تهريب الآثار المصرية ليس جديداً، لكن ما كشفته القضية المتهم فيها المدير السابق لمتحف اللوفر يكشف تفاصيل جديدة عن كيفية استمرار تلك العمليات رغم أنها أصبحت مجرّمة قبل عقود؟
القوانين المصرية كانت فيما سبق تعطي بعثات التنقيب الأجنبية الحق في الحصول على نصف الآثار التي تكتشفها تلك البعثات، كما أن تجارة الآثار نفسها كانت مشروعة، وكان هناك بازار ملحق بالمتحف المصري في القاهرة يبيع قطع الآثار الأصلية، التي تكون مكررة.
والمفترض أن استنزاف الآثار المصرية وتفرقها حول العالم بشكل رسمي قد توقف مع صدور قانون حماية الآثار 117 لسنة 1983، الذي حظر تجارة الآثار، وخفض ذلك القانون النسبة التي تحصل عليها البعثات الأجنبية من الآثار المكتشفة إلى 10% بشرط التكرار، ولأغراض البحث العلمي والعرض المتحفي فقط. وفي فبراير/شباط 2010، تم تعديل القانون لتصبح جميع الآثار المكتشفة ملكاً للدولة.
وفي 2018 غُلّظت عقوبات نهب وتهريب الآثار، لتصل عقوبة القيام بأعمال التنقيب عن الآثار دون ترخيص إلى السجن مدة تتراوح بين 3 و7 سنوات، وبغرامة بين نصف مليون أو مليون جنيه، في حين تصل عقوبة تهريب الآثار إلى الخارج إلى السجن المؤبد، وغرامة لا تقل عن مليون جنيه، ولا تزيد على 10 ملايين جنيه.
الآثار المصرية وقضية اللوفر
لكن تغليظ القوانين لم يمنع استمرار تهريب وسرقة الآثار المصرية والاتجار فيها، ما يطرح تساؤلات كثيرة بشأن كيفية تداول بعض أشهر القطع الأثرية الفرعونية، ووصولها إلى أشهر متاحف العالم. تقرير لشبكة France Inter الفرنسية عنوانه "تهريب الآثار: 5 أسئلة عن لائحة اتهام المدير السابق لمتحف اللوفر"، يلقي بعضاً من الضوء على تلك القضية.
ورصد تقرير الشبكة الفرنسية الزلزال الذي هز عالم سوق الفن السري، حينما واجه الرئيس السابق ومدير متحف اللوفر، جان لوك مارتينيز، يوم الأربعاء 25 مايو/أيار، في باريس، اتهامات بـ"غسيل الأموال والتواطؤ في الاحتيال المنظم"، في تحقيق في الاتجار بالآثار من الشرقين الأدنى والأوسط.
كان الرجل الذي يترأس المؤسسة التراثية الأعرق في العالم منذ ثماني سنوات محتجزاً لدى الشرطة، منذ يوم الإثنين 23 مايو/أيار. وأهم بند في تلك القضية عبارة عن لوحة محفور عليها اسم توت عنخ آمون، أشهر ملوك الفراعنة وأصغرهم سناً، بالإضافة إلى أربع قطع أخرى.
نعم شارك جان لوك مارتينيز بخبرته في عمليات التهريب، لكن الشكوك لا تزال قائمة حتى اليوم حول مصدرها، فمن هو جان-لوك مارتينيز؟
جان لوك مارتينيز -ابن حارسة عقار وساعي بريد- عالم آثار ومؤرخ فنون مشهور. وهو أول أمين لمتحف اللوفر، وارتقى في المناصب وصولاً لقيادة متحف اللوفر بين 2013 وصيف 2021. وكان يتنافس على ولاية ثالثة في رئاسة المتحف، لكن رئيس الجمهورية اختار أخيراً عزله، وفضّل تعيين لورنس دي كار، المدير السابق لمتحف أورسي.
وفي عام 2015، مع انهيار التراث السوري والعراقي تحت قصف الحرب، وقّع تقريراً للرئيس هولاند: "خمسون اقتراحاً فرنسياً لحماية التراث الإنساني". وجان لوك مارتينيز هو الآن سفير التعاون الدولي في مجال التراث.
لماذا هو متهم وما القطع المصرية محل الاتهام؟
يُشتبَه في ارتباط جان لوك مارتينيز بالاتجار بالآثار من الشرقين الأدنى والأوسط. وبحسب صحيفة Le Canard enchaîné، التي كانت قد أعلنت عن احتجازه لدى الشرطة، فإنَّ المحققين يحاولون معرفة ما إذا كان قد "أغمض عينيه" عن شهادات منشأ مزورة لخمس قطع أثرية مصرية، اقتُنِيَت "مقابل عشرات الملايين من اليورو" لمتحف اللوفر في أبوظبي، فرع المتحف الباريسي في عاصمة الإمارات العربية المتحدة.
ما القطع الأثرية التي تشملها لائحة الاتهام؟ من بين هذه القطع لوحة من الغرانيت الوردي، يبلغ ارتفاعها 1.70 متر، محفور عليها اسم الملك توت عنخ آمون، الفرعون الحادي عشر من الأسرة الثامنة عشرة لمصر القديمة.
ووصف عالم المصريات مارك غابولد، في مقابلة مع صحيفة Le Monde اليومية، اللوحة الحجرية بأنها "قطعة استثنائية من أكثر من ناحية"؛ فهي سليمة، وهو أمر "غير مألوف بالنسبة للملك الذي تعرضت مبانيه، باستثناء القبر، للتخريب".
وحصل متحف اللوفر أبوظبي على هذه اللوحة عام 2016، إلى جانب قطع أخرى، بمبلغ إجمالي قدره 15.2 مليون يورو. وهذه القطعة هي محور تحقيق دولي واسع النطاق في الاتجار بالآثار، ويريد المحققون معرفة الدور الدقيق الذي أسهم به المدير السابق لمتحف اللوفر في تهريبها.
متى بدأ التحقيق؟
بدأ تحقيق أولي في شبهات الاتجار بالآثار من دول غير مستقرة في الشرقين الأدنى والأوسط، في يوليو/تموز 2018، وعُهِد إلى قاضٍ بالتحقيق. وينظر هذا التحقيق في تهريب مئات القطع بقيمة عدة عشرات من الملايين من اليورو. ويحاول المحققون معرفة ما إذا كانت عشرات الآثار قد نُهبت في بلدان كانت في حالة حرب أو غير مستقرة منذ ظهور الربيع العربي: في مصر أو ليبيا أو اليمن أو سوريا.
وكان من الممكن أخذ هذه القطع الفنية عن طريق الاحتيال من بلدها الأصلي و"غسلها" باستخدام شهادات المنشأ المزيفة. ويشتبه في تورط شخصين رفيعي المستوى في عالم الآثار بالعاصمة الفرنسية "بغسل" هذه القطع الأثرية؛ وهما الخبير في علم آثار البحر الأبيض المتوسط، كريستوف كونيكي، وشريكه ريتشارد سمبر، التاجر. ووجهت إليهما لائحة اتهام في عام 2020، بعد حملة ضبط مدوية.
وظهر اسمهما في فضيحة أخرى، وهي قضية تابوت الكاهن "نجم عنخ". باع كريستوف كونيكي هذا التابوت إلى متحف الميتروبوليتان في نيويورك في عام 2017 مقابل 3.5 مليون يورو، وأعيد هذا التابوت رسمياً إلى مصر في عام 2019.
وأثبت تحقيق أنَّ القطعة قد سُرِقَت في عام 2011، عام الانتفاضة ضد نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك. وفي عام 2016، وُجِدَت اللوحة الحجرية لتوت عنخ آمون نفسها معروضة على لجنة الاستحواذ في متحف اللوفر أبوظبي، وذلك بوساطة من كريستوف كونيكي، ولذلك فإنَّ نفس الأبطال هم في قلب موضوع قضية تهريب اللوحة.
ماذا قال جان لوك مارتينيز دفاعاً عن نفسه؟
رد محاميا مارتينيز، جاكلين لافون، وفرانسوا أرتوبيل، على وكالة Agence France-Presse، قائلين إنَّ "جان لوك مارتينيز يعارض بشدة استجوابه في هذه القضية… ويحتفظ بأقواله في الوقت الحالي للمحاكم، وليس لديه أدنى شك في أنَّ حسن نيته سيُثبَت".
واحتجزت الشرطة أيضاً، يوم الإثنين 23 مايو/أيار، اثنين من علماء المصريات الفرنسيين البارزين، هما فينسينت روندو، المدير الحالي لقسم الآثار المصرية في متحف اللوفر، وأوليفييه بيردو، عالم المصريات الملحق بقسم علم المصريات في مؤسسة Collège de France للبحث العلمي. وأُفرِج عنهما في هذه المرحلة دون توجيه اتهامات إليهما، بحسب تصريح من مصدر قضائي لوكالة Agence France-Presse.