل إرسال وفد إلى موسكو للمفاوضات، وكان من المفترض أن يضم الوفد ممثلين عن وزارة رئيس الحكومة ووزارة الخارجية ووزارة العدل ووزارة الهجرة والاندماج، لكن رحلة الوفد تأجلت في أكثر من مناسبة، بحسب رويترز.
وعلق لابيد على ذلك قائلاً إن "الجالية اليهودية في روسيا مرتبطة بعمق بإسرائيل، وأهميتها تفوق أية مسألة سياسية أخرى لدينا مع الروس. سنواصل العمل من خلال القنوات الدبلوماسية حتى يستمر العمل المهم للوكالة اليهودية".
وازداد التوتر بين الطرفين بعدما اتهم يائير لابيد -عندما كان لا يزال وزيراً للخارجية في حكومة نفتالي بينيت- روسيا بارتكاب جرائم حرب، عندما تم الكشف عن مشاهد القتل الجماعي في ضاحية بوشا في كييف، لأول مرة في أبريل/نيسان الماضي، وهو أمر يبدو أن الكرملين لم ينسَه للابيد على الإطلاق.
في الوقت نفسه قد يكون أحد الأسباب التي ربما دفعت موسكو إلى موقفها الأخير هو وجود عدة مئات من "المقاتلين المتطوعين" الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية، قدموا للمشاركة في الحرب بأوكرانيا ضد روسيا.
2- الهجمات الإسرائيلية على سوريا
يشعر الروس بالغضب من ضربات إسرائيل المستمرة على سوريا ضد جهود الترسُّخ الإيراني، وخصوصاً الهجمات على مطار دمشق الدولي وميناء طرطوس، حيث يملك الروس قاعدة بحرية.
حول ذلك، يقول يوناثان فريمان، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة العبرية، إن "أحد مخاوفنا هو أن الخلاف بين إسرائيل وروسيا قد يعني أنه لن تكون لدى إسرائيل القدرة الكافية للعمل في سوريا، وأنا لم أرَ أي رد روسي على ما قاله وزير الدفاع (الإسرائيلي بيني) غانتس".
حيث كشف غانتس، الأسبوع الماضي، النقاب عن أن بطاريات روسية أطلقت النيران المضادة على طائرات إسرائيلية بسوريا، في مايو/أيار الفائت، وذلك للمرة الأولى، حسب تعبيره.
وأردف فريمان في حديث لوكالة الأناضول: "قد تكون إسرائيل تلحظ بشكل أكبر أنه بات من الصعب العمل في سوريا، وربما تكون روسيا قد غيرت سياستها هناك".
3- أزمة الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في القدس
كما يدور خلاف آخر حالياً بين موسكو وتل أبيب، حول كنيسة "ألكسندر نيفسكي" (الكنيسة الأرثوذكسية الروسية) في البلدة القديمة بالقدس، والتي يدَّعي الروس أنَّها تعود لهم، حيث ألغت محكمة إسرائيلية، في مارس/آذار الماضي، قراراً يمنح الحكومة الروسية السيطرة على مجمع الكنيسة البارزة في المدينة.
وفي عام 1859، اشترى القيصر ألكسندر الثاني الأرض التي بُني عليها مجمع الإسكندر- المعروف أيضاً باسم كنيسة ألكسندر نيفسكي. حتى الثورة الروسية عام 1917، كانت المنطقة تحت سيطرة الحكومة الإمبراطورية الروسية.
ووافق رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو على منح مجمع ألكسندر لروسيا في عام 2020. واعتُبرت هذه الخطوة بمثابة بادرة حسن نية بعد الإفراج الروسي عن نعماه يسخار، وهي امرأة إسرائيلية سُجنت بعد العثور على كمية صغيرة من الماريغوانا في حقيبتها أثناء وجودها في مطار موسكو في ذلك العام.
4- ضعف التنسيق بين الوكالة اليهودية والسلطات الروسية
في الوقت نفسه، تقول صحيفة هآرتس إن مشاكل الوكالة اليهودية في روسيا بدأت تختمر قبل فترة طويلة من غزو أوكرانيا. فيما قال مسؤول كبير في تل أبيب لصحيفة يديعوت أحرنوت، إنَّ "الوكالة كانت مُقصِّرة في تعاملها مع الجانب الروسي، بعدما تمت مداهمتها عدة مرات خلال العامين الماضيين، لكن لم تبلغ الحكومة الإسرائيلية أو تسعى لتدخُّلها".
ويقول الكاتب في هآرتس أنشل بفيفر، إنه في خضم القوانين والأنظمة الروسية، وتطبيقها غير المتكافئ من قِبل السلطات، كان هناك دائماً مجال لوقوع مشاكل على مختلف المستويات. مشيراً إلى وقوع أزمات بين موسكو وتل أبيب حول الوكالة أكثر من مرة في الماضي، ولكن تم حلها دائماً بهدوء خلف الكواليس. لكن اليوم، خرجت الأمور عن السيطرة، وتصاعدت إلى حد كبير بسبب "عدم وجود قيادة مهنية في الوكالة"، كما يقول بفيفر.
ويرى بفيفر أنه "من السهل إلقاء اللوم على المسؤولين الفاسدين في روسيا، لكن بعض اللوم يجب أن يذهب أيضاً إلى رئيس الوكالة السابق إسحاق هرتسوغ، رئيس إسرائيل الحالي، الذي أمضى سنواته الثلاث هناك يخطط لحملته الانتخابية للرئاسة الإسرائيلية. وبمجرد فوزه بها، ترك هرتسوغ الوكالة في حالة من الفوضى دون أن يتم إعداد أي خطة خلافة، تاركاً الرئيس المؤقت غير الكفء يعقوب حاجويل في مكانه لأكثر من عام".
وتحت قيادة هرتسوغ وهاجويل، اختفى فريق من "المحترفين المخضرمين" من روسيا، والذين كانوا قد أصيبوا بالإحباط خلال فترة رئاسة ناتان شارانسكي للوكالة التي استمرت تسع سنوات.
عندما اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية، في 24 فبراير/شباط الماضي، كان لدى الوكالة عدد قليل من الأشخاص ذوي الخبرة. وركز هاجويل على مهام إنقاذ لليهود المحاصرين في مناطق الحرب الأوكرانية، وفي خضم ذلك كانت الوكالة تواجه الطرد في روسيا، ولم يكن لديها أي شخص لديه الخبرة أو الاتصالات للتعامل مع المشكلة في بداية الأزمة، حيث كان لا يزال من الممكن التعامل بحذر، لكن الآن قد يكون الوقت قد فات، بحسب بفيفر.
5- هجرة العقول و"انتهاك خصوصية" المواطنين الروس
وفقاً لتقرير لوكالة "إنترفاكس" الروسية، يشير طلب وزارة العدل مثلما قُدِّمَ إلى المحكمة الجزئية في موسكو إلى ارتكاب الوكالة اليهودية "انتهاكات غير محددة للقانون الروسي".
وكانت الوكالة اليهودية بالفعل تبحث وقف نشاطها في روسيا، بعدما طالبت الحكومة هناك بمعلومات عن عملياتها. وقد أُرسِلَ خطابٌ إلى الوكالة قبل شهر، يحتوي أسئلة أشارت إلى نية روسيا إغلاق تلك العمليات.
وتُدافع موسكو عن قرارها بالقول إن "الوكالة اليهودية تُعرِّض خصوصية الروس للخطر من خلال إنشاء قاعدة بيانات لهم"، وهو أمر غير قانوني في روسيا.
وأبلغت وزارة العدل المحكمة أنَّه بعد مراجعة الوثائق التي قدَّمتها الوكالة، اتُّخِذَ قرار بإغلاق العمليات. كما تقول موسكو أيضاً إنَّ الوكالة تُفضِّل الروس العاملين في مجالات العلم والأعمال، وإنَّ رحيلهم يمكن أن يؤثر على الإمكانات العلمية والتجارية للاتحاد الروسي.
وتقول ليلي غاليلي، الصحفية الإسرائيلية المختصة بملف الهجرة اليهودية إلى إسرائيل، إن العدد الكبير من المهاجرين الروس الجدد -فضلاً عن صورتهم الاجتماعية والاقتصادية- هو بالتأكيد عامل في تطور الأزمة بين موسكو وتل أبيب، حيث تزعم مصادر روسية غير رسمية أنه من خلال الوكالة اليهودية، تشجع إسرائيل هجرة الأشخاص الذين تحتاجهم روسيا الآن بشدة من أصحاب العقول، وخصيصاً أولئك الذين يعملون في مجال التكنولوجيا العالية، وهو أمر يتسبب في ضرر كبير، إن لم يكن متعمداً، لروسيا التي تقف في حالة حرب.
ما خطورة القرار الروسي بالنسبة لإسرائيل؟
بحسب وسائل إعلام عبرية، طلب أكثر من 30 ألف مواطن روسي الهجرة إلى إسرائيل هذا العام. وهناك بالفعل تأخيرات كبيرة في معالجة طلباتهم، وبمجرد السماح لهم بالذهاب إلى الخارج هناك مشاكل لوجستية بسبب عدم وجود رحلات جوية من روسيا.
وإذا أُجبر مبعوثو الوكالة اليهودية بالفعل على مغادرة روسيا، واضطر الموظفون المحليون إلى إغلاق المكاتب، فسيؤدي ذلك إلى جعل عملية الهجرة أكثر تعقيداً، رغم عدم وجود مؤشرات، على الأقل في الوقت الحالي، على أن روسيا تخطط لمنع مواطنيها من المغادرة بشكل نهائي.
وفي وقت مثل هذا، ارتفعت فيه مستويات الهجرة من روسيا وأوكرانيا إلى أعلى مستوى لها منذ ما يقرب من 30 عاماً، لن يبدأ أحد بفحص دور الوكالة اليهودية. ولكن بعد انتهاء ذلك ستُثار أسئلة مرة أخرى حول ما إذا كان ينبغي على إسرائيل الاستمرار في السماح للوكالات شبه الرسمية والتي عفا عليها الزمن بمسؤولية الهجرة اليهودية، بحسب هآرتس.
فيما تقول يديعوت أحرونوت، إن القرار الروسي فيما لو أفضى لإنهاء عمل الوكالة اليهودية بشكل نهائي، فسيعاني المهاجرون اليهود هناك بشدة. وأمام إسرائيل نطاق زمني ضيق، إذا أرادت البت في مسألة العمليات الروسية للوكالة اليهودية بموسكو.
في الوقت نفسه، يرى محللون إسرائيليون أن القرار الروسي قد ينعكس بشكل خطير على العلاقات مع موسكو، ما قد يؤدي إلى ضعف التنسيق بشأن العمليات الإسرائيلية في سوريا، وبالتالي تقييد حرية عمل الجيش الإسرائيلي هناك.
وكانت إسرائيل وروسيا أعلنتا في الماضي الاتفاق على آلية لمنع تداخل عمل الجيشين الروسي والإسرائيلي في سوريا. وتشن إسرائيل، بشكل متكرر، غارات جوية في سوريا على أهداف تقول إنها إيرانية.
وهناك تأثير آخر من المحتمل أن ينعكس على العلاقة الروسية الإسرائيلية، حيث تخشى تل أبيب أن تغير موسكو موقفها فيما يتعلق بمفاوضات الملف النووي الإيراني، بما لا يتوافق مع المصالح الإسرائيلية.
ويقول يوناثان فريمان، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة العبرية بهذا الشأن: "عندما يأتي الأمر للاتفاق مع إيران وبرنامجها النووي فإن هذا قد يجعل روسيا لا تستمع إلى المخاوف الإسرائيلية".
ما هي الوكالة اليهودية ومتى نشطت في روسيا؟
يُذكر أن الوكالة اليهودية تعد إحدى المنظمات غير الربحية التي لعبت الدور الرئيسي في عملية تشجيع الهجرة وتعزيز الاستيطان اليهودي للأراضي الفلسطينية منذ عشرينيات القرن الماضي، الأمر الذي كان بمثابة لبنة تأسيس دولة الاحتلال الإسرائيلي، التي أعلنت عن قيامها عام 1948.
وكانت البداية عندما تم إنشاء الوكالة اليهودية في أراضي فلسطين المحتلة عام 1922، بعد أن أقرت المادة الرابعة من قانون الانتداب البريطاني المُدمجة مع سياسات وعد بلفور، بإقامة وطن قومي لليهود على الأراضي الفلسطينية.
كانت الوكالة اليهودية للهجرة خلال فترة الانتداب البريطاني أشبه بحكومة بالنسبة لليهود في فلسطين، وعملت على إنشاء وطنهم القومي. وبعد قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي عام 1948 على أرض فلسطين، تحولت غالبية هذه الاختصاصات إلى الحكومة الإسرائيلية.
إلى أن تم الفصل بين مهام المنظمة والوكالة في القانون الذي أقره الكنيست عام 1952، واعترفت فيه الحكومة بصلاحية الوكالة للاستمرار في العمل في إسرائيل؛ من أجل "تطوير واستيعاب المهاجرين، والمشاركة في ذلك مع المؤسسات اليهودية التي تنشط في هذه المجالات".
وتذكر المصادر الإسرائيلية، أنه تم إنشاء فرع الوكالة اليهودية في موسكو، الذي يشارك بنشاط في تعزيز الهجرة اليهودية إلى إسرائيل، في عام 1989، أي قبل عامين من الاحتفال الرسمي بافتتاح سفارة لإسرائيل في موسكو؛ واليوم تمتلك مكاتب تمثيلية في مختلف تلك الدول بعد استقلالها بتفكك الاتحاد بنهاية عام 1991.
وعلى مر السنين، هاجر حوالي 400.000 يهودي إلى إسرائيل من روسيا، وأكثر من مليون من الاتحاد السوفييتي السابق. ومنذ الغزو الروسي لأوكرانيا، غادر أكثر من 17.000 يهودي روسياً، بحسب مصادر إسرائيلية فيما لا تزال آلاف الطلبات الأخرى عالقة.
فيما تجدر الإشارة إلى أن هناك اليوم حوالي 200 ألف شخص في أوكرانيا مؤهلون للهجرة بموجب "قانون العودة الإسرائيلي". وهي مادة تنص على أنه يتطلب من الشخص الذي يسعى للهجرة لإسرائيل أن يكون أحد أجداده على الأقل يهودياً، في أي دولة حول العالم، لكي يحق له الحصول على الجنسية الإسرائيلية بمجرد الانتقال إلى الأراضي المحتلة.
وخلال عام 2021 وحده، هاجر أكثر من 3100 شخص من أوكرانيا إلى إسرائيل بموجب هذا القانون. وقال مسؤولون إسرائيليون إنهم يستعدون لقبول آلاف المهاجرين اليهود من أوكرانيا حالياً، بحسب صحيفة Times Of Israel الإسرائيلية.