على وقع التوترات الإقليمية الجارية والتحديات الكبرى التي يشهدها ملف أمن الطاقة في شرق المتوسط، جاء إطلاق مسيرات حزب الله الثلاثة تجاه حقل كاريش؛ ليثير كثيراً من التوترات والتساؤلات حول دلالات هذه الخطوة والرسائل التي أراد الحزب توجيهها.
يأتي هذا في وقت بدأت فيه إسرائيل العمل على التنقيب بالحقل بعد موقف لبنان الرسمي بالتخلي عنه مقابل الخط 23 الذي يتضمن حقل قانا، بناءً على ما جرى تسليمه للوسيط الأميركي آموس هوكشتاين في زيارته الأخيرة للبنان.
وتشير أوساط متابعة إلى أن هذا الحدث من حيث التوقيت، يرتبط بانعقاد الاجتماع التشاوري العربي في بيروت، ويأتي بعد أيام من اتصال آموس هوكشتاين بالمسؤولين اللبنانيين لتقديم الجواب الإسرائيلي والذي يرفضه لبنان. ولا تنفصل عملية إطلاق هذه المسيرات عن الطريقة المعتمدة التي يبعث بها الحزب رده بالرفض.
كذلك جاءت العملية بالتزامن مع جولة السفيرة الأمريكية على المسؤولين اللبنانيين لوضعهم في أجواء مباحثات هوكشتاين مع الإسرائيليين؛ ما يعني أن الحزب لا يزال في خانة الرافضين للمخرجات التي توصل اليها هوكشتاين.
مسيرات حزب الله
تشير مصادر مقربة من حزب الله لـ"عربي بوست" إلى أن الحزب أراد من خلال هذه الرسالة توجيه رسالة للجانب الإسرائيلي مفادها أن الرد والمماطلة الإسرائيلية في ملف ترسيم الحدود ليس إلا من باب انتزاع ثروات لبنان.
وأوضح المصدر أن الحزب كان يقصد من خلال هذه المسيرات توضيح إمكانياته وقدراته في الوصول إلى هذا العمق، كتأكيد على رسائله السياسية والعسكرية، وأن الرسالة وصلت للجانبين الإسرائيلي والأمريكي أيضاً.
بالتوازي يشير المحلل السياسي داوود رمال لـ"عربي بوست" إلى أن أهم الرسائل التي أرسلها الحزب هي نوعية كل مُسيرة من المُسيرات الثلاث والمدى التي يمكن أن تصلها في التحليق والارتفاع عن سطح البحر والوزن والحمولة والكاميرات التي تم تزويدها بها، فضلاً عن المحركات وباقي تفاصيل كل واحدة منها وما تتضمنه من نظم التشغيل والمناورة وبث الصور.
وأوضح أن هذه القدرات تخص ثلاث مسيرات "غير مسلحة"، أي ليس وظيفتها أن تُفجر نفسها في أهداف محددة ولا أغراض عسكرية مباشرة من وراء إطلاقها.
إطلاق هذه المسيرات -بحسب رمال- كان يضعها أمام احتمال من اثنين. الأول أن تحلق فوق الحقل لفترة زمنية معينة وتعود إلى قواعدها سالمة، وعندها يُعلن حزب الله عن "العملية" ويبث صوراً وفيديوهات التقطتها الطائرات، وهذه رسالة بحد ذاتها لإسرائيل وللشركات الدولية التي تُنقب في المكان.
الاحتمال الثاني هو إسقاط جزء منها وعودة جزء آخر أو إسقاطها كلها وهذا ما حصل، وعندها سيعتبر حزب الله أن المُسيرات "أنجزت المهمة المطلوبة وكذلك وصلت الرسالة"؛ كما جاء في بيانه حرفياً.
وعليه يشير المصدر المقرب من حزب الله إلى أن تلك المسيّرات، وقبيل إسقاطها، أنجزت جزءاً كبيراً من مهامها العملياتية بما فيها إجراء مناورات بحرية؛ إذ استطاعت أن تستكشف المسار نحو حقل كاريش، وأن تختبر طبيعة رد الفعل الإسرائيلي، إضافة إلى أنها زودت غرفة عمليات الحزب بالمعلومات والصور التي بدأت بالتقاطها منذ اللحظات الأولى لإقلاعها.
حزب الله ورسائل التهديد
ويشير المصدر نفسه إلى أن حزب اللهً أراد القول للجانب الإسرائيلي إنه واضح وجدي في التهديدات التي أطلقها أمينه العام حسن نصرالله برفض الحزب قيام إسرائيل بأي نشاط أو تنقيب لاستخراج الغاز من حقل كاريش قبيل توقيع الاتفاق مع الدولة اللبنانية حول ترسيم الحدود البحرية، لأنّ تلك المنطقة -وفق حزب الله- لا تزال منطقة متنازعاً عليها بين الجانبين.
وأضاف أن الحزب كأنه يقول إنه حتى لو جنح لبنان بشكل رسمي لتبليغ الوسيط الأمريكي أن الخط 29 هو خط تفاوضي، فهذا يعني أنه لا تجوز مباشرة العمل فيه قبل انتهاء المفاوضات والتفاهم مع الحكومة والدولة على شكل الحدود والخرائط النهائية.
وبالتالي، فإنّ العملية كانت تهدف إلى توجيه رسائل تحذيرية بوقف أي نشاط تنقيبي في كاريش حتى الانتهاء من كل شيء.
وفي الإطار نفسه، يرى المصدر أن أحد أهداف إطلاق المسيرات يكمن في القول للجانب الأمريكي والذي يتولى الوساطة بين لبنان والجانب الإسرائيلي لإعادة تكثيف نشاطه والكف عن المماطلة التي لا يستفيد منها سوى الجانب الإسرائيلي، وتزويد الحكومة اللبنانية بأجوبة واضحة قبيل زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن للشرق الأوسط، والذي يسعى لمساعدة إسرائيل في الخروج من أزمتها الحكومية على حساب باقي مكونات المنطقة وثرواتها.
بالمقابل، يرفض المصدر المقرب من الحزب محاولات المزايدة من قبل بعض المسؤولين على حزب الله، وتحديداً الموقف الذي خرج من اجتماع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ووزير الخارجية عبدالله بو حبيب، لأن حزب الله -وفقاً للمصدر- أراد من المسيرات الثلاث تعزيز موقف وموقع الدولة اللبنانية التفاوضي، على قاعدة عدم القبول بمفاوضات من موقع ضعف.
وبالتالي، فإن سلاح الحزب قادر على تقوية موقف لبنان وفرض توازن ردع مع الجانب الإسرائيلي.
تهديدات إسرائيلية.. واتصالات فرنسية
بالمقابل، تتوالى التهديدات الإسرائيلية لحزب الله -وفق تصريحات مسؤولين إسرائيليين- بعد إطلاق الحزب لثلاث مسيّرات باتجاه حقل كاريش، وإثر إجراء تحقيقات داخل الجيش الإسرائيلي حول الفشل أو التباطؤ في إسقاط هذه الطائرات.
ويجري رئيس الحكومة الإسرائيلية يائير لابيد زيارة إلى باريس يبحث خلالها الملفين الإيراني واللبناني. وسيبحث لابيد مع الفرنسيين الضغط على لبنان وحزب الله بعد إطلاق المسيرات.
وتشير مصادر دبلوماسية إلى أن الزيارة كانت مقررة مسبقاً، وسيجري التركيز حول الملف النووي الإيراني، بالإضافة إلى توقعات بمطالبة إسرائيلية للفرنسيين بالسعي مع لبنان لوقف أي تصعيد أو توتر على الحدود الجنوبية.
وتشير المصادر الدبلوماسية لـ"عربي بوست" إلى أن مسؤولين فرنسيين أجروا -إثر إطلاق الحزب للمسيرات- اتصالات مع قيادات من حزب الله لاستطلاع مواقف الحزب والأسباب التي دفعت لتوتير الوضع في البحر.
ويشير المصدر إلى أن الحزب أكد للفرنسيين أنه ليس من الوارد فتح حرب على الجانب الإسرائيلي، لكنه حريص على توجيه رسائل تحذيرية ترفض المساس بثروات لبنان النفطية.
المسيرات كأداة جديدة؟
بالتوازي، يشير الباحث اللبناني ربيع دندشلي إلى أن حزب الله أدخل المسيرات إلى نطاق الخدمة في حرب يوليو/تموز 2006، وهي مسيرات إيرانية جرى تطويرها بين لبنان وسوريا؛ إذ يعمل حزب الله على تطوير هذه الطائرات تقنياً في مصانع في لبنان، لكن المواد الأولية والتصنيعية يجري نقلها من إيران لسوريا ومنها عبر الحدود مع لبنان، حيث يجري العمل بشكل مستمر على تطوير أدائها وتجريبها في السماء اللبنانية.
ويرى دندشلي أن الجانب الإسرائيلي بات يدرك خطورة هذا النوع من السلاح، فهو سابقاً وقبيل اندلاع ثورة 17 تشرين 2019، قام بإرسال مسيرات إلى منطقة الضاحية الجنوبية لبيروت حيث استهدفت غرفة عمليات لتطوير وتشغيل الطائرات المسيرة وتحليل بياناتها.
وكانت تقارير إسرائيلية أشارت سابقاً إلى وجود مدرج بطول 200 متر في جرود الهرمل، خصصه الحزب لإطلاق نوع من الطائرات بحاجة لمدرجات، في إشارة للمسيرات.