لا تزال أزمة الغذاء العالمية تتفاقم؛ نتيجة لاستمرار الحرب الروسية في أوكرانيا، وإصرار الغرب على فرض مزيد من العقوبات على موسكو، فهل توجد حلول عاجلة لتفادي خطر المجاعة؟
قدمت شبكة NBC News الأمريكية الإجابة، من خلال تقرير لها عنوانه "الحصار الروسي للحبوب يشعل أزمة غذاء عالمية لكن قد يكون هنالك حل بسيط"، رصد تفاصيل الكابوس اللوجيستي لإيجاد طرق بديلة لتصدير القمح والشعير من أوكرانيا، وقدم التقرير بعض الحلول، من وجهة النظر الغربية بطبيعة الحال.
وتتبادل روسيا وأمريكا الاتهامات بشأن المسؤولية عن أزمة الغذاء التي يعاني منها العالم وتهدد الملايين بالجوع، فالمؤكد هو أن الهجوم الروسي على أوكرانيا قد أدى إلى ارتفاعات قياسية في أسعار الغذاء عالمياً، وبات شبح المجاعة يتهدد مئات الملايين من الناس حول العالم، لكن تحديد المسؤولية عن اندلاع الأزمة يظل مهمة شبه مستحيلة.
على أية حال، وبعيداً عن تبادل الاتهامات، الأمر الواقع الآن يقول إن المزارعين الأوكرانيين لديهم ما يُقدَّر بـ22 مليون طن متري من الحبوب العالقة في المخازن، وأصبح سباقهم من أجل زراعة محاصيل جديدة وفي نفس الوقت شحن هذه المساهمة الكبيرة وإدخالها إلى إمدادات الغذاء العالمية مسألة مُلحة بالنسبة للمسؤولين من أوروبا وحتى إفريقيا، الذين يخشون من أزمة جوع عالمية النطاق.
كيف تبدو الأوضاع على الأرض في مَزارع أوكرانيا؟
دميتري سكورنياكوف، هو المدير التنفيذي لشركة Harvest Holdings القابضة، وهي واحدة من كبريات شركات الزراعة في أوكرانيا، أو على الأقل كان كذلك، قبل أن تشن روسيا هجومها على أوكرانيا، وهي الدولة التي توصف بأنَّها "سلة غذاء أوروبا".
كانت الشركة تملك نحو 500 ألف فدان من الأراضي الزراعية الأوكرانية في 2014. وكان لديها بعض الحقول الأصغر قرب كييف، وكانت تملك مساحات واسعة من الأراضي حول مدينة ماريوبول وفي إقليم دونباس شرقي البلاد. بات لا يمكن الوصول إلى معظم هذه الأراضي الآن، فنحو 20 ألف فدان قرب العاصمة باتت مُغطاة بالألغام الروسية، وقرابة 350 ألف فدان في شرق البلاد باتت مُحتلة من جانب قوات الكرملين، بحسب تقرير الشبكة الأمريكية.
يعجز المزارعون في أنحاء هذه البلاد عن زراعة أراضيهم؛ ما يؤدي إلى تفويت موسم زراعي بالغ الأهمية في حين يعانون أيضاً من أجل شحن محاصيلهم المحصودة إلى الخارج بسبب الحصار الروسي المفروض على الموانئ الأوكرانية بالغة الأهمية على البحر الأسود. وفي الوقت نفسه، تجعل أزمة البنزين ومعارك الدبابات والمدفعية الجارية الحفاظ على الأراضي البسيطة التي لا تزال لديهم مهمةً صعبة للغاية.
قال سكورنياكوف للشبكة الأمريكية: "لم نعد نتحدث عن الربح"، مضيفاً أنَّ بلاده تتبَّعت أيضاً معدات زراعية سرقتها القوات الروسية عبر نظام تحديد المواقع العالمي (GPS)، وصولاً إلى البر الروسي وشبه جزيرة القرم التي ضمَّتها روسيا إليها. وتابع: "إنَّنا نتحدث عن البقاء".
تُعَد أوكرانيا وروسيا مسؤولتين عن ثلث صادرات القمح والشعير، التي تعتمد عليها البلدان في الشرق الأوسط وإفريقيا لإطعام ملايين الناس الذين يعيشون على الخبز المدعوم.
ويدفع نقص الحبوب الأوكرانية باتجاه ارتفاع أسعار الغذاء، ويضغط على البُلدان التي تواجه بالفعل نقصاً في الغذاء يمضي باتجاه المجاعة. وأكَّد القادة في مؤتمر دافوس الاقتصادي على الرابط بين موانئ أوديسا المحاصرة وملايين الأشخاص المُهدَّدين بالموت جوعاً في بلدان مثل أفغانستان وهايتي ولبنان والصومال وغيرها.
وفي ظل قلة الحلول الجيدة، سعت الولايات المتحدة وحلفاؤها لتوضيح الطرف الذي يشعرون أنَّه المسؤول. فاتهمت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، روسيا بـ"الابتزاز"، وقالت الأسبوع الماضي إنَّ الكرملين يوقف إمداداته من الحبوب بعدما هاجم منشآت التخزين الأوكرانية واستولى على المخزون، كل ذلك بينما يحاصر موانئ البلاد.
تفاصيل الكابوس اللوجيستي في أوروبا
ولأنَّ الكثير من المزارعين فوَّتوا موسماً زراعياً مهماً، فإنَّهم ليسوا غير قادرين على نقل دوَّار الشمس والقمح والذرة والسلع الزراعية الأخرى التي خزَّنوها وحسب، بل وربما لا يجدون أصلاً ما يحصدونه بحلول المرة القادمة التي يحين فيها موسم الحصاد.
ووفقاً للمركز الدولي لتطوير الأسمدة، يتسبب الهجوم الروسي على أوكرانيا كذلك في تداعيات سلبية أخرى على إنتاج المحاصيل في بلدان تقع على بُعد آلاف الكيلومترات، إذ تُعَد روسيا وبيلاروسيا، اللتان خضعتا للعقوبات عقب اندلاع الحرب، مسؤولتين عن 40% من أسمدة البوتاسيوم.
وحذَّر الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، من أنَّ تراجع الإمدادات الغذائية بسبب الحرب في أوكرانيا والجائحة والتغير المناخي يمكن أن يؤدي إلى اضطرابات عالمية.
لكن من وجهة النظر الروسية، فإن موسكو تنفي أن يكون الأمر خطأها وتلقي باللوم على الغرب. وأشار الكرملين هذا الأسبوع إلى أنَّه مستعد لرفع الحصار وتصدير حبوبه وسماده، فقط إذا رفعت الولايات المتحدة وحلفاؤها العقوبات التي فُرِضَت عقب الهجوم على أوكرانيا، الذي تصفه موسكو بأنه عملية عسكرية خاصة بينما يراه الغرب غزواً.
أما عن تفاصيل ما يمكن وصفه بالكابوس اللوجيستي، فقد ذكرت شبكة NBC News أنه تعيَّن على وحدة متفجرات أوكرانية استخراج صاروخ من حقل زراعي قرب كييف قبل أن يتمكَّن المزارعون هناك من نثر البذور. وكانت الخنادق والثقوب لا تزال محفورة في أجزاء من الأرض. ولا يزال السكان المحليون يحملون بنادق كلاشينكوف ويقيمون نقاط تفتيش صارمة قرب الحقول والبنية التحتية الزراعية.
قال تاراس إيفانيشين، مدير الاستثمار بشركة Agro-Region، وهي شركة زراعية كبرى، في حين أنَّ قوات الكرملين قد رحلت قبل وقت طويل، لا يزال هناك تخوف مستمر من أن تستهدف الصواريخ الروسية مخازن الحبوب وحقول الزراعة لتقويض الاقتصاد الزراعي أكثر.
لكن لا يوجد الكثير مما يمكنهم عمله حيال ذلك. وأوضح إيفانيشين أنَّ التحدي الرئيسي الآن هو نقل أطنان الحبوب العالقة في المخازن. وقال إنَّ المزارعين الأوكرانيين يعتمدون على التصدير بسرعة وينقلون الغالبية العظمى من مخزوناتهم عبر البحر الأسود.
لكنَّ هذه الموانئ الآن تخضع للسيطرة الروسية أو تحاصرها بحرية موسكو. ويعني ذلك أنَّه بالإمكان استخدام حفنة من الموانئ الصغيرة على نهر الدانوب في جنوب غرب أوكرانيا؛ حيث يتدفق المجرى المائي إلى المياه الرومانية، لنقل السلع.
قال إيفانيشين للشبكة الأمريكية: "لدينا كمية كبيرة من الحبوب التي يتعين تصديرها عبر طرق لسنا معتادين عليها. ولهذا لدينا طوابير مكتظة عند المعابر الحدودية والموانئ النهرية. لا يمكنني الكشف عن كل شيء؛ لأنَّ ذلك خطير. قال بعض منافسينا أكثر من اللازم وتعرَّضوا للقصف".
وبدون البحر وفي ظل توقف النقل الجوي، لا يتبقى الكثير من الخيارات الجيدة لنقل المحاصيل. وقد تحول الكثير من المزارعين والشركات الزراعية إلى شحن الحبوب على متن الشاحنات أو بالقطارات، لكن هناك العديد من الجوانب السلبية، فنقص الوقود يجعل من الشاحنات مقترحاً مخيفاً، ويمكن للشاحنات والقطارات نقل جزء بسيط فقط مما يمكن للسفن في البحر الأسود حمله، وتصطف الشاحنات والقطارات حالياً في طوابير عند حدود أوكرانيا.
ورأت شبكة NBC News طابور شاحنات عند الحدود مع بولندا خلال مايو/أيار يمتد لمسافة أكثر من 10 أميال (16 كم تقريباً)؛ إذ كانت القطارات شريان حياة حيوياً لأوكرانيا من أجل نقل إمداداتها ومواطنيها عبر أرجاء البلاد خلال الحرب، ونقل الغذاء ليس استثناءً من ذلك. لكنَّ ذلك يتحول أيضاً إلى عنق زجاجة.
قال أولكسندر بيرتسوفسكي، الرئيس التنفيذي لقطاع قطارات الركاب في السكك الحديدية الأوكرانية: "ليس المزارعون فحسب، بل الجميع تقريباً، وكل سلعة، بما في ذلك الفحم والتعدين، يستخدمون السكك الحديدية. ومن خلال شبكة السكك الحديدية، لدينا فقط إمكانية للوصول إلى ميناءين صغيرين في دلتا نهر الدانوب، والآن في ظل الهجمات على الجسور في هذه المناطق، فإنَّ هذا أيضاً مُهدَّد".
مع ذلك، قال بيرتسوفسكي إنَّهم يعملون على زيادة الطاقة الاستيعابية هناك، ويستثمرون في روافع حبوب جديدة. لكنَّ التحدي الأكبر الذي يواجهونه لمعالجة نقص الحبوب ليس الضربات الصاروخية الروسية، بل عجلات القطارات.
تستخدم أوكرانيا معيار اتساع سكة حديد مختلفاً عن الأوروبيين، بفارق 85 ملم، يعود إلى عصر القياصرة والإمبراطوريات، ويعني هذا أنَّه حين يصل قطار أوكراني إلى البلدان المجاورة، يتعيَّن تفريغ كل شيء على متن القطار وتحميله على قطار آخر متوافق مع المسارات الأوروبية، وهو ما يخلق كابوساً لوجيستياً.
قال رومان سلاستون، الرئيس التنفيذي لنادي الأنشطة الزراعية الأوكراني، الذي يمثل جماعة ضغط نافذة في كييف، إنَّ اختلاف المعيار يمثل صداعاً كبيراً، لكنَّ المزارعين لا يزالون يعملون بجهد لنقل محاصيلهم بينما يقومون بالزراعة أيضاً حيثما أمكنهم ذلك. وقال: "نُحمِّل على العربات أكثر بكثير مما يمكننا تصديره، ولدينا الآن طوابير ضخمة- لـ10 أيام وأحياناً 20 يوماً- عند كل نقطة عبور حدودية".
ألا توجد حلول إذاً؟ روسيا!
هنالك دعوات متزايدة من قادة العالم لإيجاد حل، لكن من شأن ذلك أن يتطلَّب تغييرات كبرى في البنية التحتية للنقل في أوكرانيا وبروتوكولات الحدود. ولا يمكن حل ذلك بين عشيةٍ وضحاها، وهو ما يؤدي إلى اقتراحات "أكثر جرأة"، بحسب تقرير الشبكة الأمريكية.
ومن هذه المقترحات ما قالت ليتوانيا إنها مهمة تشكيل "تحالف بحري للراغبين" بكسر الحصار الروسي باستخدام أسطول يرافق السفن المُحمَّلة بالحبوب من الموانئ الأوكرانية، وقال الليتوانيون إنَّ المقترح حظي بدعم بريطانيا حين التقى وزيرا خارجية البلدين يوم 23 مايو/أيار.
لكنَّ المملكة المتحدة نفت أنَّ لديها أي نية لنشر سفنها البحرية في البحر الأسود، وأشارت إلى أنَّه سيتعين عليها تقديم إشعار للحكومة التركية قبل 15 يوماً من الدخول إلى البحر، وهي قاعدة تنظيمية لحركة المرور في البحر الأسود، وهو أمر معروف للكافة.
مثل هذه الأفكار محفوفة بالخطر الجيوسياسي بطبيعة الحال، فهي لا تختلف كثيراً عن فرض منطقة حظر طيران أو إرسال طائرات عسكرية وأسلحة طويلة المدى لأوكرانيا، وهي مطالب كييف التي رفضتها واشنطن خوفاً من التصعيد وتحول الحرب إلى مواجهة بين روسيا وحلف الناتو.
لذلك يعتمد العالم حالياً على حلول أكثر بساطة، فيعمل الاتحاد الأوروبي، منذ أبريل/نيسان الماضي، على خطط للمساعدة في إنشاء "ممرات تضامن" لإزالة بعض العقبات اللوجيستية.
والهدف هو إقامة طرق وروابط بديلة مع موانئ الاتحاد الأوروبي يمكن أن تساعد في شحن السلع إلى مناطق أبعد وبسعة تخزينية أكبر أيضاً. وطرحت المفوضية الأوروبية خطة عمل من شأنها زيادة سعة الشحن، وتوسيع القدرة الاستيعابية لشبكات النقل، ورفع بعض شروط الفحص، وتحسين الروابط عبر الحدود.
وأعلنت ليتوانيا مؤخراً أنَّها تلقَّت أولى شحناتها من الحبوب عبر السكك الحديدية من أوكرانيا كجزء من جهود جديدة. وسيجري الآن شحنها إلى مختلف أنحاء العالم عبر مينائها المطل على بحر البلطيق، في حين لا تزال ملايين الأطنان المترية عالقة وسط الحرب الروسية.
وقال وزير الزراعة الأمريكي، توم فيلساك، للصحفيين بعد اللقاء مع قادة مجموعة الدول السبع الصناعية أواخر مايو/أيار: "الكل يخمن ما إن كانوا سيتمكنون من إخراجها، لكن ستُبذَل جهوداً كبيرة لإخراجها".
الخلاصة هنا هي أنه قد تكون هناك حلول لأزمة الغذاء العالمية على المديين المتوسط والطويل، من خلال زيادة إنتاج القمح في أماكن أخرى من العالم على سبيل المثال، لكن الواضح أن أي حلول عاجلة لتوصيل الحبوب الأوكرانية والروسية أيضاً إلى من هم بأمَس الحاجة إليها حول العالم تظل غير ممكنة من الناحية العملية دون أن تكون روسيا طرفاً في تلك الحلول.