في صيف عام 2014، وبعدما قام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بضم شبه جزيرة القرم إلى بلاده، لمعت في رأسه فكرة "جهنمية"، وهي: لماذا لا نكرر ما فعلناه في القرم ولكن هذه المرة في الأقاليم الانفصالية الأوكرانية، مادامت جماعات الضغط التي يمولها السيد بوتين في أروقة صناعة القرار في الولايات المتحدة تؤتي أكلها.
فمنذ منذ عام 2008، واللوبي الروسي في واشنطن يمنع فرض أي عقوبات فعالة ضد موسكو؛ رداً على عملياتها العسكرية في جمهوريات الاتحاد السوفييتي، بما فيها القرم، ولعل هذا ما دفع بوتين للتفكير مرة أخرى في المغامرة في أوكرانيا، رغم العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة ودول أوروبية ضد موسكو بعد بدء العمليات العسكرية في فبراير/شباط 2022.
عمل الكرملين قبل غزوه لأوكرانيا على تمويل جماعات الضغط التابعة له في العاصمة الأمريكية بمبالغ طائلة، وعلى مدار القرن الحادي والعشرين، استخدم الكرملين مراراً شركات تديرها الدولة الروسية وشركات أخرى مرتبطة به، لتخفيف التداعيات التي قد تنجم عن مغامرات روسيا الخارجية، وتجنيب الكيانات الروسية أي عقوبات أمريكية شديدة الوطأة.
ما فعلته "جماعات بوتين" قد يعيد إلى الأذهان ما تقوم به جماعات الضغط العاملة في الولايات المتحدة، والتي ينظم عملها دستور البلاد، ما قامت به بعض دول الخليج وإسرائيل خلال السنوات الماضية، ففي الفترة من 2017 إلى 2021 أنفقت دول الخليج ملايين الدولارات للتأثير على صانع القرار في الولايات المتحدة بعد الحصار الذي فرضته دول خليجية على قطر صيف عام 2017، والذي رفع عقب اتفاقية العلا بالمملكة العربية السعودية مطلع العام الماضي.
لكن ورغم دستورية عمل "اللوبي" في الولايات المتحدة، باتت بعض دول الخليج تستخدم نفوذها "غير القانوني" في واشنطن من أجل التأثير على قرارات الإدارة كما حدث في حقبة الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي كان يقوم صهره جاريد كوشنر تقريباً بكل شيء مقابل المال.
في الأسطر القادمة سنسلط الضوء على جماعات الضغط في الولايات المتحدة وطريقة عملها، وأيضاً التطرق إلى أبرز هذه الجماعات وأهم ما قامت به.
ما هي قصة جماعات الضغط؟
إذا كنت تمتلك الأموال المناسبة، سواء كنت فرداً أو جماعة أو دولة أجنبية؛ يمكنك التأثير في مشروعات القوانين الأمريكية من خلال جماعات الضغط، أو ما يعرف باللوبي، التي تعمل كوسيط بين الحكومة الأمريكية وأصحاب المصالح لتحقيق أهدافهم مقابل مبلغ من المال.
يتولى المسؤولون الأمريكيون السابقون القيام بخدمات اللوبي؛ استغلالاً لعلاقاتهم مع مسؤولين حاليين في التأثير على القرارات والقوانين الأمريكية لتحقيق رغبات أصحاب الأموال وممولي هذه الجماعات مقابل رواتب شهرية وسنوية فلكية.
تدور تعريفات جماعات الضغط في معظمها حول القدرة على التأثير على متخذ القرار بشكل غير رسمي وبمصلحة متبادلة، فسواء كان الأصل في اختراع هذا النشاط يعود إلى مسارح لندن، أو فندق أمام البيت الأبيض كان يتم لقاء السياسيين فيهما، فإن الأصل في المسألة أن جماعات الضغط أو المصالح تمارس نشاطها كوسيط بين أصحاب المصالح وأصحاب القرار، ومن ثم يعرف البعض جماعات الضغط بأنها "مجموعة من الأشخاص الذين يسعون للتأثير على النواب والمشرّعين من أجل قضيةٍ ما".
أو أنها جماعات هدفها التأثير على "البرلمان للتصويت مع أو ضد مشروع قانون ما"، وبشكل عام تصف الكلمة عمل الضغط السياسي الذي يحاول التأثير في سياسي أو مسؤول حكومي بشأن موقفه تجاه قضية معينة، أو لدفعه لتغيير القوانين والتشريعات المرتبطة بالقضية.
ولأهمية هذه المهنة فقد وصل عدد ممارسي الضغط المُسجَّلين (أي الذين صرحوا عن أنشطتهم وعن عملهم بمجال الضغط السياسي)، إلى 14 ألفاً و132 فرداً عام 2008، ومنذ ذلك العام قلَّ عدد المسجَّلين ليصل في 2019 إلى 11 ألفاً و885 فرداً.
هل الأمر قانوني؟
قد يظن البعض أن عمل جماعات الضغط أو تحقيق مصالح الغير في السياسة الأمريكية أمر غير شرعي أو مخالف للقانون، على الرغم من أن البعض أحياناً ينطبق عليه هذا الوصف، فقد أباح الدستور الأمريكي للمواطنين الأمريكيين حق إقامة تجمعات شعبية ووظيفية تأخذ على عاتقها المطالبة بحقوقهم؛ من خلال الضغط على حكومات الولايات المتحدة أو السلطة الفدرالية؛ أملاً في الوصول لمطالبهم.
وقد رسخت الولايات المتحدة هذه الظاهرة اعتماداً على التعديل الأول بالدستور الأمريكي الذي تم تبنيه ضمن التعديلات العشرة الأولى من الدستور بـ"وثيقة الحقوق"، وقد تم إقرارها في 15 ديسمبر/كانون الأول 1791، والذي نص على أن "لا يصدر الكونغرس أي قانون خاص بإقامة دين من الأديان أو يمنع حرية ممارسته، أو يحد من حرية الكلام أو الصحافة، أو من حق الناس في الاجتماع سلمياً، وفي مطالبة الحكومة بإنصافهم من الإجحاف".
وبذلك فإن هذا التعديل يحمي 5 حقوق رئيسة ويمنع الكونغرس من سن أي قوانين من شأنها تقييد هذه الحقوق، وخامس هذه الحقوق ذلك المتعلق بحق الشعب في تقديم التماس إلى حكومته من أجل تصحيح المظالم، واعتماداً على الفقرة الأخيرة المتعلقة بحق المواطنين في "مطالبة الحكومة بإنصافهم من الإجحاف"، ومن ثم فإن عمل جماعات الضغط عمل يحكمه الدستور وينظمه القانون كما سنبين لاحقاً.
ما هي قصة قانون فارا؟
قانون "فارا".. "تسجيل الوكلاء (المُمثلين) الأجانب Foreign Agents Registration Act"
يعد هذا القانون أهم قانون أمريكي ينظِّم الضغط السياسي لصالح جهات أجنبية (غير أمريكية)، وقد وضعت النسخة الأولى من القانون عام 1938 بسعي من الرئيس الأمريكي آنذاك، فرانكلين روزفلت، لتخوفه من وجود تمويل من الحزب النازي الألماني يقدمه للحركة النازية داخل أمريكا.
ويُلزم القانون أي شخص داخل الولايات المتحدة يعمل لصالح جهات خارجية أن يفصح عن أنشطته وطبيعتها، ومع أي الجهات يتواصل، وكيف يتصل بها، ويلزم بالإفصاح عن موضوع التواصل وتاريخه، وعن الأموال التي تتلقاها شركات الضغط أو موظفوها، وعن الأموال التي يستعملونها لإتمام عملهم، أو تبرعاتهم للحملات الانتخابية لسياسيين أمريكيين.
ولكن لا تلتزم جميع جماعات الضغط السياسي بالقانون التزاماً كاملاً، وتنشر وزارة العدل الأمريكية كافة سجلات أنشطة الضغط السياسي المسجَّلة لديها في قاعدة بيانات مفتوحة، ومتاحة للاطلاع عليها من موقع الوزارة، وتُحدَّث القاعدة يومياً بالمعلومات والسجلات الجديدة.
ورغم ذلك، تظل مساحة التلاعب مفتوحة وواسعة للعاملين بالضغط السياسي، فهم المسؤولون عن ملء السجلات بالطريقة التي تناسبهم، ونادراً ما تجري محاسبة المتخلفين عن الإفصاح.
وخير دليل على هذه الوقائع ما قام به السفير الإماراتي في واشنطن يوسف العتيبة الذي أقام علاقات خاصة مع مسؤولين أمريكيين، بما فيهم صهر الرئيس السابق دونالد ترامب، للضغط على إدارته لتحقيق مصالح أبوظبي في المنطقة بدعم أمريكي.
في عام 1945 صدر تشريع يُلزم ممارسي الضغط بتعريف أعضاء الكونغرس عن أنفسهم وأنشطتهم وفقاً لشروط ضيقة جداً تحدد من يجب عليه أن يصرح عن نشاطه، وتلاه حكم من المحكمة العليا الأمريكية (أعلى هيئة قضائية أمريكية) في عام 1954 يلزم العاملين بالمجال بالتصريح عن أنفسهم فقط إذا كانوا يتواصلون مع أعضاء الكونغرس، وحصراً بشأن تشريعات جارٍ العمل عليها، وصدر تشريع آخر عام 1995 يلزم ممارسي الضغط بتسجيل بياناتهم وأنشطتهم إذا تلقوا أجراً يزيد على 10 آلاف دولار.
هذه الترسانة الدستورية والقانونية تؤمِّن لجماعات الضغط والمصالح الصفة القانونية، وتمنحها المشروعية باعتبارها تأتي من كونها إحدى الوسائل أو القنوات لنقل مطالب المواطنين والشركات والتجمعات الأخرى إلى السلطة، على عكس ما يوحي به عمل اللوبيات، فالضغط السياسي ممارسة مشروعة وقانونية في الولايات المتحدة، ويحتجُّ لها بالتعديل الأول من الدستور الأمريكي الذي يمنح المواطنين حقَّ "مخاطبة الحكومة" لتصحيح المظالم.
من الذي يعمل في اللوبيات؟
يعمل بمجال الضغط السياسي أشخاص من خلفيات عدَّة، ولكن أهمهم على الإطلاق ممن عملوا سابقاً داخل الحكومة الأمريكية أو بالكونغرس، وتزيد أهمية الفرد كلما كان منصبه السابق أعلى؛ فمثلاً، كبير موظفين عضو في الكونغرس أهم من "مساعد التشريعات" في مكتب العضو، وبالمثل، مساعدو زعماء اللجان وزعماء الحزبين في الكونغرس، أهم من غيرهم.
حيث تستهدف الجهات الأجنبية المسؤولين الحكوميين السابقين، ممن عملوا في البيت الأبيض أو وزارات مثل وزارة الخارجية أو الخزانة الأمريكية، ويمكن أن تستأجر الجهات الأجنبية مسؤولين سابقين في وكالات فيدرالية أمريكية، مثل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) ومكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي (إف بي آي)؛ حيث يدخل المسؤولون السابقون مجال الضغط السياسي بعلاقاتهم مع زملائهم الذين ما زالوا داخل الحكومة أو انتقلوا لمناصب جديدة فيها، وكلما كان المنصب رفيعاً ارتفعت كلفة العقود.
ما هي مهام جماعات الضغط؟
تعد أهم واجبات ومهام هذه الوظائف العمل "لدعم الشركة في جهودها للضغط على الحكومة الفيدرالية والحكومات المحلية، من خلال تحليل آلاف القوانين، وتزويد الإدارة العليا بمعلومات عن الاتجاهات السياسية الحالية والمستقبلية"، وفي بعض الحالات تتطلب الوظيفة خبرة عمل لا تقل عن 3 سنوات في إحدى لجان مجلسي الشيوخ أو النواب، أو العمل في مكاتب أحد أعضاء الكونغرس، كما تتضمن المهام عرض وجهات النظر والتوقعات فيما يتعلق بالميزانية الفيدرالية، والاعتمادات المالية في الكونغرس، وجميع التشريعات المتعلقة بالأعمال التجارية، بما يتفق مع أولويات الشركة وقيمها الراسخة، وتعكس هذه الوظائف صورة عامة لمهام "اللوبيست" المحترفين ضمن فرق الشركات والمؤسسات المختلفة، وقد تغيرت طبيعة هذه الوظائف والمهام المرتبطة بها بصورة كبيرة خلال السنوات الماضية طبقاً للتغير الكبير في طبيعة الاقتصاد الأمريكي.
كيف تعمل جماعات الضغط؟
تمارس الجماعات ذات المصلحة التأثير في المشرعين على مستويات مختلفة، مستخدمة طريقين اثنين: من خلال الضغط على المفاصل الأساسية التي تتحكم في إعادة انتخاب المشرع، وكذلك الإسهام المالي في الحملات الانتخابية، فالتمويل بالإضافة إلى التأثير في المقترعين يسمح للجماعات ذات المصلحة بامتلاك نفوذ أكبر على مسؤوليهم المنتخبين، وهكذا تتكامل الوعود أثناء الحملات الانتخابية مع الحكم.
ويغدو المسؤولون المنتخبون أكثر حساسية واستجابة لمطالب ناخبيهم، وتعمل جماعات الضغط السياسي بطرق عديدة، منها القانوني ومنها ما يجري فيه التلاعب بالقوانين والالتفاف عليها، أو ببساطة بالفساد والرشوة؛ حيث يتواصل العاملون بمجال الضغط السياسي مع أعضاء الكونغرس، وموظفيهم، ومع مسؤولين حكوميين معنيين بالقضية التي يعملون عليها، ويقدمون أبحاثاً ومعلومات وخلاصات بشأن هذه القضايا تعزز موقف زبائنهم، أو على أقل تقدير يُشعرون الجهات الحكومية المعنية بموقف زبائنهم في قضايا محددة.