كان موقف الدول الإسلامية من الإساءة الهندية للنبي محمد صادماً للهند، إذ وضع حكومة حزب بهاراتيا جاناتا المتطرف في مأزق، وأثار مخاوف من تضرر البلاد اقتصادياً، وظهرت آمال أن تؤدي هذه الهبة إلى تخفيف أو أو إنهاء حملة اضطهاد مسلمي الهند، التي يقودها هذا الحرب.
فقد واجهت الحكومة الهندية نيراناً دبلوماسية مستعرة بعد وابل الإدانات الذي انهال عليها من العالم الإسلامي، من النوع الذي لم نشهده منذ واقعة رسوم صحيفة شارلي إبدو الفرنسية الكاريكاتورية المسيئة للنبي محمد، حسبما ورد في تقرير لمجلة Time الأمريكية.
وسبب موقف الدول الإسلامية الحاد هذا، كان مناظرة تلفزيونية عُرضت الشهر الماضي، أهانت فيها المتحدثة باسم حزب بهاراتيا جاناتا، نوبور شارما، النبي محمد. وبعد أيام قليلة، ردد متحدث آخر باسم الحزب، نافين جيندال، الإهانة نفسها في تغريدة حُذفت لاحقاً.
15 دولة إسلامية تحتج على الإساءة للرسول ودعوات لمقاطعة البضائع الهندية
وبدأ الرد الدولي بعد حوالي أسبوع، وتحديداً في 5 يونيو/حزيران، باستدعاء قطر وإيران والكويت لسفراء الهند في بلدانها احتجاجاً على هذه الإهانة وطلب الاعتذار عنها. وامتدت قائمة المحتجين بعدها لتشمل أكثر من 15 دولة، منها أفغانستان وإندونيسيا وماليزيا والعراق والسعودية وسلطنة عمان والإمارات والأردن وجزر المالديف وباكستان والبحرين وليبيا وتركيا. وقدمت منظمة التعاون الإسلامي التي تضم 57 دولة ومجلس التعاون الخليجي، الذي يضم ست دول في غرب آسيا، احتجاجات رسمية منفصلة.
ووصف الأزهر في مصر تصريحات المتحدث باسم حزب بهاراتيا جاناتا بأنها "إرهاب حقيقي"، كما وصف مفتي سلطنة عمان الإساءة بأنها "وقاحة فاحشة" لحزب بهاراتيا جاناتا تجاه الإسلام وشكل من أشكال "الحرب" وأطلق مقاطعة للبضائع الهندية.
في العديد من دول الخليج العربي، تمت إزالة المنتجات الهندية من المتاجر.
وفي جزر المالديف، أعاد الجدل إحياء حملة سياسية قديمة ضد الهند، حيث قام المتظاهرون بلصق علب القمامة العامة بصورة مودي عليها أختام حذاء.
وردت السفارات الهندية المحاصرة بأن هذه التصريحات "لا تمثل رأي الحكومة" وأن التصريحات المسيئة التي أدلى بها المتحدثان باسم الحزب الحاكم في البلاد كانت في الواقع آراء "عناصر متطرفة". وأقيلت شارما من وظيفتها وطرد جيندال من الحزب.
وأكد الحزب في بيان صحفي أنه "يحترم جميع الأديان" وأن حزب بهاراتيا جاناتا "يعارض بشدة أي أيديولوجية تهين أو تحط من قدر أي طائفة أو دين".
مؤيدو مودي مصدومون من تراجعه
لكن هذه التصريحات التي بدا فيها قدر من التراجع تتعارض مع هدف حزب بهاراتيا جاناتا المعلن المتمثل في إعادة تشكيل الدولة لتصبح دولة هندوسية، وتركيز سياساته المتعصبة على اضطهاد مسلمي الهند البالغ عددهم نحو 180 مليوناً، وشيطنته للمسلمين، ونشره رسائل سياسية معادية للإسلام تشجع على عنف الغوغاء بحق المسلمين.
وتتجه آلة الدولة الهندية يوماً بعد آخر إلى اضطهاد مسلمي الهند وتعذيبهم. فيوم الإثنين الماضي 6 يونيو/حزيران، أوقفت كلية حكومية 24 طالبة مسلمة بعد حضورهن وهن يرتدين الحجاب. ويوم الأحد السابق له، اُتهم خمسة ضباط بتعذيب شاب مسلم يبلغ من العمر 22 عاماً حتى الموت.
ومع هذا المستوى الدعائي العالي عن مناعة مودي المزعومة، وازدهار الهند بمستويات غير مسبوقة تحت قيادته الفولاذية، لا يستوعب أنصاره لماذا قد يضطر مودي الذي يوصف بالجبار للتضحية بمساعديه لإرضاء مجموعة من البلدان الإسلامية.
فقد انتشرت تغريدات تطالب بشن حرب على قطر ومقاطعتها اقتصادياً. وانطلقت هاشتاغات مثل #ShameOnBJP أو عار على حزب بهاراتيا جاناتا في الأيام الأخيرة، وشن أنصار الحزب هجوماً على ما يعتبرونه جبناً من مودي.
العلاقات الاقتصادية هي السبب
لكن توقعات أنصار مودي منفصلة عن دوافع الهند الاقتصادية والاستراتيجية؛ إذ تمثل دول الخليج الست، وهي البحرين والكويت وقطر وعُمان والسعودية والإمارات، وحدها 15% من تجارة الهند العالمية، وتزودها بثلث احتياجاتها من الوقود، وتوظف 9 ملايين هندي، يمثلون 65% من تحويلات الهند السنوية التي تزيد عن 80 مليار دولار.
لكن الدول الإسلامية تعرف قدر قوة الهند الاقتصادية المتنامية أيضاً، ولن ترغب في تعريض العلاقات معها للخطر. فالاستهداف المتزايد للمسلمين في الهند في السنوات الثماني التي قضاها مودي في الحكم حتى الآن لم يثِر يوماً قلق أي دولة إسلامية.
ونجح بعضها، مثل الإمارات والسعودية، في استمالة مودي وتعزيز العلاقات مع دلهي. ولكن هذه المرة، ربما اُضطرت هذه الحكومات إلى اتخاذ هذا الإجراء تفادياً لأي مشكلات قد يثيرها المحافظون المتدينون في الداخل.
وتشعر الحكومات في الدول الإسلامية بالقلق من أن الغضب ضد الإساءة للرسول قد يتصاعد إلى نوع من الاضطرابات المزعزعة للاستقرار التي شوهدت في جميع أنحاء العالم الإسلامي من قبل.
هل يؤدي موقف الدول الإسلامية إلى تخفيف اضطهاد مسلمي الهند؟
ولكن رغم موقف الدول الإسلامية من الإساءة للرسول، فإن هذا لا يعني أن حزب بهاراتيا جاناتا سيغير سياسته بشأن اضطهاد مسلمي الهند.
فهو يريد تقييد الديمقراطية الشاملة في الهند، وله هدف معلن يتمثل في إعادة تشكيل الهند كدولة هندوسية، وكان صعوده مدعوماً باستراتيجية حشد الناخبين الهندوس باستخدام الأقليات في البلاد كبعبع.
ومع انتصارات مودي الانتخابية المتتالية، ضاعف الحزب من حملة اضطهاد مسلمي الهند من الأغاني الشعبية المناهضة للمسلمين إلى الشتائم من قبل قادة حزب بهاراتيا جاناتا.
فخطاب الكراهية في كل مكان، فالحزب يحفز الكراهية وأصحاب الموهبة في نشرها، إذ تجعل سياسات الحزب من الصعب وصف حكومة طالبان الأفغانية بـ"المتعصبين"، حسب وصف المجلة الأمريكية.
ويتمنى المسلمون في الهند أن تمنحهم هذه الهبّة العالمية بعض الحماية من كابوس السياسة الهندوسية المتطرفة الذي لا ينتهي. إذ يبدو معقولاً أن مسلمي الهند المطاردين من الحزب الحاكم والمنسيين مما يسمى أحزاب المعارضة العلمانية- التي لم يعلق أي منها على التصريحات المهينة للمتحدثين باسم حزب بهاراتيا جاناتا، إلى أن أثارت الدول الإسلامية القضية بعد أسبوع- سيستفيدون من هذا الغضب العالمي. لكن هذا الاستفادة مؤقتة في أحسن الأحوال.
فهناك عامل جديد يحد من تأثير دول الخليج تحديداً على الهند، ويقلل من مخاوف نيودلهي من عواقب سياستها، وهو تغير سياسات بعض دول الخليج وتحديداً الإمارات والسعودية، اللتين كانتا تقليدياً شديدتي الحساسية لأي إساءة للمسلمين، خاصةً الرياض التي كانت تعتبر نفسها حاملة لواء الإسلام؛ لكونها بلد الحرمين الشريفين، الذي يطبق الشريعة الإسلامية.
ولكن الأمور تغيرت خلال السنوات الماضية، ولم تعد الهند تخشى غضب الرياض وأبوظبي في هذه القضايا بنفس المستوى السابق.
ففي بداية تولي مودي الحكم، بدت خلفيته السياسية في تعارض مع ثقافة شبه الجزيرة العربية الإسلامية المحافظة، ولكن قادة الخليج الجدد، لا سيما القادة السعوديين والإماراتيين، كانت لهم نظرة مختلفة إلى مودي، إذ التقت مقاربته للتعاطي مع الإسلام السياسي انطلاقاً من الاعتبارات الأمنية مع مقاربتها الخاصة. فقد وصف ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، في كلمة ألقاها بحفل أقيم في دلهي في فبراير/شباط الماضي، رئيس الوزراء الهندي بأنه "شقيقه الأكبر". وبالمثل، أقام مودي روابط غير مسبوقة مع رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد، منذ أن كان ولياً للعهد، وحتى إنه وجّه إليه دعوة ليكون الضيف الأساسي في يوم الجمهورية بالهند في عام 2017، وهو شرفٌ محفوظ تقليدياً لرؤساء الدول، حسب تقرير لمركز كارنيغي الأمريكي.
وقال سفير غربي سابق في أبوظبي: "يُجسّد مودي ذهنية السياسة الواقعية وأسلوب الرجل القوي في القيادة، وهو ما أثار فعلاً إعجاب الأمراء السعوديين والإماراتيين".
على مستوى أعمق، يتشارك صنّاع القرار في أبوظبي ودلهي آراء متطابقة عن الأولويات الأمنية. ففي ظل قيادة محمد بن زايد، تعتبر أبوظبي أن التيارات الإسلامية، خصوصاً الإخوان المسلمين، هي التهديد الأكبر لها، وربما يتقدّم هذا التهديد على الأطماع الإقليمية الإيرانية. وتلتقي وجهة النظر هذه مباشرةً مع آراء مودي ومهندس سياسته الخارجية أجيت دوفال، الذي كان عميلاً سابقاً في الاستخبارات، ثم أصبح مستشار مودي لشؤون الأمن القومي عام 2014. ويشنّ دوفال، بصفته هذه، حملة ضارية ضد التيارات الإسلامية التي تستهدف الهند، وتشتمل هذه الحملة على تنفيذ ضربات انتقامية داخل باكستان. ولذلك ليس مفاجئاً أن الإمارات تواظب على تقديم التأييد للسياسات الهندية، بدءاً من الهجمات الجوية عبر خط السيطرة مع باكستان في أعقاب هجوم أوري في عام 2016، وصولاً إلى إلغاء المكانة الدستورية الخاصة التي كانت تتمتع بها كشمير.
في عام 2021 ، بدأت الهند والإمارات العربية المتحدة التفاوض بشأن اتفاقية اقتصادية واسعة النطاق بموجب اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة للهند (CEPA)، والتي تم الانتهاء منها هذا العام.
ويمكن ملاحظة تأثير هذا التغير من حقيقة أن مركز ثقل الاعتراض الخليجي الأخير على الإساءة للرسول الكريم انتقل إلى قطر والكويت وسلطنة عمان، وكان لافتاً في هذا الصدد ظهور دعوة هندية إلى مقاطعة الخطوط الجوية القطرية وليس طيران دولة أخرى، بسبب موقف الدوحة القوي.
فالسعودية بثقلها الاقتصادي والإمارات بعلاقتها الوثيقة مع الهند يمكنهما، بالتعاون مع بقية دول الخليج، الضغط على نيودلهي لوقف حملة اضطهاد مسلمي الهند، عبر توجيه رسالة حازمة بأن مصالحها الاقتصادية قد تضرر إذا استمرت هذه السياسة.
ولكن يرى تقرير مجلة Time أنه حالما تهدأ الأمور، ستكون للتجارة مع الهند الأسبقية على الأخطار التي تهدد المسلمين الهنود. وستعود حكومة مودي إلى طرقها القديمة في اضطهاد مسلمي الهند، وربما تزج ببعض المسلمين في السجن على خلفية مؤامرة مفبركة للإضرار بالهند. وستطلق عنان المتعصبين وآليات الدولة المربوط حالياً على المسلمين مرة أخرى. وسيعود مودي إلى عناق الملوك المسلمين في جولاته الخارجية.