"قواعد صينية سرية بحرية تنتشر حول العالم دون أن تعلم الدول المالكة لها بوجودها".. اتهام غربي جديد يوجه للصين بعدما نفت بكين مراراً عزمها بناء قواعد بحرية في الخارج، وهو النفي الذي كررته العديد من الدول المتهمة باستضافة هذه القواعد، ولكن يبدو أن بعض الدول لديها قواعد صينية سرية دون أن تعلم.
وبذل وزير الدفاع الكمبودي، تي بانه، جهداً جهيداً هذا الشهر لإقناع المسؤولين العسكريين والدبلوماسيين الغربيين بأن الصين لا تبني قاعدة عسكرية في بلاده. وتصريحاته في منتدى Shangri-La Dialogue الأمني في سنغافورة تتطابق مع تأكيد بكين بأن جيشها لا يسعى لبناء شبكة قواعد عالمية.
لكن الولايات المتحدة وحلفاءها لم يقتنعوا. يقول ديريك شوليت، المسؤول الكبير في وزارة الخارجية الأمريكية، إن واشنطن "مقتنعة" بأن الصين تبني قاعدة في ريام على ساحل خليج تايلاند في كمبوديا. وقال شوليت في مقابلة: "نرى مؤشرات على أن الصين تسعى لبناء منشأة عسكرية هناك".
وخلال العام الماضي، كانت أجراس إنذار الخطط الصينية المزعومة لإنشاء قواعد عسكرية جديدة تدق كل بضعة أشهر في الولايات المتحدة وبين حلفائها. ولكن من المفارقات أن كلاً من تخوفات اكتساب جيش التحرير الشعبي الصيني نفوذاً عالمياً، وإنكار الصين لبناء قواعد على السواء؛ لهما ما يبررهما، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Financial Times البريطانية.
فقبل أيام قليلة من خطاب تي بانه في سنغافورة، حضر الوزير حفل وضع حجر الأساس لمنشأة بتمويل صيني في قاعدة كمبوديا البحرية في ريام. وفي مارس/آذار، انتشرت أنباء عن مشروع اتفاقية بين الصين وجزر سليمان تظن بعض الحكومات الغربية أنها قد تمهد الطريق أمام بكين لبناء قاعدة في دولة المحيط الهادئ. والعام الماضي، أعربت الولايات المتحدة عن شكها في أن الصين تبني منشأة عسكرية سرية في الإمارات، وربما تعتزم بناء قاعدة مماثلة في غينيا الاستوائية.
الأسطول الصيني لا يريد قواعد بل مرافق لوجستية
ورغم رفض بكين للتخوفات من نواياها، بدأ جيشها في إنشاء شبكة مما تسميه نقاط القوة الاستراتيجية، على طول طرق التجارة البحرية المهمة، لحماية المصالح الدولية للصين.
ويشير الكتاب الأبيض الخاص بالجيش الصيني لعام 2019 إلى أن مهام الجيش تشمل حماية سفن الشحن وإجلاء المواطنين الصينيين في الخارج، وبناء الجيش الصينى لـ"مرافق لوجستية خارجية"، وليست قواعد.
ولكن على عكس الجيش الأمريكي، الذي يملك قواعد بالمئات حول العالم، يعتمد الجيش الصيني في الغالب على منشآت في الموانئ الخارجية تملكها أو تديرها مؤسسات حكومية صينية.
يقول إسحاق كاردون، الأستاذ المساعد في معهد الدراسات البحرية الصينية التابع للكلية الحربية البحرية الأمريكية: "حتى لو أدخلت الصين كمبوديا والإمارات وغينيا الاستوائية في تطلعاتها خلال السنوات القليلة المقبلة، فالجيش الصيني لن يمتلك شبكة قواعد عالمية شبيهة بالتي تملكها الولايات المتحدة".
وأضاف: "فعلى عكس الولايات المتحدة، التي خاضت حرباً عالمية وحرباً باردة، بدأت الصين لتوها في بناء قواعد عسكرية خارجية، وهي تستغل نفوذها الاقتصادي العالمي لتحقيق هذا الهدف".
الموانئ التي تشغلها الشركات المدنية يمكن تحويلها إلى قواعد صينية سرية
في شهادة أمام الكونغرس في أكتوبر/تشرين الأول 2019، كشفت كارولين بارثولوميو، رئيسة لجنة المراجعة الاقتصادية والأمنية الأمريكية الصينية، أن ثلثي أكبر 50 ميناءً من موانئ الحاويات البحرية على الأقل يملكها ويديرها صينيون، أو تدعمها استثمارات صينية. ويشمل هذا محطات في موانئ أمريكية كبرى بلوس أنغلوس وسياتل.
ووفقاً لتقرير شارك في إعداده كاردون ونُشر في أبريل/نيسان 2022، تمتلك الشركات الصينية أو تشرف على محطة واحدة على الأقل في 96 ميناءً في 53 دولة، وهذه الشبكة من الخدمات الأساسية في الموانئ ستصبح سريعاً العمود الفقري لعمليات الجيش الصيني في البحار النائية.
وقال التقرير إن سفنَ بحريةِ الجيش الصيني التي اُستخدمت في ثلث تلك الموانئ لتجديد الإمدادات أو الدبلوماسية البحرية، نفذت عمليات صيانة في 9 منها، وزارتْ 69 أخرى لإجراء تدريبات مع الدول المضيفة لها، ودخلت أحواضاً جافة لإجراء إصلاحات في 47 ميناءً.
وهذا النموذج الذي يعتمد على الاستفادة المزدوجة من الموانئ يضع قوة الصين في الخدمات الأساسية الاقتصادية في الخارج، في مواجهة شبكة الحلفاء القوية لواشنطن.
واعترف مسؤولون بشركة الشحن الحكومة الصينية China Ocean Shipping Company، وهي من أكبر خطوط شحن الحاويات في العالم، في عام 2020، بأن الشركة وصلت بالفعل بين مساراتها وما يُعرف رسمياً بطريق الحرير البحري، لتربط بين أسواق إقليمية في غرب إفريقيا وشمالي أوروبا والكاريبي والولايات المتحدة، وتكوين شبكة تجارية عالمية أكثر شمولاً وتوازناً.
وفي حالة نشوب نزاع، يمكن أن تستعمل الصين سيطرتها على هذه الموانئ وموانئ أخرى في إعاقة التجارة الواصلة إلى البلدان الأخرى، حسب كارولين بارثولوميو، رئيسة لجنة المراجعة الاقتصادية والأمنية الأمريكية الصينية.
يقول باحث عسكري صيني، طلب عدم نشر اسمه لأنه غير مخول بمناقشة الموضوع: "الولايات المتحدة معتادة على بناء قواعد على أراضي حلفائها، لكننا لا نفعل ذلك؛ لأننا لا نؤيد تشييد منشآت لمواجهة أخرى".
وقال الباحث: "نموذجنا يركز على التنمية؛ فقد أصبحت من ضمن مهام جيشنا حماية هذه التنمية في الخارج، ولكن يمكننا أيضاً استخدام ثمار هذا التطور لإنجاز بعض المهام ذات الطابع العسكري"، حسبما تنقل عنه صحيفة Financial Times.
إنهم يوظفون ضباطاً في المؤسسات المدنية العاملة بالخارج
إن سياسة "الاندماج المدني العسكري"، أي إتاحة مقدرات الشركات المدنية للقوات المسلحة، أو حتى دمج الشركات والمؤسسات العسكرية مع المدنية؛ ساعدت الجيش الصيني على حماية الاستثمارات والتجارة الصينية، حسبما يقول خبراء صينيون.
والقوانين التي اُعتمدت في السنوات الأخيرة تُلزم ببناء شبكة نقل أساسية في الخارج وفق مواصفات عسكرية، ويشير الجدل الدائر في المنشورات العسكرية إلى أن أفراداً من الجيش الصيني يُعيَّنون في بعض الشركات التي تمتلك أو تدير موانئ في الخارج، مثل شركة الشحن الصينية الحكومية "كوسكو".
ومرافق الموانئ الحديثة التي تبنيها الصين يمكنها استيعاب مجموعة واسعة من السفن البحرية تشمل أكبرها حجماً. على أن الاعتماد على الموانئ الصينية مزدوجة الاستخدام في الخارج يحد مما يمكن أن يفعله الجيش الصيني.
هل يعني ذلك استغناءهم عن القواعد البحرية التقليدية؟
يقول كاردون، في إشارة إلى حذر بكين التقليدي من التوسع العسكري العلني الذي يغذي تخوفات الغرب من صعودها لتصبح قوة عالمية: "كان إنشاء القاعدة في جيبوتي تغييراً بالغ الأهمية في سياسة الصين".
وأضاف: "القيادة المدنية لديها مجموعة أشمل من الأهداف، ولكن من منظور الجيش الصيني، فامتلاك قواعد هو بالتأكيد الخيار الأفضل. والأهداف قد تتغير بمرور الوقت".
على أن المسؤولين الغربيين متمسكون بشكوكهم في إنكار بناء قواعد صينية. يقول مسؤول استخباراتي غربي: "هدف بكين هو بناء شبكة عالمية"، وأشار إلى أن الصين تتحرك في خطوات تدريجية لتجنب إثارة ردود أفعال عنيفة.
وتقول كريستين غانيس، الخبيرة في الجيش الصيني في مؤسسة راند بواشنطن: "سيصطدمون بعراقيل سريعاً. واستمرار العمليات القتالية لفترة طويلة من الزمن، أو إجراء عمليات استكشافية أخرى، سيكون مهمة شديدة الصعوبة مع هذا النموذج".
ويشير قرار بكين بإنشاء أول قاعدة عسكرية كاملة في الخارج بجيبوتي إلى أن الجيش الصيني يدرك حدود هذه الموانئ ذات الاستخدام المزدوج. فعام 2017، فتحت الصين قاعدة في جيبوتي، في شرق إفريقيا، التي تستضيف بالفعل حفنة من الجيوش الأخرى، من ضمنها الجيش الأمريكي. وجاء هذا القرار بعد ما يقرب من 10 سنوات كانت ترسل خلالها حراسة لحماية السفن الصينية وغيرها من السفن المدنية من القراصنة قبالة القرن الإفريقي، وبعدما تعلمت البحرية الصينية ما هو مطلوب لإنجاز مهام طويلة في البحار النائية.