يبدو نجاح اليابان في مواجهة جائحة كورونا، غريباً بالنظر إلى أن الحكومة اليابانية لم تصدر أي إلزامات بارتداء الكمامات أو تناول اللقاحات أو تلجأ إلى الإغلاقات أو المراقبة الجماعية، وإنما اكتفت بإفساح المجال لـ"ضغط المجتمع المحيط".
ولا شك أن العديد من العوامل ساهمت في هذه النتيجة في اليابان، مثل نظام الرعاية الصحية القوي وقوانين الحدود الصارمة التي تفوقت على نظيرتها في عديد من البلدان الأخرى.
لكن التوافق الاجتماعي، والخوف من الحرج العلني الذي يُغرس في الناس منذ طفولتهم، كان عنصراً رئيسياً في نجاح اليابان النسبي في الوقاية من كوفيد، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
فغالبية السكان تبعوا بعضهم بعضاً في الاستجابة لتوجيهات الخبراء الذين شجعوا الناس على ارتداء الكمامات وتجنب الأماكن المزدحمة سيئة التهوية.
وحين بدأت اليابان حملات التطعيم، تلقى ما يقرب من 90% من الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 65 عاماً، وهم الفئة الأكثر عرضة لخطر الإصابة، الجرعات المعززة، دون أي ضغوط حكومية.
سر نجاح اليابان في مواجهة جائحة كورونا.. الشرطة الذاتية
يقول كازوناري أونيشي، الأستاذ المساعد في الصحة العامة بجامعة سانت لوك الدولية في طوكيو: "في اليابان، لو طلبت من الناس أن ينظروا يميناً، فكلهم سينظرون يميناً".
وأضاف الدكتور أونيشي: "بشكل عام، أرى أن التأثر بالآخرين وعدم تبني وجهة نظر شخصية ليس بالأمر الجيد. لكنه كان كذلك أثناء الجائحة".
وكثيراً ما كان الناس يبلغون عن بعضهم أو عن المحال التجارية التي تخالف طلبات البلدية بالإغلاق المبكر أو التوقف عن تقديم الكحول خلال فترات الطوارئ المحددة.
يقول يوكو هيراي، الذي يعمل في قسم الاستجابة للطوارئ في أوساكا، ثالث أكبر محافظة في اليابان: "تلقينا العديد من البلاغات عن المتاجر المفتوحة، حتى إننا بدأنا نطلق على هذه الظاهرة (الشرطة الذاتية). فقد كان الناس يدركون بالتأكيد أن عيون المجتمع عليهم".
الأمر يغرس منذ الصغر
وعادة التوافق مع المجتمع المحيط تُغرس في أطفال المدارس، الذين يرتدون زياً موحداً في معظم المدارس العامة ويخجلون من مخالفة المجموعة. تقول نعومي أوكي، الأستاذة المساعدة في الإدارة العامة في جامعة طوكيو: "مجرد استبعادك من المجموعة مشكلة كبيرة للأطفال اليابانيين. فهم يريدون دائماً الانتماء إلى مجموعة ولا يريدون الشعور بالعزلة".
فالأطفال يتعلمون التصرف بما يفيد الجماعة. فينظف الطلاب أرضيات الفصول والمدرسة ويتناوبون على تقديم الغداء في المقصف.
والثقافة اليابانية تعتمد أيضاً على أخلاقيات الانضباط العلني التي قد تتحول إلى مبادرة جماعية. فحين كان الإمبراطور هيروهيتو يحتضر عام 1988، أجَّل المطربون حفلات الزفاف وألغت المدارس المهرجانات.
وبعد النقص الكبير في الكهرباء الذي نتج عن كارثة 2011 النووية في فوكوشيما، رشّد الناس استهلاك الكهرباء من تلقاء أنفسهم.
يقول جيمس رايت، عالم الأنثروبولوجيا في معهد آلان تورينغ في لندن الذي درس تعامل اليابان مع فيروس كورونا، إنه أثناء الجائحة، استغل الساسة "ثقافة الانضباط الجماعي من أجل الصالح العام".
الوفيات انخفضت والمجتمع لم يرحم المخالفين
ورغم ثقافة الجماعة السائدة في اليابان، تفاجأ الدكتور هيتوشي أوشيتاني، أستاذ علم الفيروسات بجامعة توهوكو في شمال شرق اليابان والمستشار الحكومي، حين أغلقت المحال التجارية أبوابها بسرعة وامتنع الناس عن الخروج. والشركات التي لم تسمح يوماً بالعمل عن بُعد أرسلت الموظفين إلى منازلهم بأجهزة كمبيوتر محمولة. وألغت العائلات زيارات الأقارب كبار السن. وأصدرت ما يقرب من 200 مجموعة تمثل المسارح والفرق الرياضية المحترفة وصالات حفلات الزفاف والجنازات قوائم بروتوكولات طويلة للوقاية من الإصابة.
وامتثل الناس للإرشادات العامة، وانخفض معدل الوفيات الإجمالي بالفعل.
ومن حاولوا مخالفة هذه التوجيهات لم يرحمهم المجتمع. فقد أبقى توشيو ديت، الذي يدير مقهى في أوساكا مخصصاً لألعاب غو وشوغي اللوحية، مقهاه مفتوحاً حين طلبت المدينة إغلاق المطاعم والحانات وغيرها من الأنشطة الترفيهية.
وحين بدأت محطات التلفزيون المحلية طلب تصوير المقهى باعتباره شذ عن القواعد المجتمعية، فهم ديت (58 عاماً) الرسالة وأغلقه سريعاً. وحتى بعد استقرار الإصابات في أوساكا، التي سجلت أعلى معدل وفيات في اليابان، وإعادة فتح المحال التجارية، قال إن الغرباء كثيراً ما يوبخونه لاستضافته أعداداً كبيرة جداً من الزبائن.
الحكومة كان دورها الدعم دون عقوبات
وبينما بدا أن الشعب هو الذي استخدم العصا فإن الحكومة هي التي عرضت الجزرة في شكل إعانات اقتصادية للشركات.
فعام 2020، قدمت البلاد إعانات تفوق قيمتها 40.5 مليار دولار لأكثر من 4.2 مليون شركة صغيرة إلى متوسطة الحجم وملاك الشركات الأفراد، وفقاً لإحصاءات وزارة الاقتصاد والتجارة والصناعة اليابانية.
وتلقت الشركات الأكبر حجماً "أموال تعاون" حسب عائداتها قبل انتشار الجائحة، بمبالغ تصل قيمتها إلى 200 ألف ين- أقل بقليل من 1500 دولار- يومياً.
على أن الخبراء يحذرون من أن الامتثال الطوعي لا يضمن النجاح الدائم.
يقول الدكتور أوشيتاني: "هذا يشبه لعبة ريفرسي"، التي يمكن لحركة واحدة فيها أن تحول فوزاً إلى خسارة. وقال: "وفجأة، قد تتحول أنجح دولة في العالم إلى أفشل دولة في العالم".
أما في الوقت الحالي، فالناس مستمرون في الرضوخ لضغط المجتمع المحيط.
تقول كاي كوبي (40 عاماً)، موظفة استقبال في مكتب في شيبويا، إنها ترتدي كمامتها دائماً في العمل لأن وظيفتها تعتمد على التعامل المباشر مع الزبون.
قالت: "لا يزال جميع من حولنا يرتدونها. ولهذا يصعب التخلص منها".