يستورد العرب نحو نصف احتياجاتهم من القمح من روسيا وأوكرانيا، لكن الحرب وكورونا والتغير المناخي على وشك ضرب الأمن الغذائي للمنطقة العربية في مقتل، فأين الحلول؟
كانت أسعار القمح قد قفزت، خلال أقل من 4 أشهر، من 260 إلى أكثر من 480 دولاراً للطن الواحد، وهو ما أدى بالتبعية إلى ارتفاع أسعار الكثير من الأغذية. ورغم أن أسعار الغذاء المرتفعة تمثل أزمة عالمية، فإن التأثير في بعض الدول العربية يصل حد الكارثة، ويهدد شعوبها بالجوع، بحسب تقارير أممية.
الأمن الغذائي في خطر
أصدر البرنامج العالمي للغذاء، ومنظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، وكلاهما تابع للأمم المتحدة، تقييماً متشائماً للغاية بشأن الأمن الغذائي حول العالم، وكان نصيب المنطقة العربية مقلقاً.
ومصطلح الأمن الغذائي هو وصف للحالة التي يحصل فيها جميع المواطنين على الأطعمة الكافية والسليمة والمغذية في كل الأوقات، وبشكل يلبي الاحتياجات الغذائية الضرورية لحياة صحية ونشطة، بحسب التعريف الصادر عن مؤتمر القمة العالمي للأغذية لعام 1996. وهناك تعريف آخر يتعلق بدور الدولة، وهو يشير إلى الأمن الغذائي على أنه قدرة الدولة على تأمين مخزون كافٍ للسلع الأساسية لفترة لا تقل عن شهرين ولا تزيد على سنة، وتختلف المدة بحسب الدولة والمادة الغذائية الأساسية.
وفي هذا السياق، حذر بيتر ساندز، المدير التنفيذي للصندوق العالمي لمكافحة الإيدز والسل والملاريا التابع لمنظمة الصحة العالمية، من أن تزايُد نقص الغذاء قد يمثل نفس التهديد الصحي للعالم مثل جائحة كورونا، وأضاف لرويترز أن ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة، الذي جاء نتيجة أسباب منها الحرب في أوكرانيا، ربما يؤدي إلى وفاة الملايين بشكل مباشر وغير مباشر.
"يؤدي نقص الغذاء إلى أمرين: الأول أنك تواجه مأساة موت الناس جوعاً بالفعل، وثانياً هناك أيضاً حقيقة أن أعداداً أكبر بكثير من الناس غالباً ما يعانون من سوء التغذية الحاد، ما يجعلهم أكثر عرضة للإصابة بالأمراض الموجودة".
الأزمة خطيرة بالفعل إذاً، خصوصاً للدول التي تعتمد على الاستيراد بشكل أساسي لتأمين السلع الغذائية الرئيسية لمواطنيها، وفي الوقت نفسه لا تعاني من اقتصاد ضعيف، ولا تتوفر لديها الأموال الكافية لتأمين التكلفة، في ظل ارتفاع الأسعار بشكل غير مسبوق.
وكان تقرير آخر صادر عن برنامج الغذاء العالمي، أوائل مايو/أيار الماضي، قد دق ناقوس الخطر، حيث أشار الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في مقدمته، إلى أن العالم يواجه "أزمة جوع على نطاق غير مسبوق، وارتفاعاً في الأسعار لم يُشهد له مثيل من قبل".
ويعتمد مدى نجاح أي دولة في تحقيق الاكتفاء الذاتي من السلع الغذائية الرئيسية، بما يجعلها تتفادى انعدام الأمن الغذائي، على عوامل الجغرافيا والمناخ وتوافر الأراضي الزراعية ومصادر الري والأيدي العاملة، وامتلاك تقنيات زراعية حديثة.
ولأن روسيا وأوكرانيا توفران أكثر من 30% من صادرات القمح حول العالم، بالإضافة إلى حبوب أخرى كالشعير والذرة والزيوت النباتية، فقد تسبب الهجوم الروسي على أوكرانيا، والذي بدأ يوم 24 فبراير/شباط الماضي، في كارثة غذائية ضخمة، لكن مدى تأثيرها السلبي يختلف بطبيعة الحال من منطقة إلى أخرى حول العالم، ومن دولة لأخرى داخل المنطقة الواحدة.
ما الدول العربية الأكثر عرضة للجوع؟
رصد التقييم الأخير الصادر عن برنامج الأغذية والفاو 6 دول حول العالم تعاني بالفعل من فقدان "خطير" للأمن الغذائي، منها دول عربية هي اليمن والصومال وجنوب السودان، إضافة إلى أفغانستان وإثيوبيا ونيجيريا، حيث يوجد أكثر من 750 ألف مواطن في تلك الدول يواجهون "خطر الموت جوعاً بصورة فورية" ما لم يتم إنقاذهم.
كما رصد التقرير دولاً أخرى تواجه "درجة خطر مرتفعة فيما يخص أمنها الغذائي"، ومنها سوريا والسودان، إضافة إلى هايتي والكونغو ومنطقة الساحل الإفريقي وكينيا، التي انضمت للقائمة للمرة الأولى، بحسب موقع Indiatoday.
لكن التقييم في ذلك التقرير الأممي لم يكن قاصراً على تأثير الحرب الروسية في أوكرانيا، بل جاء شاملاً لتأثير التغير المناخي ووباء كورونا كذلك، لتصبح الأزمة ثلاثية الأبعاد، والواضح أن المنطقة العربية من أكثر المناطق حول العالم تأثراً بتلك العوامل الثلاثية.
فتأثير التغير المناخي على منطقة الشرق الأوسط عموماً، والمنطقة العربية خصوصاً، يمثل تهديداً وجودياً في بعض الحالات والأسباب مرتبطاً بالارتفاعات القياسية في درجات الحرارة، والتي تزيد على المعدلات العالمية بأكثر من الضعف، إضافة إلى الجفاف وندرة موارد المياه العذبة، وحتى الدول التي لم تكن تعاني تاريخياً من مشكلة المياه كمصر والسودان انقلب الموقف تماماً بفعل سد النهضة الإثيوبي أو سد العطش كما يسميه المصريون.
وتظهر إحصائيات البنك الدولي ومنظمة الفاو الخاصة بالنسب المئوية لانعدام الأمن الغذائي أرقاماً مفزعة في بعض الدول العربية، ففي اليمن النسبة 83%، وفي سوريا أكثر من 70%، والسودان نحو 50%، وليبيا أكثر من 37%، ومصر (أكبر الدول العربية من حيث عدد السكان)، تصل نسبة انعدام الأمن الغذائي إلى نحو 28%، والجزائر أكثر من 17%، بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC.
الدكتورة عبير عطيفة، المتحدثة الإعلامية باسم برنامج الغذاء العالمي في الشرق الأوسط، قالت لبي بي سي، إن الأزمة الحالية التي تعاني منها منطقة الشرق الأوسط ليست عادية أو مسبوقة، فالحرب الأوكرانية سبقتها جائحة كورونا وما نتج عنها من تباطؤ اقتصادي، فضلاً عن تقلبات الطقس الناتجة عن ظاهرة التغير المناخي، والتي ضربت مختلف مناطق العالم، وأثرت على الإنتاج الزراعي، وارتفاع أسعار الغذاء في البلدان التي تشهد صراعات مسلحة ، "ومن ثم فإن لدينا كافة العناصر التي تشكل ما نطلق عليه "the perfect storm"، أو العاصفة مكتملة الأركان".
ونظراً لأن المنطقة العربية تستورد حوالي 42% من احتياجاتها من القمح، و23% من احتياجاتها من الزيوت النباتية من كل من أوكرانيا وروسيا، بحسب برنامج الغذاء العالمي، فمن الطبيعي أن تكون الأكثر تأثراً من الحرب الروسية في أوكرانيا.
عوامل خارجة عن الإرادة
ووفق الدكتورة عطيفة، ارتفعت أسعار دقيق القمح في الشهر الذي تلا اندلاع الحرب بنسبة 47% في لبنان، و15% في ليبيا، و14% في فلسطين، و11% في اليمن، وحوالي 10% في سوريا.
كما ارتفعت أسعار دقيق القمح في مصر، التي يمثل الخبز تاريخياً أهمية بالغة لمواطنيها، بنسبة 15% في مارس/آذار، وفق تصريحات أدلى بها عطية حماد، رئيس شعبة المخابز بالغرفة التجارية بالقاهرة، لوكالة رويترز للأنباء.
"يأتي ذلك في وقت شهد فيه الكثير من الدول ارتفاعاً كبيراً في تكلفة سلة الغذاء، وهي الحد الأدنى للاحتياجات الغذائية لأي أسرة. على سبيل المثال، ارتفعت تكلفة سلة الغذاء في لبنان بنسبة 351%، تليه سوريا بنسبة 97%، واليمن بنسبة 81%"، بحسب عطيفة.
وتتسم المنطقة العربية بالتنوع والتفاوت بين بلدانها فيما يتعلق بنوعية الأرض وكميات المياه المتاحة والموارد الطبيعية والظروف الاقتصادية والمناخية. وباستثناء البلدان الخليجية، يمثل الإنتاج الزراعي أهمية كبيرة للمنطقة، ولكنها لا تنتج ما يكفيها من القمح والأرز والخضراوات والزيوت النباتية وحبوب العلف، فتلجأ إلى استيرادها.
مونيكا توتوفا، الخبيرة الاقتصادية بمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة "الفاو"، قالت لبي بي سي إن "البلدان العربية التي باستطاعتها زراعة الحبوب، تقوم بالفعل بذلك". وتضيف أن مصر هي البلد العربي الوحيد الذي يحقق إنتاجاً سنوياً مستقراً من الحبوب بسبب قربها من مصدر ري هو نهر النيل. أما في البلدان الأخرى، فيعتمد إنتاج الحبوب على الأمطار، وتحكمه تقلبات الطقس، ولذا هناك تفاوت كبير في كمية الحبوب المنتجة، "ومن أكثر الأمثلة وضوحاً في هذا الشأن المغرب والجزائر وتونس".
نقطة أخرى هي أن المنطقة العربية من بين مناطق العالم التي تعاني من نقص في المياه، وهناك بعض التوقعات بأن مناطق الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ستكون من أوائل المناطق في العالم التي ستنضب مياهها. وطبقاً لتقرير أصدرته مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي في الشرق الأوسط، في فبراير/شباط الماضي، فإن نحو 80 إلى 90 مليوناً من سكان المنطقة سيعانون من شكل من أشكال "الإجهاد المائي"، الذي يحدث عندما يفوق الطلب على المياه الكمية المتاحة منها، وهو ما ينتج عنه تدهور موارد المياه العذبة، بحلول عام 2025.
أما بلدان الخليج فمعظم أراضيها صحراوية، وتعاني من قلة موارد المياه، ما يجعل الزراعة فيها عملية صعبة. كما أن العديد من البلدان العربية تشهد تدهوراً بيئياً بشكل متكرر، وهو ما يحدث نتيجة لاستنزاف المصادر الطبيعية كالماء والهواء والتربة وتدمير النظم البيئية وانقراض الحياة البرية.
لكن هناك عنصر الإهمال وسوء التخطيط أيضاً
وقد كان لتداعيات التغير المناخي آثار مدمرة على الإنتاج الزراعي في بعض البلدان العربية في الأعوام القليلة الماضية، فارتفاع درجات الحرارة الشديد وما رافقه من ندرة الأمطار أديا إلى انخفاض عائدات بعض المحاصيل الرئيسية وتفشي آفات زراعية جديدة.
لكن العوامل الطبيعية ليست وحدها التي أدت إلى عدم تحقيق اكتفاء ذاتي من المحاصيل الغذائية الرئيسية. فكثير من الخبراء يلقون باللوم على سياسات بعض الدول العربية، التي لم تمنح الأولوية في خططها الاقتصادية للمشروعات الزراعية، ولا سيما تلك التي تركز على المحاصيل الأساسية كالقمح، كما أنها لم تدعم المزارعين كما يحدث في بلدان غربية، ما أدى إلى تدهور الإنتاج الزراعي، ودفع بالمزارعين إلى الهجرة إلى المناطق الحضرية أو الخارج.
كما أن زحف الأبنية على الرقعة الزراعية، ولا سيما حول مدن عربية كبرى كالقاهرة ودمشق، قد أدى إلى تقليص الأراضي الزراعية الخصبة وتدميرها. وهناك بلدان في المنطقة كسوريا واليمن والصومال والسودان تعاني بالفعل من مستوى مرتفع من انعدام الأمن الغذائي، بسبب النزاعات وتدهور أدائها الاقتصادي.
ويشير تقرير برنامج الغذاء العالمي إلى أنه كان هناك 12 مليون شخص في سوريا يعانون من انعدام متوسط إلى حاد في الأمن الغذائي عام 2021، في حين وصف التقرير وضع الأمن الغذائي لأكثر من 16 مليون يمني بالكارثي خلال العام ذاته.
وتشير مونيكا توتوفا، من الفاو، إلى أن الحصول على المستلزمات الزراعية (كالأسمدة والمعدات على سبيل المثال) لا يزال يمثل مشكلة في المناطق المتأثرة بالنزاعات أو الأزمات الاقتصادية أو الاثنين معاً. وتضيف أن لبنان على وجه الخصوص "يواجه مشكلة كبيرة بسبب الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها منذ وقت طويل، فضلاً عن نقص منشآت التخزين في مرفأ بيروت، في أعقاب التفجير الذي تعرض له عام 2020، ما أثر على قدرة البلاد على الاستيراد".
أما بلدان مجلس التعاون الخليجي فهي تستورد نحو 90% من احتياجاتها الغذائية من بلدان بينها روسيا وأوكرانيا، ولكنها تمكنت حتى الآن من الصمود أمام تداعيات الحرب على الأسواق الزراعية. وأدت جملة من السياسات التي تنتهجها بلدان المجلس -من بينها تنويع مصادر الاستيراد، والاستثمار في تقنيات إنتاج المحاصيل الغذائية في المناطق الجافة، وقيام بعضها بشراء أراض زراعية في بلدان أجنبية- إلى تقوية وضع الأمن الغذائي في تلك البلدان. كما أن ارتفاع أسعار النفط مكنها كذلك من امتصاص الزيادات الكبيرة في أسعار الغذاء وحماية مواطنيها من انعدام الأمن الغذائي.
هل يمكن إنقاذ الموقف؟
توقف الحرب في أوكرانيا وعودة الأسعار إلى مستوياتها قبل العاصفة الثلاثية يمثل بطبيعة الحال مخرجاً مهماً لإنقاذ من يعيشون في خطر المجاعة حالياً، لكن تلك الحلول خارجة عن إرادة الدول العربية.
لكن هناك بعض الإجراءات التي يمكن أن تتخذها الدول العربية، ومنها مساعدة المواطنين الأكثر تضرراً بارتفاع الأسعار من خلال تقديم معونات مالية في هيئة أموال أو قسائم طعام، واعتماد وسائل لإنتاج المحاصيل الغذائية الرئيسية بصورة أكثر استدامة، مع الأخذ في الاعتبار التقلبات الجوية، واستخدام تقنيات زراعية لتحسين الإنتاج، وبذور تتكيف مع الجفاف، ووسائل ري موفرة للمياه، فضلاً عن ضرورة تنويع الدول التي يتم استيراد المواد الغذائية الرئيسية منها، بدلاً من الاعتماد على عدد صغير من البلدان المنتجة، بحسب ما اقترحته توتوفا في حديثها لبي بي سي.
أما أشرف كشك، مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة "دراسات"، فيرى أن تحدي الأمن الغذائي الأخير حمل في طياته فرصة جعله مدخلاً للتعاون الإقليمي "من خلال إيلاء البعد الجغرافي أهمية، في ظل نتائج الإغلاق خلال أزمة كورونا، ومن ذلك زيادة حركة التبادل التجاري، ومن بينه المنتجات الغذائية بين مصر ودول الخليج العربية"، وكذلك "بحث تأسيس إطار جماعي للأمن الغذائي الإقليمي"، ويعطي مثالاً على ذلك بمقترح كويتي لإنشاء شبكة أمن غذائي موحدة لدول الخليج.
وإذا كانت بعض المستجدات في الآونة الأخيرة -كالتغير المناخي والهجمات السيبرانية على سبيل المثال- قد دفعت بالبعض إلى إعادة تعريف الأمن القومي بعيداً عن المفهوم العسكري التقليدي، قال كشك لبي بي سي، إن "تحدي الأمن الغذائي أعاد تعريف الأمن القومي مجدداً، لتكون القدرة على توفير الغذاء الآمن المستدام جوهر ذلك الأمن وركيزته، الذي تتجاوز تهديداته حدود الدول لتطال أقاليم بأسرها".
الخلاصة هنا هي أن الأزمة الثلاثية من حرب أوكرانيا، وتغير المناخ، وبينهما كورونا قد عرّضت الأمن الغذائي لأغلب الدول العربية للخطر، وبات خطر المجاعة يتهدد الملايين، لكن تلك الدول يمكنها اتخاذ إجراءات عاجلة لإنقاذ مواطنيها من الموت جوعاً، فهل تفعلها؟