جسِّد الأفيون في أفغانستان على مدى سنوات صورة وحشٍ كبيرٍ للغاية لدرجةٍ يصعُب معها التخلص منه. تعهدت الحكومات الأفغانية المتعاقبة بالقضاء على إنتاج الأفيون والاتجار فيه، لكنها أثبتت عجزها عن مقاومة الأرباح غير المشروعة التي يدرّها والتي تصل إلى مليارات الدولارات.
نجحت حكومة طالبان في تسعينيات القرن الماضي في خفض زراعة الأفيون. ولكن في أعقاب الغزو الذي قادته الولايات المتحدة في عام 2001، قدمت الضرائب على الأفيون وعمليات التهريب يدَ العون إلى العمليات المسلحة التي نفذتها طالبان نفسها على مدى 20 عاماً، كما تقول التقارير الأمريكية.
وبعد عودة طالبان في الوقت الراهن إلى سدة الحكم، تواجه الحركة صعوبةً مرةً أخرى في التخلص من زراعة الأفيون ومشكلة إدمانه المتفشية التي صاحبت هذه الزراعة. وأعلنت طالبان في 3 أبريل/نيسان أن زراعة نبات الخشخاش صارت محظورة، وأن المخالفين سوف يعاقَبون بموجب قانون الشريعة. لكن صعوبة التخلص من الأفيون سوف تتعاظم أكثر من ذي قبل بسبب تحول مزارعي نبات الخشخاش إلى "الطاقة الخضراء"، كما يقول تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
"الطاقة النظيفة" تعقّد معركة طالبان الجديدة ضد الأفيون
تعمل مضخات المياه في المزارع الأفغانية عن طريق ألواح الطاقة الشمسية الرخيصة والفعالة للغاية، وتستطيع الحفر للوصول إلى طبقات المياه الجوفية الصحراوية التي تتقلّص بسرعة. فقد ساعدت ألواح الطاقة الشمسية في إنتاج محاصيل الأفيون الوفيرة سنوياً منذ أن بدأ تركيبها في حوالي عام 2014، عن طريق المزارعين في حزام زراعة الخشخاش الواقع جنوب أفغانستان.
وحالياً صارت الطاقة الشمسية سمةً مميزةً للحياة في جنوب أفغانستان؛ إذ إن ألواح الطاقة الشمسية الصغيرة تشكل مصدر الكهرباء للمصابيح الكهربائية داخل الأكواخ الطينية، وتروي المضخات التي تعمل بالطاقة الشمسية المحاصيل النقدية، مثل القمح والرمان، فضلاً عن تزويد المياه إلى قطع الأراضي التي تُزرع فيها الخضروات اللازمة لإعاشة المزارعين.
شكلت المصفوفات الشمسية حجر الأساس لضمان مكانة أفغانستان بوصفها رائدة في مجال الأفيون على مستوى العالم. أنتجت أفغانستان 83% من الإنتاج العالمي للأفيون بين عامي 2015 و 2020، بحسب مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة. وحتى في ظل معاناتها من حرب طاحنة وجفاف غير منقطع، توسّعت زراعة الأفيون في أفغانستان لتغطي 224 ألف فدان في 2020، بعد أن غطت 123 ألف فدان في 2009، وذلك بحسب الأمم المتحدة.
أنفقت الحكومة الأفغانية السابقة المدعومة من الولايات المتحدة 8.6 مليارات دولار للتخلص من الخشخاش، لكن كبار المسؤولين الأفغان أنفسهم كانوا ضالعين في الاتجار في الأفيون، وشيدوا من وراء نبات الخشخاش قصوراً مبهرجة في العاصمة كابل، واشتروا فيلات فخمة في دبي، حيث استنتج تقرير للمفتش العام الأمريكي أن تلك الحملة "لم يكن لها تأثير دائم".
الاقتصاد الأفغاني وتجارة الأفيون
من جانبها، أدانت طالبان الأفيون لأنه ضد مبادئ الإسلام، نظراً إلى أن محصول الخشخاش الأفغاني يتسبب في الإدمان في أوروبا والشرق الأوسط، فضلاً عن الأعداد الكبيرة من المدمنين داخل أفغانستان.
ويمكن أن تؤدي أية حملة أمنية واسعة إلى مفاقمة انهيار اقتصاد أفغانستان المدمر بالفعل في أعقاب الحرب، وزرع العداء تجاه القاعدة الأساسية لطالبان بين المزارعين البشتون، وإفقار العائلات التي تعتمد على المحصول لتحمل تكاليف الغذاء. فضلاً عن أن القضاء على زراعة الأفيون لن تقتصر على حيازة الألواح الشمسية الخاصة بالمزارعين، بل إنها سوف تشمل مواجهة قادة طالبان الضالعين في التجارة منذ وقت الحرب مع الأمريكيين- وفي وقت تواجه خلاله الحركة حالة استياء داخلية بسبب نفاد المال، كما تقول نيويورك تايمز.
وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة، حقق الاتجار في الأفيون بين 1.8 مليار دولار و 2.7 مليار دولار في العام الماضي. وقدمت مبيعات الأفيون 9% إلى 14% من الناتج المحلي الإجمالي لأفغانستان، مقارنة بالصادرات المشروعة من السلع والخدمات التي قدمت 9% من الناتج المحلي الإجمالي.
كتبت منظمة Afghanistan Analysts Network البحثية المستقلة في تقرير لها في الشهر الماضي: "إن زراعة الأفيون وتصدير المواد الأفيونية تحمل أهمية ضخمة بالنسبة للاقتصاد الأفغاني كله، وأي تطبيق للحظر سوف يحمل آثاراً واسعة النطاق".
الاعتماد المتزايد على الطاقة الخضراء
يشير مشروع بحثي موّله الاتحاد الأوروبي، وأداره ديفيد مانسفيلد، المستشار الذي درس على مدى عقدين الأنشطة الاقتصادية غير المشروعة وسبل كسب الأرزاق في المناطق الريفية بأفغانستان، إلى أن مزارعي الأفيون يعتمدون الآن على ما لا يقل عن 67 ألف خزان مياه يعمل بالطاقة الشمسية حول منطقة جنوب غرب أفغانستان الصحراوية.
فهذه الألواح، التي استُبدلت بوقود الديزل الأغلى ثمناً والأقل موثوقية لتشغيل مضخات المياه، ساعدت في تحويل الصحراء إلى منطقة خضراء. ارتفع التعداد السكاني في هذه المنطقة التي كانت مناطق صحراوية غير مأهولة بولايات قندهار وهلمند ونيمروز، لتصل إلى ما لا يقل عن 1.4 مليون نسمة في السنوات الأخيرة؛ والسبب أن مضخات المياه ساعدت في توسيع نطاق الأراضي الصالحة للزراعة، وذلك بحسب بحوث مانسفيلد.
قال مانسفيلد: "بالنسبة لكثير من مزارعي الأفيون، تعد وفرة المياه من المسلمات الآن. لا يرى أحد أنها تحمل تكلفة".
استهدفت طالبان بعض مضخات الطاقة الشمسية. في 13 مايو/أيار، أمر طالب مولوي، حاكم ولاية هلمند المتاخمة لولاية قندهار في حزام الأفيون، الشرطة بمصادرة الألواح والمضخات كي يموت الخشخاش المزروع حديثاً في الحقول الجافة. أضاف مولوي: "لا تدمروا الحقول، ولكن اجعلوا الحقول جافة".
الأزمة الاقتصادية
ويأتي حظر الأفيون في خضم مستويات كارثية من المجاعة والفقر والجفاف. قدرت الأمم المتحدة أن 23 مليون أفغاني يعانون الحرمان الحاد من الغذاء. فقد انهار اقتصاد البلاد الذي دعمته سابقاً المساعدات الغربية؛ وذلك بسبب العقوبات وتجميد التمويلات الحكومية الأفغانية في الخارج.
قال شاه آغا، مزارع الخشخاش البالغ من العمر 35 عاماً من منطقة زاري بولاية قندهار: "الأمر صعب للغاية بالنسبة للأفغان لأن الخشخاش ثروة للشعب الأفغاني".
بعد استثمار 500 دولار على البذور والسماد والأيدي العاملة والمصروفات الأخرى، قال آغا إنه تمنى تحقيق 5 آلاف دولار بعد بيع 20 كيلوغراماً من الأفيون، التي توقع حصدها هذا الربيع.
قوبل حظر الأفيون باستهجان جماعي من مزارعي الجنوب، الذين كانوا يحصدون بالفعل محصول الربيع الخاص بهم. قال عديد من المزارعين إن أسعار الأفيون ارتفعت على الفور إلى 180 دولاراً للكيلوغرام، بعد أن كانت 60 دولاراً للكيلوغرام.
وأشارت الحكومة الأفغانية إلى أنها سوف تسمح بحصد محصول الربيع لأنه كان جارياً بالفعل. لكن طالبان تعهّدت باعتقال المزارعين الذين يحاولون زراعة أي محاصيل أفيون جديدة.
زراعة محاصيل بديلة
وكما فعلت الولايات المتحدة خلال احتلالها لأفغانستان، اقترحت طالبان التحول إلى زراعة محاصيل بديلة مثل القمح والرمان والكمون واللوز. ولكن حتى إذا قُضي على زراعة الخشخاش، لا تزال المحاصيل البديلة تواجه خطراً بسبب تسارع نفاد المياه الجوفية الصحراوية.
قال مانسفيلد إنه لا يُعرف إلى متى سوف يستمر وجود المياه الجوفية؛ لأنه ليس هناك أحد قادر على إجراء دراسة علمية دقيقة حول طبقات المياه الجوفية الصحراوية.
قال أمير جان أرماني، البالغ من العمر 45 عاماً الذي كان يأمل أن يجني 4 آلاف دولار من بيع 45 كيلوغراماً من الأفيون الذي حصده في ولاية قندهار هذا الربيع، إنه شاهد انخفاض مستويات المياه بصورة حادة منذ وصول الألواح الشمسية.
وأوضح أنه عندما كان المزارعون يستخدمون المضخات التي تعمل عن طريق وقود الديزل، كانت مستويات المياه الجوفية تنخفض بمعدل 3 أمتار سنوياً. ولكن منذ وصول الألواح الشمسية، انخفضت إلى ما يصل إلى 9 أمتار سنوياً. وأضاف أن البئر الخاصة به تصل عمقها إلى 30 متراً، بينما بئر جاره على الجانب الآخر من النهر تصل عمقها إلى 60 متراً. وتابع قائلاً: "يجب علينا أن نواصل حفر آبارنا أعمق من ذلك".
ادخر أرماني ومزارعون آخرون المال هذا الربيع بسبب عدم دفع ضرائب الأفيون التي كانت تفرضها طالبان في السنوات الماضية. قال نور أحمد سعيد، المدير الإقليمي للإعلام في قندهار، إن هذه الضرائب لم تُحصَّل هذا العام. لجأ كثير من المزارعين في منطقة أرغنداب التي تقع في قندهار وتشتهر بزراعة الرمان، إلى قطع أشجار الرمان التي ماتت بسبب الجفاف أو القتال، وزرعوا بدلاً منها نبات الخشخاش.
دولاران لكل أسرة
ولكن حتى مع ارتفاع الأسعار، يقول مزارعو الخشخاش إنهم يحصلون على حوالي دولارين فقط يومياً لكل فرد من أفراد الأسرة؛ إذ يقع هؤلاء في قاع منظومة الاتجار بالمخدرات، التي يزيد الربح فيها أضعافاً مضاعفة بدايةً من المزارعين، مروراً بالوسطاء ومعامل معالجة النبات، وصولاً إلى كبار تجار المخدرات عبر الحدود.
المزارعون الذين جُرفت حقول الخشخاش الخاصة بهم بأمر من الحكومة السابقة، كانوا قادرين على إرسال أبنائهم إلى الوظائف التي يحصلون فيها على أجور، مثل العمل جنوداً أو ضباط شرطة، أو من خلال إرسالهم للعمل ضمن مجموعة من الوظائف التي لا تتطلب مهارة، التي وفرتها الولايات المتحدة والناتو. لكن هذه الخيارات لم تعد متاحة، وارتفعت معدلات البطالة تحت حكم طالبان.
في مقاطعة مايواند بولاية قندهار، عمل نك نزار، 41 عاماً، على تثبيت مضخة مياه جديدة عند حافة حقل الخشخاش الخاص به. وقال إنه بدأ في زراعة الخشخاش قبل خمس سنوات لأنها تحقق دخلاً أكثر بكثير من القمح الذي كان يزرعه.
غير أن نزار تحدث كما لو أن التحول إلى هذا المحصول كان مقدراً وليس مسألة تحتمل الاختيار. بالنسبة له، إما أن يزرع الخشخاش أو يموت جوعاً. قال نزار: "زراعة الخشخاش هي الخيار الوحيد للبقاء على قيد الحياة الآن".