لا يتوقف الزلزال الذي تعرضت له أسواق النفط بعد الهجوم على أوكرانيا والحديث عن حظر النفط الروسي عند الأسعار فقط، فخريطة الأسواق تتغير بشكل متسارع، وهناك مستفيدون مثل الهند وغيرها، فما القصة؟
روسيا أحد أبرز منتجي ومصدري الطاقة، وهي لاعب رئيسي في سوق النفط والغاز، ولأن أوروبا هي المستورد الرئيسي لنفط روسيا وغازها فإن الطلاق المتوقع بين الطرفين سيؤدي على الأرجح إلى إعادة تشكيل الأسواق العالمية، في ظل سعي الأوروبيين للبحث عن موردين جدد، وسعي الروس للاتفاق مع مستوردين جدد.
صحيفة New York Times الأمريكية نشرت تقريراً عنوانه "حظر أوروبا للنفط الروسي قد يؤسس لنظامٍ عالمي جديد في مجال الطاقة"، تناول تفاصيل تلك التغييرات الضخمة وبعض الأطراف أو الدول والشركات التي تصنف ضمن خانة الرابحين والعكس.
صدمة جديدة لاقتصاد العالم
من المحتمل أن يتمخّض عن حظر الاتحاد الأوروبي غالبية واردات النفط الروسي صدمة جديدة لاقتصاد العالم، ما سيؤدي إلى إعادة تنظيم تجارة الطاقة العالمية على نحوٍ قد يجعل روسيا أضعف من الناحية الاقتصادية، كما يأمل الغرب، وقد يمنح الواقع الجديد الصين والهند قوة تفاوض، ويضخ مزيداً من الأموال في خزائن الدول المنتجة مثل السعودية.
ويمكن القول إن دول الاتحاد الأوروبي تسعى الآن لاستبدال روسيا كمُورّد نفطي بدولٍ مصدرة غير مستقرة في الشرق الأوسط.
ولا شك أن رحلة بحث أوروبا عن موردين جدد للنفط، ورحلة روسيا للعثور على مشترين جدد لنفطها، ستؤثر على دول العالم أجمع بلا استثناء وفقاً لخبراء الطاقة. لكن يظل من الصعب تحديد التأثير المحتمل على كل دولة أو شركة، لأن تجار ومسؤولي شركات الطاقة يستجيبون للأوضاع الجديدة بطرقٍ مختلفة، بحسب نيويورك تايمز.
لماذا لا تخشى الهند والصين ارتفاع أسعار النفط؟
ربما تكون الصين والهند بمنأى عن أعباء ارتفاع أسعار النفط، لأن روسيا تبيعهما النفط بخصومات على الأسعار العالمية. وأصبحت روسيا على مدار الأشهر القليلة الماضية ثاني أكبر مورد للنفط إلى الهند، متفوقةً بذلك على كبار الدول المنتجة الأخرى مثل السعودية والإمارات.
وتمتلك الهند العديد من المصافي النفطية الكبرى التي تستطيع جني أرباحٍ هائلة من تكرير النفط الروسي وتحويله إلى الديزل وغيره من أشكال الوقود المطلوبة بشدة حول العالم.
بينما يستهدف زعماء الغرب في النهاية إضعاف قدرة الرئيس فلاديمير بوتين على مواصلة الحرب في أوكرانيا أو تهديد دول أخرى، عن طريق حرمانه من مبيعات طاقة بمليارات الدولارات.
ويأملون أن تُجبر خطواتهم منتجي النفط الروس على إغلاق الآبار، لأن روسيا تملك الكثير من الأماكن الخاصة بتخزين النفط، في انتظار العثور على مشترين جدد، لكن هذه الجهود تظل محفوفةً بالمخاطر وقابلةً للفشل، إذ قد لا تتراجع عائدات النفط الروسية إجمالاً بشكلٍ كبير في حال ارتفاع الأسعار بدرجةٍ كبيرة.
وتنتظر الدول الأخرى المنتجة للنفط مثل السعودية، والشركات الغربية مثل Exxon Mobil وBP وShell وChevron، تحقيق مكاسب جيدة أيضاً لأن أسعار النفط ارتفعت ببساطة، لكن الجانب السلبي هنا هو أن المستهلكين -والشركات- حول العالم سيضطرون لدفع المزيد مقابل كل لتر من الوقود وكل سلعة يجري شحنها في الشاحنات وعربات القطارات.
إذ قال روبرت ماكنالي، مستشار الطاقة في إدارة جورج بوش الابن، لصحيفة نيويورك تايمز: "نحن أمام حدثٍ تاريخي كبير سيعيد تشكيل العلاقات التجارية، والسياسية، والجيوسياسية على حدٍّ سواء".
ماذا تفعل أوروبا لاستبدال النفط الروسي؟
لم يكشف مسؤولو الاتحاد الأوروبي بعد عن كافة تفاصيل جهودهم لتقليص صادرات النفط الروسية، لكنهم أوضحوا أن تلك السياسات ستدخل حيز التنفيذ على مدار عدة أشهر. ولا شك أن الغرض من ذلك هو منح الأوروبيين وقتاً للاستعداد، لكن روسيا ستحصل مع شركائها على وقتٍ لابتكار أساليب للتحايل على العقوبات أيضاً، ومن الصعب التنبؤ بهوية الطرف الذي سيتكيف مع الواقع الجديد بصورةٍ أفضل.
كما قال الاتحاد الأوروبي إن الشركات الأوروبية لن يُسمح لها مستقبلاً بالتأمين على الناقلات التي تحمل النفط الروسي إلى أي مكان، لكن هذا الحظر سيدخل حيز التنفيذ تدريجياً على مدار عدة أشهر. ومن المحتمل أن تؤدي هذه الخطوة تحديداً إلى زيادةٍ كبيرة في تكاليف شحن الطاقة الروسية؛ نظراً لوجود العديد من شركات التأمين العالمية الكبرى في أوروبا، لكن شركات التأمين الصينية، والهندية، والروسية قد تحصل على حصةٍ من تلك العقود.
فيما قال بعض محللي الطاقة إنّ الجهود الأوروبية الجديدة قد تساعد في فك ارتباط أوروبا بالطاقة الروسية، وتحد من نفوذ بوتين السياسي على الدول الغربية.
حيث أوضحت ميغان أوسوليفان، مديرة مشروع الجغرافيا السياسية للطاقة في كلية كينيدي بجامعة هارفارد: "ستكون هناك العديد من التداعيات الجيوسياسية، إذ سيقرب الحظر الولايات المتحدة من اقتصاد الطاقة العالمي أكثر، فضلاً عن توطيد علاقات الطاقة بين روسيا والصين".
ويأمل زعماء الغرب أن تؤدي خطواتهم كذلك إلى تقليص مكانة روسيا في صناعة الطاقة العالمية. والفكرة هنا هي أن روسيا ستصدر نفطاً أقل إجمالاً، رغم جهودها للعثور على مشترين جدد في الصين، والهند، وغيرهما من الدول. وستضطر الشركات المُنتجة الروسية بسبب ذلك إلى إغلاق الآبار، التي لن يكون من السهل إعادة تشغيلها بسبب صعوبات التنقيب وإنتاج النفط داخل حقول القطب الشمالي.
ومع ذلك يُمكن وصف السياسة الأوروبية الجديدة بأنها جاءت نتاجاً للتسويات بين الدول التي يمكنها استبدال الطاقة الروسية بسهولة، وبين الدول التي لا يمكنها وقف اعتمادها على موسكو بسهولة -مثل المجر- أو لا ترغب في ذلك ببساطة. ولهذا استثنت السياسة 800 ألف برميل يومياً من النفط الروسي المتجه إلى أوروبا عبر خط الأنابيب في الوقت الحالي.
بدائل النفط الروسي شحيحة
وحذّر بعض خبراء الطاقة من أن تسويات من هذه النوعية قد تقوض فاعلية الجهود الأوروبية الجديدة، ومن المرجح أن يستمر اعتماد أوروبا على الغاز الطبيعي الروسي لفترةٍ قد تصل إلى سنوات، رغم الحظر المفروض على النفط. ما قد يحفظ لبوتين قدراً من نفوذه، خاصةً في حال ارتفاع الطلب على الغاز بالتزامن مع برد الشتاء.
ولا يمتلك زعماء أوروبا الكثير من البدائل للغاز الروسي؛ لأن كبار الدول المصدرة الأخرى -الولايات المتحدة وأستراليا وقطر- لا يمكنها زيادة صادراتها بدرجةٍ كبيرة على الفور.
فيما تمتلك روسيا أيضاً بعض الأوراق الأخرى التي يمكنها استغلالها لصالحها، ومن شأنها أن تقوض فاعلية الحظر الأوروبي. إذ تُعَدُّ الصين سوقاً متنامية بالنسبة لروسيا، حيث يربط بين البلدين خط أنابيب يعمل بسعته الكاملة تقريباً، لكن الصين زادت شحنات ناقلات النفط من الخام الروسي في الأشهر الأخيرة أيضاً.
وربما تخسر السعودية وإيران نتيجة زيادة المبيعات الروسية إلى الصين، كما اضطر البائعون في الشرق الأوسط لخفض أسعارهم من أجل منافسة الخام الروسي الذي يُعرض بخصومات كبيرة.
وقالت ميغان إن العلاقة بين روسيا والسعودية وبقية الدول الأعضاء في تحالف أوبك+ قد تزداد تعقيداً "في ظل تنافس موسكو والرياض من أجل بناء والحفاظ على حصتيهما من السوق الصينية".
واستفادت كبرى الدول المنتجة للنفط، مثل السعودية والإمارات، من الحرب الدائرة في أوروبا إجمالاً، رغم تعثر العلاقات التجارية على صعيد الطاقة؛ إذ أصبحت العديد من الدول الأوروبية الآن أكثر رغبةً في شراء المزيد من النفط الشرق أوسطي. وتشهد عائدات تصدير النفط السعودي صعوداً مستمراً قد تحقق معه رقماً قياسياً في العام الجاري، وفقاً لإحصاءات Middle East Petroleum & Economic Publications التي تتابع الصناعة، حيث ارتفع فائض التجارة السعودي إلى أكثر من 250 مليار دولار.
لماذا الهند من كبار المستفيدين؟
وتُعد الهند من المستفيدين أيضاً بفضل امتلاكها مصافي نفطية كبيرة، قادرة على تكرير الخام الروسي وتحويله إلى وقود الديزل، الذي قد ينتهي به المطاف في أوروبا، حتى لو كانت روسيا هي مصدر المواد الخام المستخدمة في صنعه. وقال محللو RBC Capital Markets في تقريرٍ نُشِرَ مؤخراً: "بدأت الهند تتحول إلى مركز التكرير الفعلي لأوروبا".
لكن شراء الديزل من الهند سيرفع التكاليف داخل أوروبا؛ نظراً لأن تكلفة شحن الوقود من الهند أكبر من تكلفة ضخه عبر خطوط الأنابيب من المصافي الروسية. وأوضح المحللون: "تكمن العاقبة غير المقصودة هنا في أن أوروبا ستستورد التضخم فعلياً ثم تحمله لمواطنيها".
من جانبها أصبحت الهند تحصل على 600 ألف برميل من روسيا يومياً، بعد أن كانت تستورد 90 ألف برميل فقط في العام الماضي، حين كانت روسيا من مورِّديها الصغار نسبياً، لكن روسيا أصبحت الآن ثاني أكبر مُوردٍ للهند بعد العراق.
ومع ذلك قد تجد الهند صعوبةً في مواصلة شراء النفط الروسي إذا أدت قيود الاتحاد الأوروبي على شركات التأمين إلى رفع تكلفة شحن النفط الروسي أكثر من اللازم.
من جانبها، قالت حليمة كروفت، رئيسة استراتيجيات السلع في RBC: "ستظل الهند من الرابحين هنا حتى تضربها العقوبات الثانوية".