دخلت الحرب الروسية في أوكرانيا شهرها الخامس، تعقّدت فيها إمدادات الطاقة العالمية، في وقت بات أمن الطاقة في دول الاتحاد الأوروبي على المحك. وأصبحت الطاقة اليوم، خاصة الغاز الطبيعي، ضمن السلع النادرة في عديد الدول داخل التكتل الأوروبي، كما صرح وزير الطاقة الألماني روبرت هابيك، مؤخراً.
ومن المقرر أن يخلق النظام العالمي الجديد بعد الغزو الروسي رابحين وخاسرين جدداً في مجال الطاقة، مع تغير التدفقات التجارية. ولا تزال روسيا تتلقى ما يقرب من مليار دولار من عائدات النفط والغاز كل يوم، مع استمرار أوروبا في شراء الغاز الروسي، في الوقت الذي يُخشى فيه من احتمال قيام موسكو بقطع إمدادات الغاز بالكامل.
مستقبل مظلم لإمدادات الطاقة
لم تأتِ تصريحات هابيك من فراغ، إذ تراجعت إمدادات الغاز الطبيعي في أوروبا بنسبة 60% حالياً عما كانت عليه مطلع يونيو/حزيران الماضي، عبر خط الغاز نورد ستريم 1.
وتعاني أكثر من 10 دول أوروبية من شح في إمدادات الغاز الروسي، وسط سعي للمفوضية الأوروبية للبحث عن مصادر متنوعة من الطاقة، إلا أن الموردين ملتزمون بعقود طويلة الأجل مع مستهلكين معظمهم خارج التكتل.
ويبدو أن أمن الطاقة في عديد من الدول الأوروبية سيواجه مستقبلاً أكثر قتامة من اليوم، مع إعلان شركة غازبروم الروسية أنها ستجري صيانة على أنبوب نورد ستريم 1، خلال يوليو/تموز الجاري. ويعني ذلك، أن الغاز سيتوقف نهائياً إلى ألمانيا، ومنه إلى بعض الدول الأخرى، ما دفع هابيك للقول إن الصيانة ليست إلا ذريعة روسية.
وارتفعت أسعار الغاز الطبيعي ستة أضعاف عما كانت عليه قبل عام، لتصل حالياً إلى قمة أكتوبر/تشرين الأول الماضي، عندما تسابقت دول التكتل لملء منشآت تخزين الغاز مع قرب حلول الشتاء.
ولم تتوقف زيارات القادة الأوروبيين إلى قارتي إفريقيا وآسيا ودول الخليج بحثاً عن إمدادات أخرى للغاز الطبيعي، إلا أنها (الإمدادات) تحتاج وقتاً لتجهيز البنية التحتية. وحتى قبل الحرب، كانت أوروبا تستورد من روسيا قرابة 176 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي، تمثل نسبته 40% من مجمل احتياجاتها.
الرابحون والخاسرون
وعلى المدى القصير، قد يكون لروسيا اليد الرابحة، بعد أن ربطت الاقتصادات الأوروبية الكبرى بغازها الطبيعي. لكن على المدى المتوسط إلى الطويل، من المرجح أن تفقد موسكو مكانتها كقوة عظمى عالمية في مجال الطاقة، حيث إن قرار أوروبا بوقف اعتمادها على الطاقة الروسية أمر لا رجوع فيه، كما كتب جدعون راشمان، كبير محرري الشؤون الخارجية في صحيفة فاينانشيال تايمز البريطانية.
مشيراً إلى أنه يمكن أن تأخذ آسيا العديد من براميل النفط الروسية غير المرغوب فيها والمحظورة في الغرب، ولكن سيأتي تحويل خطوط الغاز الروسي نحو الصين وغيرها في سنوات وليس في أشهر، بسبب عدم وجود بنية تحتية كافية لدى روسيا لإعادة توجيه تدفقات الغاز هذا.
في الوقت نفسه، تساعد أسعار النفط والغاز الطبيعي المرتفعة في الاعتماد على الصخر الزيتي في الولايات المتحدة، التي قد تكون فائزاً كبيراً في نظام الطاقة العالمي الجديد بحسب راشمان. مشيراً إلى أنه على المدى المتوسط إلى الطويل، لا بد أن يسعى الغرب للحصول على النفط والغاز غير الروسيين، بغض النظر عن تطورات الحرب في أوكرانيا.
ماذا عن إمدادات النفط الخام؟
يشهد النفط الخام ارتباكاً أقل من إمدادات الغاز، لكن أسعاره المرتفعة طالت مختلف دول العالم دون استثناء، بفعل زيادة الطلب، والبحث عن بدائل للغاز الروسي.
حالياً، يبلغ سعر برميل النفط قرابة 113 دولاراً، بزيادة 45% عن أسعاره بنهاية 2021، وسط توقعات مؤسسات بحثية بتجاوزه حاجز 150 دولاراً بحلول الربع الأخير 2022.
تنتج روسيا في اليوم، قرابة 10.5 مليون برميل يومياً، معظمها يتجه اليوم للسوق الآسيوية بصدارة الصين والهند – أول وثالث أكبر مستوردين للنفط الخام – عالمياً.
ومطلع الشهر الجاري، ارتفعت أسعار الوقود في غالبية دول العالم التي تغير الأسعار على أساس شهري، فقد سجل قفزة كبيرة في الأردن، بينما سجل في إسرائيل أعلى مستوى منذ 9 سنوات، وأعلى مستوى في 8 سنوات في فلسطين.
والخميس، قالت مجموعة "أوبك+" إنها ستلتزم بزيادات إنتاج النفط المقررة في أغسطس/آب، لكنها تجنبت بحث سياسة الإنتاج من سبتمبر/أيلول فصاعداً. ويعود ذلك إلى المخاوف المتعلقة بعدم قدرة أعضاء المجموعة على ضخ مزيد من الخام، بشكل مباشر، لتلبية الطلب المحلي المتزايد.
ويقول تقرير لموقع oil price الأمريكي، إن صناعة النفط في الولايات المتحدة تواجه قيوداً قصيرة الأجل في زيادة الإنتاج. تشمل هذه العقبات قضايا سلاسل التوريد، والارتفاعات الحادة في التكلفة، وتوجه الولايات المتحدة برغبة ثابتة في الترويج للطاقة النظيفة.
لكن إذا كان لدى المنتجين الأمريكيين بيئة تنظيمية داعمة للاستثمارات في الوضع الجديد، فإن الولايات المتحدة لديها فرصة للفوز بلعبة الطاقة الجيوسياسية على المدى الطويل، حيث سيتم البحث عن المنتجات والخام الأمريكي في المناطق المستهلكة الرئيسية، بما في ذلك في أوروبا وحلفاء الولايات المتحدة في شمال آسيا، والتي لن ترغب في الاعتماد على الطاقة الروسية مرة أخرى.
ونظراً لقربها من الولايات المتحدة، تعد أمريكا اللاتينية أيضاً منفذاً طبيعياً لصادرات الطاقة الأمريكية، خاصة أن أوروبا -المتعطشة لجميع أنواع الطاقة الآن- لا تصدر الكثير من الوقود إلى الأمريكتين كما كانت قبل الغزو الروسي لأوكرانيا وقبل أزمة الطاقة في خريف عام 2021.
لكن بحسب Oil Price فإن صناعة النفط الصخري في الولايات المتحدة تواجه قيوداً قصيرة الأجل في تعزيز الإنتاج، مع استمرار ارتفاع التكاليف وتفاقم التأخيرات في سلسلة التوريد. علاوة على ذلك، يركز المنتجون الأمريكيون على سداد الديون ومكافأة المساهمين. كما أنهم قلقون من الهجمات المستمرة من قبل إدارة بايدن، والتي لا تشجع الخطط الاستثمارية للشركات العاملة في هذا المجال.
العودة الأوروبية للفحم.. مؤقتة أم دائمة؟
نتيجة الأزمات السابقة، عادت دول أوروبية بصدارة ألمانيا، وفرنسا، والنمسا، وهولندا، وقريباً إيطاليا، لاستخدام الفحم في توليد الطاقة الكهربائية، عبر إعادة فتح محطات تعمل بالفحم.
وارتفع الطلب على الفحم عالمياً اعتباراً من يونيو/حزيران الماضي، من مختلف دول العالم باستثناء روسيا، التي تحاول دول التكتل تجنب الاستيراد منها.
ويقول تقرير لشبكة CBC الكندية، إن العودة الأوروبية للفحم تتزايد، على الرغم من كونه أقذر بكثير من الغاز، وتنبعث منه غازات دفيئة أكثر بكثير، مما يؤدي إلى ارتفاع درجة حرارة المناخ عند حرقه، وهو ما يعيق الخطط الأوروبية للتحول نحو الطاقة النظيفة.
لكن على الرغم من أن الحكومة الألمانية التي تركز على المناخ كانت في طريقها للتخلص التدريجي من الفحم، فإن عليها التأكد من أنها تحتفظ بما يكفي من الغاز لتدفئة المنازل خلال الشتاء القادم.
ويقول موقع CBC إن جزءاً من سبب سماح الألمان لمحطات الفحم هذه بالعودة للعمل الآن، هو أنهم يريدون إغلاق محطات الغاز الخاصة بهم، حتى يتمكنوا من توفيرها لفصل الشتاء. وسيسمح تشريع جديد في ألمانيا باستخدام 15 محطة طاقة تعمل بالفحم، ومن المقرر أن يتم التخلص التدريجي منها جميعاً هذا العام أو العام المقبل.
ومع ذلك، قد لا يكون الانتقال المؤقت إلى الفحم نهاية خطط المناخ القوية في ألمانيا، إذ تم تعيين موعد نهائي للتخلص التدريجي من الفحم بحلول عام 2038، وهو هدف لا يزال قائماً. ويقول الخبراء إن الحكومة الائتلافية في البلاد، والتي تضم حزب الخضر، تحاول كسب الوقت باستخدام الفحم حتى تتمكن من التوصل إلى حل طويل الأجل أكثر استدامة.