انطلق الحوار الوطني المصري، الثلاثاء 5 يوليو/تموز 2022، وسط تباين في المواقف بين متفائلين يتأملون بقدرته على إحداث حراك سياسي حقيقي، وبين متشائمين يرونه حواراً شكلياً يستبعد قوى رئيسية وهدفه إرضاء الغرب وليس إحداث تحول ديمقراطي حقيقي في البلاد.
وكان الرئيس المصري دعا نهاية أبريل/نيسان الماضي، خلال حفل إفطار الأسرة المصرية إلى حوار وطني بين النظام والمعارضة دون استثناء.
وأعقب هذه الدعوة إطلاق سراح العشرات من السجناء بقرارات قضائية وعفو رئاسي، وأبرزهم المعارضون يحيى حسين ومحمد محيي الدين ومجدي قرقر (محسوب على الإسلاميين) والناشط اليساري حسام مؤنس.
كيف جرت أولى جلسات الحوار الوطني المصري؟
وقال المنسق العام للحوار الوطني، نقيب الصحفيين ورئيس هيئة الاستعلامات المصرية، ضياء رشوان في بداية جلسة الحوار الوطني التي انطلقت اليوم الثلاثاء، إن "الحوار الوطني يسعى إلى إرساء مبادئ الديمقراطية في الجمهورية الجديدة"، حسب تعبيره.
وأوضح رشوان أن انعقاد مجلس الأمناء هو "البداية الرسمية لأعمال وفعاليات الحوار الوطني، حيث ينظر مجلس الأمناء خلال جلسته الأولى في "تفاصيلها ومواعيدها ويتخذ القرارات اللازمة بشأنها، ويعلنها للرأي العام، ليتيح له التفاعل مع الحوار والمشاركة فيه بمختلف الوسائل المباشرة والإلكترونية".
واستطرد: "سنرفع تشريعات وخطوات تنفيذية للرئيس في نهاية جلسات الحوار الوطني، فالتوافق هدف رئيسي، وما لم نصل إليه ستكون هناك بدائل".
ويعد هذا أول حوار وطني في عهد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وتغلب على الحوار شخصيات من مؤيدي جبهة 30 يونيو/حزيران 2013، التي مهدت لتظاهرات في ذلك اليوم أطاحت بالرئيس السابق الراحل المنتمي للإخوان محمد مرسي.
ورغم بوادر الانفتاح وسلاسة الاتصالات، تحرص الرئاسة على فرض رقابة صارمة على تنظيم هذا الحوار، حسب وصف موقع Africa Intelligence الفرنسي، حيث تُعقد جلسات الحوار في "الأكاديمية الوطنية للتدريب"، وهي معهد للتدريب على القيادة تأسس عام 2019 بالشراكة مع مدرسة التدريب لكبار المسؤولين الفرنسيين، المدرسة الوطنية للإدارة (ENA)، وتتبع رئيس الجمهورية.
وبعد مفاوضات وأنباء متضاربة، تم الإعلان عن تشكيل مجلس أمناء الحوار الوطني المصري المكون من 19 عضواً وتقرر أن يكون نقيب الصحفيين، ضياء رشوان منسقاً عاماً للحوار.
وخلال الجلسة الأولى قال النائب أحمد الشرقاوي عضو مجلس النواب، إن المعارضة المصرية طرحت بعض الأسماء للمشاركة ويجلس نصفهم تقريباً على طاولة مجلس أمناء الحوار الوطني، حيث إن مجلس الأمناء تم اختياره بالتوافق وتلاحظ الرضاء العام لدى الرأي العام، وطالب الشرقاوي بكتابة لائحة بشكل سريع تحدد قواعد مجلس الحوار الوطني، معتبراً أن اللائحة تؤكد أن مجلس أمناء الحوار الوطني هو المختص والمهيمن الوحيد على شؤون الحوار الوطني.
وقال الكاتب الصحفي عبد العظيم حماد إنه بصفته أحد ممثلي الحركة المدنية (التي يفترض أنها تمثل المعارضة) يتقدم بالشكر للسيد رئيس الجمهورية للدعوة الحوار الوطني، موضحاً أهم النقاط التي حُددت بعد اجتماعات الحركة المدنية الديمقراطية، حيث يرى أن تشكيل مجلس أمناء الحوار الوطني استوفى المطلوب منه ويلقى توازناً بين ممثلي الجهات، لافتاً إلى أن الحركة المدنية تؤكد أنه لا يجب أن يبدأ الحوار إلا بالإفراج عن المحبوسين في قضايا الرأي، مؤكداً أن الحركة المدنية لم ولن تدعو أي جماعة لم تعترف بدستور 2014 والوضع السياسي الحالي، أو استخدمت أي أعمال عنف.
وقال رئيس الأمانة الفنية للحوار الوطني، المستشار محمود فوزي، إن "أبرز القضايا التي وصلت من مكاتبات ومراسلات الجمهور في المحور السياسي، هي الملفات الخاصة بالأحزاب السياسية، وحقوق الإنسان، وقضايا المحليات، والإصلاح التشريعي، والأمن القومي والسياسة الخارجية".
وأشار إلى أن الأكاديمية الوطنية للتدريب، وجهت أكثر من 500 دعوة للمشاركة في الحوار.
استثناء الإخوان رغم دعوة الرئيس لعدم الاستثناء
وكان الرئيس المصري قد طالب في دعوته خلال رمضان الفائت، إلى أن "يكون الحوار الوطني مع كل القوى من دون استثناء ولا تمييز".
وثارت آنذاك العديد من التساؤلات في شأن ما إذا كان الحوار سيكون بداية لعودة جماعة الإخوان إلى المشهد السياسي، وبدت كثير من الاعتراضات في الإعلام المصري على طرح وجود الإخوان على طاولة الحوار، ومن أبرزها تعليقات للمذيعين البارزين عمرو أديب وأحمد موسى، لكن منسق الحوار الوطني ضياء رشوان حسم الجدل بالتأكيد أن جماعة الإخوان خارج الحوار، بدعوى"تلوث أيديهم بالدماء ودعوتهم للعنف، وأن القضاء وصفهم بالجماعة الإرهابية". ولكن لفت رشوان إلى أن هناك أطرافاً منتمين لجماعة الإخوان المسلمين، أو قريبين منها يريدون المشاركة في الحوار الوطني.
وقد شارك في الحوار ناجح إبراهيم القيادي السابق بالجماعة الإسلامية التي أجرت مراجعات كبيرة لدورها في العنف، ثم تحالفت مع الإخوان، ولكن ناجح كانت أغلب مواقفه في السنوات الماضية أقرب للدولة والقوى الليبرالية وبعيدة عن مواقف الإسلاميين.
البرادعي لم يشارك
ومن الواضح أنه لم يتم استبعاد الإخوان فقط، إذ لم يشارك في الحوار الوطني محمد البرادعي، الذي قاد ما يعرف بجبهة الإنقاذ الوطني، التي تزعمت المعارضة ضد حكم الرئيس محمد مرسي، وكان طرفاً أساسياً في الاجتماع الذي عُقد بين من اعتبروا ممثلين للمجتمع في 3 يوليو/تموز 2013، وانتهى بقرار عزل محمد مرسي وتولية رئاسة الجمهورية لرئيس المحكمة الدستورية العليا في ذلك الوقت المستشار عدلي منصور، كما شغل البرادعي لفترة منصب نائب رئيس الجمهورية خلال الفترة الانتقالية.
ورأى أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، حسن نافعة، لموقع "إندبندنت عربية" أنه من الضروري تعريف من هم أعضاء الإخوان، وتحديد موقف شخصيات مثل المرشح الرئاسي السابق عبد المنعم أبو الفتوح، الذي لم يعارض ثورة 30 يونيو/حزيران وشارك في النقاشات السياسية قبل وبعد نجاح الثورة، بحسب قوله، مضيفاً أنه يجب تحديد موقف المنشقين عن الجماعة، مثل حزب الوسط، كذلك بعض التيارات السلفية. وأكد أن هناك ضبابية في ماهية المدعوين للحوار وأسباب الدعوة.
كما أن بعض الشخصيات المعارضة اليسارية مثل علاء عبد الفتاح ما زال معتقلاً.
كيف يمكن تصنيف المشاركين في الحوار الوطني؟
وبصفة عامة، فإن المشاركين في الحوار الوطني يمكن تقسيمهم لثلاث فئات، الأولى هم بعض النشطاء والمهتمين بالقضايا الحقوقية، والذين اهتمامهم الأساسي بفكرة تخفيف القبضة الأمنية بالأخص في الملف الحقوقي، كما أن التوجهات الاجتماعية الليبرالية بدأت تصعد مكانتها في أجندتهم تأسياً بالغرب، مثل حقوق المثليين، والحريات الشخصية، وغيرها، وهم بالتالي يتطلعون لتحقيق مكاسب في هذا الاتجاه الذي لا يمثل حساسية كبيرة للنظام مثل الحريات السياسية.
والفئة الثانية هي بعض القوى التي تصنف كمعارضة رغم أن البعض يراها تقوم بدور توزيع أدوار وأنها تابعة للنظام بدرجات متفاوتة، علماً بأن بعضها مثل حزب الوفد (أعرق الأحزاب المصرية)، كان قد تراجع دوره في السنوات الأخيرة، رغم أنها لم تبد أي توجهات معارضة قوية.
والفئة الثالثة، قوى تمثل ما يمكن تسميته "معارضة الداخل الحقيقية"، وهي قوى في أغلبها كانت جزءاً من تحالف 30 يونيو/حزيران 2013، وهي تتطلع لتوسيع هامش الحريات والعمل السياسي مع علمها بأنه لن يُحدث تغييراً جذرياً، ويمكن القول إنها تتطلع لتوسيع مساحة السياسية لتعود لما كانت عليه في عهد الرئيس الراحل حسني مبارك الذي كانت تنتقده.
ويمثل حمدين صباحي الذي بادر الرئيس المصري بدعوته لإفطار الأسرة المصرية في رمضان الفائت، وصافحه، حالة وسط بين الفئتين الأخيرتين، فهو يقدم من قبل جزء من المعارضة وأحياناً النظام كزعيم للمعارضة.
واللافت في تاريخ الرجل الذي دخل حزبه الكرامة البرلمان بعد ثورة يناير/كانون الثاني من خلال قوائم التحالف الديمقراطي الذي قاده الإخوان المسلمين في عام 2011، أنه شهد تغييراً لافتاً بعد ثورة 30 يونيو/حزيران 2013، حيث كان مرشحاً ضد الرئيس السيسي في انتخابات 2014، وحصل على المركز الثالث، بعد أن نالت الأوراق البيضاء أو الباطلة المركز الثاني بعد السيسي، الذي فاز في الانتخابات، ونظرت المعارضة المصرية لهذه الانتخابات نظرة ريبة، ويعتقد أنها قاطعتها بشكل واسع، ومثلت مشاركة حمدين صباحي نوعاً من توفير الشرعية لها في نظر منتقديه.
كما أن مواقفه كانت خافتة في الأحداث المفصلية مثل نقل السيادة على جزيرتي تيران وصنافير، للسعودية، وأحياناً غير موجودة، فيما لم يتعرض هو أو حزبه لأي مضايقات أمنية تذكر، ولكن دوره تراجع بشكل طوعي، بعدما كان يعتبر نفسه شريكاً في نظام 30 يونيو/حزيران، كل هذا يجعله زعيماً مثالياً للمعارضة بالنسبة للنظام على الأرجح، يصعد دوره في فترات الانفتاح المنضبط أو حتى في ظل حال حدوث أي فوضى مفاجئة.
دوافع الحوار تحدد نتائجه المتوقعة على المدى القصير
لمحاولة توقع آفاق الحوار، ونتائجه المحتملة، يجب معرفة ظروفه، ودوافعه.
فمن الواضح أن أبرز دوافع حكومة الرئيس السيسي للحوار، هي الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد، والتي وصلت إلى حد أن الإعلاميين المحسوبين على النظام يطالبون الناس بعدم الذهاب للمصايف توفيراً للنفقات، ويعترفون بأن موارد الدولة بأكملها مخصصة لسداد فوائد وأقساط الديون في وقت أغلقت الأزمة الأوكرانية صنبور الأموال الساخنة القادمة من الخارج التي كانت تستفيد من ثبات سعر صرف الجنيه وفوائده العالية، مما جعل البلاد تواجه تحدياً كبيراً فيما يتعلق بقدرتها على تسديد القروض، وتوفير العملة الصعبة خاصة مع ارتفاع أسعار القمح والنفط المستوردين.
وأدى ذلك إلى وقف فعلي وإن كان غير رسمي من قبل الحكومة للواردات في العديد من السلع مثل السيارات وقطع غيارها.
وفي هذه الظروف سوف تحتاج مصر إلى دعم خارجي خاصة بعد أن استنزفت حصتها من قروض صندوق النقد الدولي، وهذا الدعم سوف يأتي على الأرجح من دول الخليج والغرب.
ومن هنا فإن الحوار يحقق غرضين مهمين للنظام، الأول توفير غطاء لعملية بيع الشركات الحكومية لدول الخليج.
والثاني، إظهار قدر من الانفتاح على المعارضة، مما يؤدي إلى تخفيف الضغط الغربي في ملف حقوق الإنسان خاصة أن هذه المسألة تحظى بأولوية لدى إدارة الرئيس الديمقراطي جو بايدن الذي اكتشف بعد توليه السلطة أنه لا غنى عن منطقة الشرق الأوسط ولا مصر ولا تركيا والسعودية تحديداً كدول رئيسية بها.
وبالتالي فإن هذا الحوار قد يسّر عملية تقديم مساعدات من قبل الدول الغربية لمصر، ورفع الحرج عن الحكومات الغربية وهي تحرر الشيكات للقاهرة.
كما أن هناك غرضاً ثالثاً مرجحاً للحوار، هو اقتراب قمة المناخ التي تستضيفها مدينة شرم الشيخ المصرية، الخريف القادم، حسبما قال موقع Africa Intelligence الفرنسي، الإثنين 4 يوليو/تموز 2022.
وترتبط هذه القمم عادة بتظاهرات واحتجاجات لقوى معارضة في العالم، وتتحول لفلكلور للحريات، مما يتطلب تحسين صورة مصر في ملف الحريات والحقوق السياسية قبل القمة.
لا يعني هذا بالضرورة أن المكتسبات المحدودة التي قد تحققها المعارضة قد يسحبها النظام فور مرور الظروف الطارئة التي دفعه لإطلاق الحوار الوطني، وقد يسحب جزءاً منها ويبقي على جزء آخر.
ماذا يستفيد الطرفان من الحوار؟
لا يعني ما سبق أن نتائج هذا الحوار، سوف تكون تجميلية فقط، وأن كل المشاركين فيه هدفهم ذلك.
بالنسبة للطرفين الحكومة والمعارضة، الحوار له فوائد عدة، حيث يمثل فتح المجال السياسي ولو قليلاً، فرصة لتخفيف الآثار الاقتصادية المتوقعة للأزمة، وإشراك للمعارضة في الحوار حول مثل هذه القرارات يجعل تمريرها ممكناً أكثر.
فوجود قدر من التضامن الوطني في لحظات الأزمات الاقتصادية، مسألة مهمة، وقد تساعد في تمرير العديد من القرارات الضرورية الصعبة.
على الجانب الآخر، فإن جزءاً من المعارضة الحقيقية التي تشارك، في الحوار، ترى فيه فرصة لفتح ولو بقدر محدود للمجال السياسي، خاصة أن جزءاً كبيراً من المعارضة المصرية بطبيعتها كانت لا قادرة ولا تستطيع الوصول للحكم ولا راغبة فيه أحياناً.
ففي غياب أحزاب قوية في البلاد منذ ثورة يوليو/تموز 1952، فإن المعارضة المصرية يقودها مثقفون وصحفيون وبرلمانيون معارضون بشكل غير منظم، وكان مجال نشاطهم الأساسي هو انتقاد الأنظمة والعمل على توسيع نطاق الحوار السياسي في البلاد، بعيداً عن أي دور ملموس في الحكم حتى في ذروة اتساع هامش الحريات.
وبالفعل استطاعوا جذب قطاع كبير من الشباب لهذا الإطار من العمل السياسي الفضفاض، الذي أدى إلى ثورة يناير/كانون الثاني، وبعدها بدا واضحاً عدم قدرتهم على تشكيل أي إطار سياسي متماسك لخوض معترك العمل السياسي الأهم وهو الانتخابات، وكان أكبر حزب يوصف بالليبرالي، هو حزب المصريين الأحرار من تأسيس الملياردير نجيب ساويرس.
كما كان واضحاً، من خلال ممارستهم للعمل السياسي بعد يناير/كانون الثاني، أنهم يتفقون غالباً على ما يعارضونه، لا على ما يؤيدونه خاصة في ضوء انقساماتهم بين ليبراليين وقوميين ويساريين، فاجتمعوا جزئياً في بداية المرحلة الانتقالية على معارضة المجلس العسكري، ثم توافقوا بشكل غير مسبوق على معارضة الإخوان.
وبالتالي فإن الهدف الواقعي للمعارضة السياسية المصرية المقيمة في الداخل، ليس مشاركة في السلطة أو منازعة النظام عليها، بل في الأغلب توسيع هامش الحريات والتعبير، وأن يحصلوا على الحد الأدنى من حقهم في النصح وحتى الانتقاد (خاصة في ضوء قلقهم من الوضع الاقتصادي)، وقد يصل الأمر إلى بعض العمل السياسي في ساحات مثل النقابات أو السماح بفوز بعض الشخصيات المعارضة ببضع دوائر برلمانية.
وحتى لو لم يصل الأمر لهذه المكاسب، فإن إطلاق سراح بعض المعتقلين يظل مكسباً لا يقدر بثمن خاصة على المستوى الإنساني.
في المقابل، بالنسبة للنظام وخاصة بعض الأجهزة الأمنية ذات الخبرة، فإن مثل هذا التوجه ما دام محكوماً، فإنه مفيد في تجنب أي انفجار مفاجئ، لا يمكن رصد آثاره في حال الكبت الشديد،
وفي الأغلب بات النظام واثقاً من أن القمع القريب الذي مازال حياً في ذاكرة المصريين، سوف يحد من تجرؤ المعارضة على تخطي الخطوط الحمراء، ولاسيما أن المصريين جميعاً معارضة وموالاة، وفي الداخل والخارج على السواء، منهكين اقتصادياً ومعنوياً.
هل يؤدي الحوار الوطني المصري إلى تغيير حقيقي؟
اللافت أنه على المدى البعيد أيضاً فإن هذه المقاربة على عيوبها، قد يكون مفيدة لمصر برمتها.
فعلى عكس النظرة الكلاسيكية السائدة في أوساط المعارضة بالدول العربية، فإن معظم الديمقراطيات الناجحة لم تأت من ثورات جامحة تطيح بالأنظمة المستبدة، لأن مثل هذه الثورات وإن كانت تطالب بالديمقراطية فإن أغلبها يؤدي إلى الفوضى أو الاستبداد، لأن الثورات، وإن كانت تأتي بالحرية، فإنها أيضاً تأتي بفكرة الإطاحة بالقوانين الظالمة، ومحاولة فرض رأي الشارع بدلاً من رأي الحاكم المستبد، وهذه الفوضى قد تدفع المجتمع ولا سيما أطرافه المحافظة للبحث عن مستبد جديد لإنهاء الفوضى (مثلما حدث في فرنسا بعد الثورة الفرنسية، وروسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وتونس حالياً، حيث هناك تقبل جزئي لاستبداد قيس سعيد بسبب صراعات المعارضة وتدهور الوضع الاقتصادي).
في حين أن الديمقراطية السوية، ليست رأي الشارع ولا رأي الحاكم المستبد، بل هي رأي الجمهور عبر صندوق الاقتراع ومن خلال الالتزام بالنظام والقانون.
فالديمقراطية تتطلب الحرية والقانون معاً، بينما الثورة تحبذ الحرية على حساب القانون أحياناً.
وأغلب حالات التحول الديمقراطي جاءت من عمليات التطور التدريجي وليس الثوري، فحتى في ظل الحكم غير الديمقراطي، فإن وجود قدر من احترام القانون وحرية التعبير، يمكن أن يؤدي بدوره لتوسيع هامش الحريات رويداً رويداً، لأن القانون حتى لو كان ظالماً يفرض بعض القيود على أدوات القمع، خاصة إن لم يشعر النظام بالخطر من هذا التوسع البطيء.
وفي الوقت ذاته، تمكن قبضة الأنظمة القوية من تمرير بعض القرارات الإصلاحية الاقتصادية والاجتماعية الصعبة، كما يمكن أن يفضي القليل المتاح من احترام القانون والحريات لحماية المجتمع من بعض أخطاء هذه الإصلاحات، كما أن تحسن الوضع الاقتصادي جراء الإصلاحات الصعبة يعزز الطبقة الوسطى التي بدورها تتمسك بهامش الحريات المحدود وتسعى لتوسيعه، وتتشبث بالقوانين الموجودة على عيوبها وتتطلع لتحسينها.
كما أن تبديد التوترات من خلال التوسيع المحدود للحريات، وتقليل القمع، يؤدي لتهدئة العداوات والغضب الكامن بين الأطراف السياسية تجاه بعضها البعض وبين المعارضة والسلطة.
عملية التطور هذه بطيئة، وقد تستغرق عقوداً وقد تستمر عبر أكثر من عهد رئاسي، وقد تتعرض لنكسة إذا قرر الحاكم العودة عن هذا المسار، ولكن إذا وجد الحاكم منافع في هذا المسار شبه الديمقراطي فسيكون هناك احتمال بشكل أكبر أن يفضل البقاء فيه، بدلاً من المخاطرة بنقضه بشكل قد يؤدي إلى فوضى.
في كل الأحوال يبدو هذا المسار على عيوبه أقل في مخاطره من الاستبداد الكامل غير المجمل أو الديمقراطية الفوضوية.