"الخطر الأكبر الذي يهدد العالم قد يكون النقص في السكان"، يبدو هذا التحذير غريباً مقارنة بالتحذيرات التقليدية عن الانفجار السكاني المنتظر الذي تطنطن به الحكومات العربية، ولكن الواقع أن كثيرين يرون أن خطراً جديداً يظهر وهو تراجع السكان، بل إن بعض الدول -من بينها دول عربية- مهددة بالانقراض.
وكان الملياردير الأمريكي إيلون ماسك، مؤسس شركة Tesla، قد جدد مؤخراً تحذيره من انخفاض معدل المواليد في الصين والذي يمكن أن يؤدي إلى "انهيار سكاني" محتمل في المستقبل القريب. مراراً وتكراراً، أعرب ماسك عن مخاوفه بشأن هذه القضية بالنسبة للعالم كله، ولديه هو شخصياً عدد كبير من الأولاد من زيجات متعددة.
وقال ماسك رداً على مقال أشار إلى قضية انخفاض عدد السكان في الصين: "بمعدلات المواليد الحالية، ستفقد الصين نحو 40% من الناس كل جيل! جراء انهيار السكان".
ويعتقد على نطاق واسع أن تراجع السكان سوف يصبح أكبر خطر على تجربة النمو الاقتصادي الصيني، وقد يجعلها تتخلف عن منافسة الولايات المتحدة الأمريكية في حجم الاقتصاد بعد أن تلحق بها لفترة قليلة، ثم يخذلها تراجع نموها السكاني.
فرغم تخلي الصين عن سياسة الطفل الواحد، فإن نتائجها ترسخت في المجتمع، ومع النمو الاقتصادي وهوس العمل والإنتاج، تتراجع رغبة الأزواج في الإنجاب، إذا تزوجوا أصلاً، بينما الولايات المتحدة لا تتمتع فقط بمعدل زيادة سكاني معقول، بل أيضاً بتلقيها هجرات كبيرة تضخ الدماء في شرايين قواها العاملة، وهي دماء شباب تلقَّى تعليمه في بلدان أخرى ثم يهاجر لأمريكا ليقدم لها ذروة عطائه بعد أن أنفقت عليه بلاده الفقيرة مدخراتها القليلة.
وتواجه اليابان خطراً مماثلاً جراء العزوف عن الإنجاب والزواج وحتى الجنس خارج إطار الزواج، مع مجتمع مغلق لديه هواجس من تقبُّل الهجرة الخارجية.
ذروة الزيادة السكانية في العالم انتهت
ولكن خطر نقص السكان لا يواجه الصين أو اليابان فقط، بل أيضاً بعض الدول الأوروبية، والمفارقة أن بعض الدول الغربية بدأت تشهد توجهاً سكانياً يؤشر إلى أنها ستسجل زيادة في السكان.
لقد تباطأ معدل النمو السكاني العالمي إلى حد كبير بالفعل: فقد وصل إلى ذروته بأكثر من 2% في أواخر الستينيات وظل يتراجع منذ ذلك الحين.
ويعتقد أن قرنين من النمو السكاني العالمي السريع أوشكا على الانتهاء.
فمن أهم الدروس المستفادة من التاريخ الديموغرافي للدول أن الانفجارات السكانية مؤقتة.
بالنسبة للعديد من البلدان، انتهى التحول الديموغرافي بالفعل، وبما أن معدل الخصوبة العالمي قد انخفض الآن إلى النصف، فإننا نعلم أن العالم ككل يقترب من نهاية النمو السكاني السريع مع اقتراب لحظة مهمة في التاريخ الديموغرافي للعالم، عندما يتوقف عدد الأطفال في العالم عن الازدياد، إنها اللحظة التي أطلق عليها هانز روسلينج لقب "ذروة الطفل"، وهي مرحلة ليست بعيدة.
وعكس الشائع فإن خطر نقص السكان يواجه العديد من البلدان النامية والمتوسطة التقدم أكثر من بعض الدول الغربية، وستكون وطأة هذا الخطر أكبر على الدول الفقيرة والمتوسطة من الدول الغنية.
فلقد استفادت البلدان الأكثر ثراءً من النمو السكاني في العقود الماضية لتحقيق نمو اقتصادي، وهي تواجه الآن مشكلة ديموغرافية تتمثل في زيادة عدد المتقاعدين الذين لا يساهمون في سوق العمل، ولكن هذه الدول لديها مدخرات مالية كبيرة وإنتاجية عالية لشبابها قليل العدد بفضل التكنولوجيا، إضافة إلى أنظمة تقاعد قوية وأنظمة إنتاج أكبر اعتماداً على الأتمتة، والأهم أنها تعوض نقص العمالة باستيراد المهاجرين بطريقة انتقائية.
في العقود القادمة، ستكون بعض البلدان الأفقر أمام خطر نقص السكان، ولكن عكس الدول المتقدمة فإن هذه الدول وأغلبها من المستوى المتوسط، ليست لديها ثروات مدخرة ولا نظام معاشات قوي، مما يعني أنه عندما يصبح لديها عدد من المتقاعدين كبير، فلن يكون لديها شباب كافٍ لإعالتهم، ولا المدخرات الكافية لتحقيق ذلك.ج
نسبة الأفارقة في العالم ستزيد، والقارة ستصبح أكبر من آسيا
التغيير اللافت من الآن وحتى عام 2100 هو النمو المتوقع في عدد السكان الأفارقة. يبلغ عدد سكان القارة السمراء اليوم نحو 1.3 مليار نسمة. بحلول عام 2100، من المتوقع أن يزيد العدد على ثلاثة أضعاف ليصل إلى 4.3 مليار.
على مدار الأعوام الخمسين الماضية، شهدت آسيا نمواً سكانياً سريعاً.
ويبلغ عدد سكانها اليوم نحو 4.6 مليار نسمة. بحلول عام 2050، من المتوقع أن يرتفع إلى 5.3 مليار، لكنه سينخفض بعد ذلك في النصف الأخير من القرن.
وبحلول عام 2100، من المتوقع أن ينخفض عدد سكان آسيا إلى المستويات التي نراها اليوم تقريباً.
إفريقيا اليوم بها ما يزيد قليلاً على 17% من سكان العالم. بحلول عام 2100، من المتوقع أن ترتفع هذه النسبة إلى 40%. بينما ستشهد آسيا انخفاضاً كبيراً من نسبة تبلغ نحو 60% من سكان العالم اليوم إلى ما يزيد قليلاً على 40% في عام 2100، أي ستصبح إفريقيا أكبر سكاناً من آسيا.
وبحلول نهاية القرن، سيعيش أكثر من 8 من كل 10 أشخاص بالعالم في آسيا أو إفريقيا.
من المتوقع أيضاً أن تشهد أمريكا الشمالية والوسطى والجنوبية وأوقيانوسيا (أستراليا ومحيطها) ارتفاعاً في عدد السكان هذا القرن، لكن هذا النمو سيكون أكثر تواضعاً مقارنة بالنمو في إفريقيا.
أوروبا هي المنطقة الوحيدة التي من المتوقع أن ينخفض عدد سكانها، يبلغ عدد سكانها اليوم نحو 747 مليون نسمة. بحلول عام 2100 من المتوقع أن ينخفض هذا إلى 630 مليوناً.
ستتفوق الهند على الصين قريباً لتصبح الدولةَ الأكثر اكتظاظاً بالسكان في العالم.
لطالما كانت الصين الدولةَ الأكثر اكتظاظاً بالسكان في العالم: في عام 1750، كان عدد سكانها 225 مليون نسمة، أي نحو 28% من سكان العالم.
بحلول عام 2016، كان عدد سكان الصين أكبر من 1.4 مليار نسمة.
لكن الصين قريباً ستتفوق عليها الهند، وتشير التوقعات- التي أعدها قسم السكان في الأمم المتحدة- إلى أنه بحلول عام 2027، ستتفوق الهند على الصين لتصبح أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان.
والفارق بينهما الآن لا يزيد على بضع عشرات من الملايين.
بعض الدول الأوروبية مهددة بالانقراض
تواجه بلغاريا وغيرها من دول أوروبا الشرقية مشكلة سكانية حقيقية، ومعظم هذه الدول دول اشتراكية سابقة في وسط وشرق وجنوب شرقي أوروبا.
تسع من بين الدول العشر الأسرع انكماشاً في العالم تقع بأوروبا الشرقية، وفقاً لتوقعات الأمم المتحدة.
بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، ارتفع متوسط العمر المتوقع في هذه الدول إلى 74 عاماً من 67 عاماً في عام 1995، وزاد نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بأكثر من الضعف. لكن الحياة الأطول، والأسر الأصغر، وسهولة الهجرة لأوروبا الغربية، تضافرت لممارسة ضغوط ديموغرافية ستؤثر بشكل متزايد على النمو الاقتصادي، مما يقوض المكاسب التي تحققت منذ سقوط جدار برلين.
حذَّر نائب المدير العام لصندوق النقد الدولي، تاو تشانغ، من أن دول أوروبا الشرقية معرضة لخطر التقدم في السن قبل أن تصبح غنية، عكس دول شمال وغرب أوروبا التي أصبحت غنية ثم بدأت تشهد نقصاً في السكان.
بين عامي 1995 و2017، فقدت بلدان شرق وجنوب شرقي أوروبا (CESEE) نحو 7% من قوتها العاملة، معظمهم من العمال الشباب والمتعلمين.
تتوقع الأمم المتحدة أن ينخفض عدد سكان المنطقة بنسبة 12% بحلول عام 2050، نتيجة الشيخوخة والهجرة، وستنخفض القوة العاملة بمقدار الربع في الفترة نفسها.
يقول ألاسدير سكوت، الخبير الاقتصادي بصندوق النقد الدولي الذي شارك في تأليف دراسة حديثة عن التركيبة السكانية بأوروبا الوسطى والشرقية: "شيخوخة السكان تتعلق بأكثر من مجرد المعاشات التقاعدية العامة. إن لها آثاراً خطيرة على الرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية وتداعيات عميقة بشكل عام على النمو وتطلعات هذه البلدان لتتقارب مع مداخيل أوروبا الغربية".
يشير البحث إلى أن تقلص المعروض من العمالة وانخفاض إنتاجية كبار السن من العمال، إلى جانب زيادة الضغط على الخزانة العامة بسبب الرعاية الصحية والمعاشات التقاعدية، يمكن أن يكلف هذه البلدان نحو 1% من إجمالي الناتج المحلي سنوياً على مدار الأعوام الثلاثين القادمة.
سيؤدي ذلك إلى كبح ارتفاع الدخل مقارنة بمستويات أوروبا الغربية: سيظل نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي لهذه البلدان 60% فقط من مستويات أوروبا الغربية في عام 2050، حسب تقرير لصندوق النقد الدولي "IMF".
تراهن بعض الحكومات في المنطقة على الحوافز المالية لرفع معدلات المواليد. في المجر، حيث كانت الحكومة صريحة في معارضتها للهجرة، تم إعفاء النساء اللائي لديهن أكثر من أربعة أطفال من ضريبة الدخل، وسيحصل الأزواج الذين يحتاجون إلى علاج الخصوبة على هذه الضريبة مجاناً.
يقول سكوت إن معدلات الخصوبة ليست هي القصة الكبيرة. ما يجعل التركيبة السكانية في المنطقة مثيرة للغاية هو مدى الاختلاف في معدلات الهجرة والوفيات، والتي هي أعلى بكثير من تلك الموجودة في أوروبا الغربية.
"لا يبدو أن الحوافز المالية في البلدان الأخرى كان لها تأثير كبير على معدلات المواليد. ولكن حتى لو استطاعوا، على الفور زياد المواليد، فسيمر عقدان قبل أن يظهر اختلاف في السكان في سن العمل، في حين أن الضغوط الديموغرافية موجودة الآن".
ويقول إن المنطقة بحاجة إلى عمل سريع، يجب إدخال مزيد من النساء إلى القوى العاملة وإقناع العمال الأكبر سناً بمواصلة العمل والتدريب حتى يتمكنوا من الاستمرار في سوق العمل.
بلغاريا ستفقد نصف سكانها
تحتل بلغاريا المرتبة الأولى عندما يتعلق الأمر بالانكماش السكاني، حيث تفقد مواطنيها بمعدل أسرع من أي مكان آخر على وجه الأرض. لقد غادر مليون بلغاري وطنهم منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، في الغالب إلى دول أخرى أعضاء في الاتحاد الأوروبي، تتوقع الأمم المتحدة أن يستمر هذا لسنوات عديدة قادمة، وسينخفض عدد سكانها من 7.2 مليون إلى 5.2 بحلول عام 2050، بمعدل 23% خلال الأعوام الثلاثين القادمة، وكان عدد سكان البلاد يقارب عشرة ملايين منذ سنوات.
لكن هذه المشكلة تتكرر في أماكن أخرى من المنطقة، من دول شمال البلطيق، حيث شهدت ليتوانيا انخفاضاً بنسبة 23% في عدد السكان منذ عام 1990، إلى البلقان.
تتنافس بلغاريا وليتوانيا على التاج الذي لا تحسد عليه لأسرع بلد يتقلص. بين عامي 1991-2015، خسرت دول البلطيق وبلغاريا ما بين 16% و26% من سكانها.
ما الذي يسبب هذا الانخفاض في عدد السكان بالمنطقة؟
قضت العديد من دول أوروبا الشرقية عدة سنوات تحت ضوابط الهجرة التي تعود إلى الحقبة السوفييتية، مما يحظر بشدةٍ تدفقات المواطنين على نطاق واسع. حدث انخفاض عدد السكان بسبب حدثين رئيسيين: انهيار الاتحاد السوفييتي وتوسع الاتحاد الأوروبي.
سمح هذان الحدثان بحركة أكبر للمواطنين بين دول الاتحاد السوفييتي السابق. إضافة إلى ذلك، فإن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، الذي يسمح بحرية تنقّل الأشخاص، شجع بنشاط العديد من المواطنين على البحث عن فرص في مكان آخر.
لاتفيا رمز لهذا الاتجاه. منذ انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي في مايو/أيار 2004، فقدت خمس سكانها، انخفض عدد سكان البلاد بشكل مطرد من ذروة بلغت 2.66 مليون في نهاية الحكم السوفييتي، إلى 2.38 مليون في عام 2000. الآن انخفض إلى أقل من 2 مليون. يتكرر هذا المشهد في ليتوانيا المجاورة، التي تعد واحدة من أسرع الدول في العالم تراجعاً بعدد السكان في سن العمل.
دفعت هجرة العمالة غرباً نحو ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة حيث يبحث الناس عن فرص أفضل لأنفسهم ولعائلاتهم، إلى تراجع السكان إضافة إلى قلة الزيادة الطبيعية أو توقفها، غالباً ما يذهب المهاجرون للعيش مع أفراد الأسرة المستقرين بالفعل في الغرب، مما يجعل هذا الانتقال أسهل.
المفارقة أن دول شمال أوروبا التي كانت تعاني لعقود من تراجع السكان، بدأ بعضها يشهد دورة معاكسة وإن كانت معتدلة، في زيادة السكان، بفضل برامج الرعاية الصحية والمالية والاجتماعية المشجعة على الإنجاب، إلى جانب تيار الهجرة القادم من أوروبا الشرقية والعالم العربي وتركيا وإفريقيا وآسيا وحتى أمريكا الجنوبية.
نهاية الانفجار السكاني العظيم.. العالم العربي قد يشهد ظاهرة مماثلة
لمئات السنين، تذبذب عدد سكان منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا التي تضم العالم العربي وإيران وأحياناً تركيا، حول عدد 30 مليوناً، ووصل إلى 60 مليوناً في أوائل القرن العشرين.
لم يكتسب النمو السكاني بالمنطقة زخماً إلا في النصف الثاني من القرن العشرين، باستثناء مصر والشام (خاصةً لبنان)، حيث بدأت الزيادة بهما مبكراً.
ارتفع إجمالي عدد السكان المنطقة من نحو 100 مليون في عام 1950 إلى نحو 380 مليون في عام 2000، زاد عدد سكان منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا 3.7 مرة، أي أكثر من أي منطقة رئيسية أخرى في العالم.
وبالتالي شهدت منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أعلى معدل نمو سكاني مقارنة بأي منطقة في العالم خلال القرن الماضي، بلغ النمو السكاني السنوي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ذروته بنسبة 3% نحو عام 1980، في حين بلغ معدل النمو في العالم ككلٍّ ذروته بنسبة 2% سنوياً قبل أكثر من عقد من الزمان.
تحقق هذا النمو بفضل إدخال الخدمات الطبية الحديثة وتدخلات الصحة العامة، مثل المضادات الحيوية والتحصين والصرف الصحي للمنطقة، في حين تأخر الانخفاض في معدلات المواليد، مما أدى إلى ارتفاع معدلات الزيادة الطبيعية (فائض المواليد على الوفيات).
ولكن الآن خمسون عاماً من النمو السكاني السريع في الشرق الأوسط تقترب من نهايتها. يشهد الشرق الأوسط "التحول الديموغرافي" نفسه لإبطاء النمو السكاني الذي مرت به مناطق أخرى، حسب تقرير لموقع واشنطن لدراسات الشرق الأدنى "Washington Institute".
لماذا يتراجع النمو السكاني بالعالم العربي وجيرانه؟
السبب المباشر لتباطؤ النمو السكاني هو انخفاض عدد الأطفال المولودين للمرأة المتوسطة على مدى حياتها، والمعروف باسم "معدل الخصوبة الإجمالي" (TFR). في حين لعب توافر وسائل منع الحمل والتحضر دوراً في انخفاض معدل الخصوبة الإجمالي، كان العامل الرئيسي هو تمكين المرأة.
في العقود الأخيرة، أحرزت نساء الشرق الأوسط تقدماً كبيراً في اكتساب مزيد من المساواة في الوصول إلى التعليم، لكن هذا لم يترجم بعد إلى مزيد من فرص العمل خارج المنزل. يمثل التحول الديموغرافي الذي يمر به الشرق الأوسط فرصة ولكن يمثل أيضاً تحدياً.
الفرصة هي أن العالم العربي يدخل مرحلة تنهي عدة عقود كان يواجه فيها الاقتصاد عبئاً في رعاية الأطفال مع زيادة للسكان تفوق نمو الموارد في العديد من البلدان.
ومع ذلك، لا يمكن للشرق الأوسط الاستفادة من هذه الفرصة إلا إذا كان بإمكانه خلق وظائف كافية للشباب الذين وُلدوا خلال سنوات النمو السكاني السريع.
فإذا لم يتم خلق الوظائف بأعداد كافية لاستيعاب أولئك الذين ينضمون إلى سوق العمل، فإن الارتفاع الناتج عن البطالة يمكن أن يكون له تأثير سياسي كبير. إضافة إلى أنه في غضون بضعة عقود، من المتوقع أن يشهد الشرق الأوسط زيادة سريعة في عدد السكان المسنين، والتي بحلول عام 2050 ستتجاوز عدد الأطفال في العديد من دول المنطقة.
يعني ذلك أن الهرم السكاني سيكون مقلوباً حيث سيكون كبار السن أكبر من الشباب، ومع ضعف الاقتصاد والمدخرات ونظام التقاعد فلن يكون عدد الشباب كافياً لإعالة الشيوخ.
إن صناع السياسات وعامة الناس يدركون ببطءٍ أن الطفرة السكانية الطويلة في الشرق الأوسط تقترب من نهايتها. يشهد الشرق الأوسط "التحول الديموغرافي" نفسه إلى النمو البطيء الذي ضرب أوروبا وأمريكا الشمالية قبل بضعة أجيال، وآسيا وأمريكا اللاتينية في الجيل الأخير.
في بعض البلدان، كان التغيير دراماتيكياً بشكل خاص. في إيران، انخفض عدد المواليد بالفعل إلى نصف ذروة الثمانينيات. تم تسجيل 2.259.000 ولادة إجمالية في 1986-1987، بينما لم يكن في 2004-2005 سوى 962.000.
في بلدان أخرى، لم يبدأ التحول الديموغرافي بعد على وجه الخصوص في اليمن والأراضي الخاضعة للحكم الفلسطيني.
الفلسطينيون معرضون لخسارة سلاحهم الأخير ضد إسرائيل
تشهد الضفة الغربية تحديداً تراجعاً في معدل الزيادة السكانية، وبالتالي نهاية سلاح الأرحام والولادات الكثيرة الذي كان يراهن عليه الفلسطينيون في المعركة الديموغرافية مع الدولة العبرية.
بل إن المفاجأة تحدث في أراضي 48 (إسرائيل)، حيث كانت الزيادة السكانية الكبيرة لعرب إسرائيل تُقلق تل أبيب وتمثل سلاح النجاة الوحيد للأقلية العربية التي بقيت صامد في أرضها منذ النكبة.
ولكن حدثت تحولات لافتة في مجال الزيادة الطبيعية بإسرائيل، أهمها تراجع نسبة الإنجاب لدى العرب "فلسطينيي 48" مع ازدياد التحضر والتعليم في أوساطهم ومع تفاقم المشكلات الاقتصادية في الوقت ذاته، مقابل وضع اقتصادي أفضل لليهود، وسياسات تشجع الإنجاب، أدى إلى ارتفاع الزيادة السكانية لدى اليهود خاصةً المتدينين وأيضاً العلمانيين.
كل دول المنطقة انخفضت بها خصوبة المرأة
تقديرات معدل النمو السكاني السنوي للشرق الأوسط ككل من 2000 إلى 2050 هي 1.3%، أو أقل من نصف مستوى 1950-2000.
بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا التابعة للبنك الدولي (باستثناء السودان وإسرائيل)، انخفض متوسط معدل الخصوبة الإجمالي من 6.2 في عام 1980 إلى 3.2 في عام 2000. وتتراجع معدلات الخصوبة الإجمالية في جميع أنحاء الشرق الأوسط.
على سبيل المثال، في مصر، انخفض معدل الخصوبة الإجمالي من 7.1 في عام 1960 إلى 3.5 في عام 2000، ويواصل الانخفاض.
لعبت زيادة توافر وسائل منع الحمل دوراً في هذا الصدد، حيث انتشرت موانع الحمل بشكل حاد في معظم أنحاء المنطقة بالثمانينيات والتسعينيات. في مصر، وبتمويل كبير من المساعدات الأمريكية وجهود حكومية فعالة، ارتفع معدل استخدام وسائل منع الحمل من 30% من النساء المتزوجات في عام 1984 إلى 57% في عام 2000. وخلال الفترة نفسها في الجزائر، ارتفع المعدل من 7% إلى 64%.
إلى جانب وسائل منع الحمل، كان التحضر عاملاً آخر ساهم في انخفاض معدل الخصوبة الإجمالي. في حين أن عمالة الأطفال في المزرعة تمثل ميزة اقتصادية للمزارعين، فمن السهل مراقبة الأطفال أثناء العمل، والإسكان ليس عبئاً في الريف، كل هذا يتغير في المناطق الحضرية، حيث غالباً لا يستطيع الأطفال المساعدة في الوظائف الحضرية، وعادةً ما يحتاجون إلى ترتيبات الرعاية النهارية، والشقق الأكبر حجماً.
إضافة إلى العامل الأهم وهو تمكين المرأة كما سبقت الإشارة، على سبيل المثال.
وجدت دراسة أجريت بسلطنة عُمان في عام 1995، أن معدل الخصوبة الإجمالي للمرأة الأمية كان 8.6 لكن النساء الحاصلات على تعليم ثانوي حصلن على 3.8 في معدل الخصوبة الإجمالي.
في حين أن معدلات الخصوبة الإجمالية أصبحت أقل بكثير، فإن عدد النساء في سنوات الإنجاب لا يزال مرتفعاً في العالم العربي، وبالتالي فإن معدل النمو السكاني ينخفض بشكل أبطأ من معدل الخصوبة الإجمالي.
بحلول عام 2050، من المتوقع أن تتباطأ الزيادة في عدد السكان إلى حد الزحف.
كيف سينعكس ذلك على سوق العمل؟
من المرجح أن يخضع وضع سوق العمل في الشرق الأوسط لتغير جذري بحلول منتصف القرن عندما يتوقف عدد السكان في سن العمل عن النمو إلى حد كبير. في ستة من بلدان المنطقة العشرين، سينكمش عدد السكان الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و60 عاماً فعلياً بين عامي 2040 و 2050.
في إيران، سينكمش عدد السكان في سن العمل بنسبة 9% في ذلك العقد.
وسيزداد عدد السكان في سن العمل فقط بالبلدان التي بدأ فيها التحول الديموغرافي متأخراً: السودان، والعراق، واليمن. في الوقت نفسه الذي يتوقف فيه عدد السكان في سن العمل عن النمو بشكل كبير، ستبدأ أعداد كبار السن في الارتفاع، كما تمت الإشارة سابقاً.
سوف يؤدي ذلك ارتفاع أعداد كبار السن إلى انخفاض حاد في نسبة الأشخاص في سن العمل مقابل كبار السن، وهو المحدد الرئيسي لمدى العبء الذي يواجهه المجتمع لتمويل التقاعد.
بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط ككل، كانت نسبة السكان في سن العمل إلى كبار السن نحو تسعة منذ عام 1950، ووصلت إلى ذروتها عند 9.6 في عام 2000.
ومع ذلك بدأت النسبة في الانخفاض بشكل حاد بعد عام 2010، ومن المتوقع أن تنخفض إلى 3.2 في عام 2050. ستواجه إيران المشكلة الأكثر حدة، حيث ستنتقل من 9.2 شخص في سن العمل لكل شخص فوق 60 عاماً في عام 2000 إلى 2.2 فقط في عام 2050، بينما تسير إسرائيل بمعدل يبلغ 2.3 على طريق التكيف بشكل جيد من خلال تشجيع التقاعد في وقت متأخر ومزيد من المدخرات.
ومع ارتفاع البطالة في المنطقة وقلة نسبة عمل النساء ستزداد الصورة قتامة، فقد يكون عدد العاملين النشطين فقط نصف عدد الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و60 عاماً.
وهذا يعني أنه مقابل كل شخص يزيد عمره على 60 عاماً، سيكون لدى الشرق الأوسط في المتوسط 1.6 عامل نشط، وسيكون لدى إيران 1.1. سيكون هذا عبئاً لا يمكن تحمله على أنظمة التقاعد في المنطقة، والتي تعتمد على مساهمات أولئك الذين يعملون الآن لتمويل المدفوعات المقدمة للمتقاعدين.
بلد عربي مهدد بالانقراض
لبنان البلد الوحيد بالمنطقة الذي يُتوقع أن يشهد تراجعاً مبكراً في عدد السكان، حيث سينخفض عدد السكان بنحو 8% بحلول عام 2030. والبلدان الأخرى التي ستليه هي إيران وتونس والمغرب.
لا يمكن رصد حجم أزمة تراجع السكان في لبنان بدقة، في ظل غياب أي تعداد سكاني رسمي منذ آخر إحصاء أجراه الاحتلال الفرنسي عام 1932، بسبب الحساسيات الطائفية، إضافة إلى وجود أعداد كبيرة من اللاجئين، السوريين والفلسطينيين، بجانب إشكاليات بعض المتجنسين في لبنان، وحجم الهجرة اللبنانية الكبير للخارج، الذي لا يعرف ما هو دائم وما هو مؤقت منه.
وتمثل مسألة تراجع السكان حساسية خاصة في لبنان، في ظل المحاصصة الطائفية بالبلاد الموزعة المسلمين والمسيحيين بين الطوائف داخل الديانتين.
أظهر بحث نشرته مؤسسة المعلومات الدولية عام 2018، أن المسيحيين يشكلون 30.6% من اللبنانيين، بينما يشكل المسلمون 69.4%.
حسب آخر إحصاء رسمي أُجري في عام 1932، شكّل المسلمون 40% من السكان والمسيحيون 58.7%.
ولكن هناك اعتقاد بأن الطائفة السنية تحديداً تشهد تراجعاً كبيراً في السكان بسبب عوامل مختلفة، منها أن معدل التعليم وسكان الحضر أعلى لديها من الطائفة الشيعية التي مازالت أقرب للمرحلة الأقدم، حيث يوجد معدل إنجاب مرتفع مع معدل مواليد منخفض.
كما أن التطورات السياسية منذ اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري عام 2005 جعلت السُّنة أكثر إحباطاً وميلاً إلى الهجرة، خاصةً أن مناطقهم إما مناطق حضرية تتعرض لآثار الأزمة الاقتصادية أكثر من غيرها، وإما مناطق ريفية عديمة الموارد ومهملة.
قال محمد شمس الدين، الباحث بـ"إنفورميشن إنترناشيونال"، لموقع "Al-monitor" الأمريكي: "لا يمكن معرفة عدد المسيحيين من إجمالي عدد المسافرين والمهاجرين. يشكل المسلمون الأغلبية في لبنان، وأعتقد أنهم يمثلون الجزء الأكبر من المهاجرين".
بصفة عامة يؤدي ارتفاع مستوى التعليم والعلمنة والتغريب وعمل النساء في لبنان إلى تراجع الزيجات والمواليد بنسب أعلى من بقية العالم العربي، بينما تؤدي الأوضاع الاقتصادية المتأزمة إلى تشجيع الهجرة بشكل أكبر من أي بلد عربي، خاصةً أن المهاجر اللبناني مطلوب بفضل ارتفاع مستوى تعليمه المرتفع ومهاراته نسبياً.
إيران تخشى على هويتها الفارسية
إيران بدورها لديها مخاوف كبيرة من مسألة سيناريو التراجع السكاني، دفعتها إلى تغيير موقفها من مسألة زيادة السكان والسيطرة عليها.
عكست إيران موقفها الرسمي بشأن تنظيم الأسرة مرتين منذ الستينيات.
بعد فترة وجيزة من الثورة الإسلامية عام 1979، قامت إيران بتفكيك برنامج تنظيم الأسرة الذي وضعه نظام الشاه السابق، لأنه كان يُنظر إليه على أنه يخدم مصالح الغرب.
ولكن بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية في عام 1988، حولت الحكومة الإيرانية تركيزها إلى إعادة إعمار الدولة التي مزقتها الحرب. واعتبرت النمو السكاني السريع عقبة رئيسية أمام التنمية الاقتصادية للبلاد، وبدأت في تنفيذ أحد أنجح البرامج السكانية بالعالم النامي.
ولكن المسؤولين الإيرانيين باتوا قلقين من تراجع السكان، خاصة في أوساط القومية الفارسية المهيمنة والأكثر تحضراً والتي تشكل نحو 55% من السكان، وسط مخاوف لا يتم التعبير عنها صراحة من ارتفاع نسبة الأقليات الإثنية- خاصةً السنية- مثل الأكراد والبلوش والعرب والتركمان، في ظل تراجع محتمل أيضاً للأقلية الأذرية الشيعية التي بدورها تتشارك الهيمنة مع الفرس على البلاد، ولديها توجهات تراجع السكان نفسها، مثل الفرس باعتبار أن أذربيجان الإيرانية من أكثر مناطق البلاد ثراءً.