جاء رفض الاتحاد العام التونسي للشغل قبل أيام للحوار الذي دعا إليه الرئيس قيس سعيد، بشأن شكل النظام السياسي المستقبلي في البلاد، ليلقي الضوء على الدور الكبير للاتحاد في السياسة التونسية، منذ كفاحه ضد الاستعمار الفرنسي، ويثير تساؤلات حول طبيعة مواقفه من السلطة على مدار تاريخ البلاد التي جعلته يكاد يكون المؤسسة المستقلة الوحيدة التي واصلت أنشطتها في ظل ديكتاتورية الرئيسين الراحلين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي.
وبعد أن أيد الاتحاد العام التونسي للشغل بتحفظ إجراءات الرئيس التونسي قيس سعيد ضد المؤسسات الديمقراطية التونسية، فإنه بات أمل المعارضين التونسيين في إنقاذ ديمقراطية البلاد، في ظل تقارير عن سعي الرئيس لحل الأحزاب وتشكيل نظام سياسي يقوم على ما يسميه الرئيس تواصلاً مباشراً بينه وبين الشعب.
5 % من سكان البلاد أعضاء في الاتحاد العام التونسي للشغل
ويعتبر الاتحاد العام التونسي للشغل المنظمة النقابية الأقوى في تونس، ويوصف بأنه الحزب السياسي الأكبر بغطاء نقابي.
ويبلغ عدد الأعضاء الذين يدفعون الرسوم وفقاً لتقديرات نشرت عام 2018، أكثر من نصف مليون شخص (حوالي 5% من إجمالي سكان تونس)، يتوزعون على معظم القطاعات الاقتصادية والفئات الاجتماعية، وله فرع في كل إقليم من أقاليم البلاد.
ويعرّف الاتحاد نفسه بأنه منظمة نقابية وطنية ديمقراطية مستقلة عن كل التنظيمات السياسية.
ووضع الاتحاد لنفسه أهدافاً عديدة منها توحيد وتنظيم جميع العمال، والمتقاعدين منهم على النطاق الوطني، والنهوض بأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية والارتقاء بوعيهم والدفاع عن مصالحهم المعنوية والمادية، وإنشاء اقتصاد وطني مستقل متحرر من كل تبعية وتحقيق توزيع عادل للثروات الوطنية.
ومن أهدافه أيضاً مساندة جميع الشعوب المكافحة من أجل استرداد سيادتها وتقرير مصيرها ودعم نضال حركات التحرر في العالم.
ولعب الاتحاد العام التونسي للشغل دوراً سياسياً أكثر أهمية من أي نقابة عمالية أخرى في العالم العربي تقريباً. وساعدت الإضرابات التي نظمها الاتحاد في النضال في استقلال البلاد عن فرنسا في عام 1956.
تناحر الأحزاب جعله الأقوى سياسياً
وأصبح الاتحاد التونسي العام للشغل أقوى كيان سياسي في البلاد منذ الإطاحة بحكم بن علي، عام 2011، وبمثابة الحكم بين الأحزاب السياسية، ولكنه دائماً بمثابة وصيٍّ على السياسة التونسية، دون أن يتحمل مسؤولية أخطائها.
ومالت معظم التحليلات السياسية بما فيها الغربية للإشادة بدور الاتحاد العام التونسي للشغل في تاريخ البلاد السياسي، وهي الإشادة التي وصلت ذروتها بحصوله مع ثلاث منظمات نقابية وأهلية أخرى هي "الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية" و"الهيئة الوطنية للمحامين التونسيين" و"الرابطة التونسية لحقوق الإنسان" على جائزة نوبل للسلام عام 2015، تقديراً للدور الذي لعبته في إنجاح الحوار الوطني التونسي، ووضع تونس على طريق الديمقراطية.
ولكن الاتحاد العام التونسي للشغل ساند الإجراءات الاستثنائية التي قام بها سعيد بالمخالفة للدستور، ودعم حل البرلمان، لكنه بدأ ينتقد توجهات قيس سعيّد بالانفراد بالحكم وإلغاء المؤسسات الدستورية في البلاد، بعدما بدا واضحاً أن إجراءات سعيد ستؤثر على دوره.
ووصل موقف الاتحاد ضد سعيد إلى ذروته برفضه مؤخراً المشاركة في الحوار الوطني الذي اقترحه سعيد من أجل صياغة "جمهورية جديدة"، معتبرا أن هذا الحوار "شكلي" ويقصي القوى المدنية، كما أعلن الاتحاد أن الهيئة الادارية وهي أعلى سلطة فيه وافقت بالإجماع على القيام بإضراب وطني في الوظائف العامة والشركات العامة للدفاع عن الحقوق الاقتصادية للموظفين واحتجاجا على رفض الحكومة زيادة الأجور.
تاريخ الاتحاد العام التونسي للشغل بدأ بالنضال ضد الاستعمار
جزء من مكانة الاتحاد العام للشغل لدى الشعب التونسي يأتي من دوره في الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي.
وبدأ تشكيل الاتحاد العام التونسي للشغل، عندما استقال الزعيم العمالي التونسي فرحات حشاد من الاتحاد الفرنسي ذي الميول الشيوعية بسبب عدم دعمه لنضال التونسيين من أجل الاستقلال عن فرنسا، ليؤسس في عام 1946.
ومنذ نشأته كان الاتحاد العام التونسي للشغل أكثر من مجرد نقابة عمالية، حيث أثار اغتيال حشاد عام 1952 (ربما من قبل أجهزة المخابرات الفرنسية) أعمال شغب عبر ثلاث قارات، وأصبح زعيماً يحظى بالتقدير كبطل لحركة الاستقلال التونسية.
تحالف مع بورقيبة عندما طبق سياسات اشتراكية
وقبل الاستقلال تحالف الاتحاد مع الحبيب بورقيبة، زعيم ما يمكن وصفه بالتيار الاستقلالي المعتدل في تونس، وتواصل هذا التحالف بعد استقلال البلاد، وتولي بورقيبة رئاسة البلاد حيث أسس نظاماً مستبداً، اعتبره كثير من المحافظين علمانياً متطرفاً، واعتمدت الدولة في فترة بورقيبة الأولى على سياسات اقتصاد اشتراكية متوافقة مع مطالب الاتحاد العام.
وشغل مسؤولو الاتحاد العام التونسي للشغل وزارات في أول حكومات تونس بعد الاستقلال، وأثناء تجربة تونس الاشتراكية الفاشلة في الستينيات، ترأس زعيم الاتحاد العام التونسي للشغل أحمد بن صلاح وزارة التخطيط سيئة السمعة التي بسطت سيطرة الدولة على الاقتصاد، حسبما ورد في تقرير لموقع The Economist Intelligence Unit الذي يتخذ من لندن مقراً له.
ثم عارضه بعدما تبنى توجهاً رأسمالياً
لكن في السبعينيات، تبنى نظام بورقيبة سياسات اقتصادية ليبرالية عززت القطاع الخاص والاستثمار الخاص والنمو القائم على الصادرات، ما أدى إلى تزايد عدم المساواة.
وقاد الاتحاد العام التونسي للشغل إضرابات احتجاجية، بما في ذلك الإضراب العام الأول في عام 1978، والذي أعقبه سجن العديد من قادة النقابات.
في أوائل الثمانينيات، عارض الاتحاد الإصلاحات التي فرضها صندوق النقد الدولي، بما في ذلك خفض الدعم ورفع أسعار الخبز التي أدت إلى أعمال شغب في عام 1984.
وأيد ترشيح بن علي للرئاسة
ولكن بعد عام 1987، وضع نظام زين العابدين بن علي الاستبدادي الاتحاد العام التونسي للشغل تحت سيطرة الحزب الحاكم، (التجمع الدستوري الديمقراطي)، حسبما ورد في تقرير موقع The Economist Intelligence Unit.
فبعد تولي زين العابدين بن علي الحكم عقد الاتحاد العام التونسي للشغل مؤتمره الوطني عام 1989، وانتخب قيادة جديدة برئاسة إسماعيل السحباني. وأيد الاتحاد ترشيح بن علي للانتخابات الرئاسية عام 2004.
وتميزت مرحلة 1989-2010 إجمالاً باتفاق القيادات المركزية للاتحاد العام التونسي للشغل مع النظام، وذلك من خلال إبرام اتفاقيات حول الزيادة في الأجور كل ثلاث سنوات، وتطوير القوانين الأساسية، ودخل الاتحاد في هدنة غير معلنة مع نظام زين العابدين بن علي حفاظاً على وجوده وهياكله، وإن ابتعد عن ممارسة دوره "السياسي" المعتاد؛ فلم يكن النقابيون بعيدون عن العمل الوطني العام، إذ استمرَّ الاتحاد في ممارسة نضاله النقابي العام بشكل أقل حدة من السابق.
لكنه عارض دعوة شارون لحضور قمة المعلومات بتونس
ولكن في عام 2005، انتقد الاتحاد دعوة الرئيس السابق بن علي إلى رئيس الحكومة الإسرائيلية إرييل شارون، لحضور القمة العالمية لمجتمع المعلومات.
ووصفت تقارير إعلامية غربية آنذاك هذا الموقف بأنه فاجأ حتى بعض النقابيين؛ لأن قيادة الاتحاد كانت لا تزال حريصة على عدم إظهار أي خلاف سياسي مع السلطة، وذلك بحكم العلاقة المتناغمة بينهما في المجالات الاجتماعية والسياسية منذ مؤتمر سوسة عام 1989.
ولكن حدث تغير في مواقفه من نظام بن علي بعد عام 2010، حيث احتضن الاتحاد كل التيارات السياسية ومنظمات المجتمع المدني غير المعترف بها والمعارِضة للنظام، وانطلقت من مقرَّات فروعه المختلفة الاحتجاجاتُ الاجتماعية.
موقف ملتبس من ثورة 2011
وبينما لم يكن لقيادة الاتحاد الرسمية موقف صريح من الثورة التونسية ضد حكم بن علي في بدايتها، كان لقواعده وفروعه الإقليمية وبعض قيادته دور مع باقي القوى في دعم ثورة الشباب في تونس ضد نظام زين العابدين بن علي.
وكانت البيانات الأولى التي أصدرتها قيادة الاتحاد تضعه في موقع الوسيط بين المحتجين والسلطة، من خلال مطالبته باعتماد أسلوب الحوار وإطلاق سراح الموقوفين وتشغيل الشباب وتجنب الحلول الأمنية.
ولكن سرعان ما أيد الاتحاد الثورة قبيل هروب بن علي بأيام خاصة بعد تزايد عنف النظام ضد المحتجين.
مكانته تزايدت بعد رحيل بعد علي.. هكذا أنقذ تونس من أخطر أزماتها
مع انهيار نظام بن علي تحول الاتحاد فعلياً إلى أقوى قوة سياسية في البلاد مع ضعف الأحزاب وتناحرها.
وقاد الاتحاد الوساطة الرباعية والتي تضمنت منظمات أخرى، التي جنبت تونس العنف والاقتتال الداخلي وسمحت لها بأن تنجح في عملية الانتقال الديمقراطي بعد سلسلة من الاغتيالات والاضطرابات الاجتماعية.
وحدثت هذه الأزمة عقب اغتيال اثنين من السياسيين اليساريين في عام 2013. في ذلك الوقت كان هناك خطر حقيقي من أن الحكومة التي يقودها الإسلاميون، والذين وصلوا إلى السلطة في انتخابات حرة ونزيهة أواخر عام 2011، ربما تكون معرضة للإطاحة بها بطريقة غير ديمقراطية، كما حدث مع حكومة الإخوان المسلمين في مصر عام 2013.
ونجحت الرباعية في إقناع الحكومة والمعارضة بالاتفاق على "خارطة طريق" للديمقراطية، تضمنت اتفاقاً على دستور جديد تقدمي، وإنشاء لجنة انتخابية مستقلة، وتسليم السلطة من قبل الحكومة التي يقودها الإسلاميون إلى حكومة تصريف أعمال محايدة سياسياً والتي نظمت انتخابات في نهاية عام 2014.
دور مثير للجدل في الاقتصاد
ما يتم تجاهله عادةً في دور الاتحاد العام التونسي للشغل إضافة إلى مهادنته لحكم زين العابدين، هو أن سيطرة اليسار على الاتحاد تجعله دوماً معادياً للإسلاميين، وكذلك جعله هذا التوجه اليساري يشجع الإضرابات العمالية التي ألحقت ضرراً باقتصاد البلاد أكثر من تناحرات الأحزاب السياسية.
فقد تسبب الإضرابات العمالية التي دعا إليها الاتحاد لدعم مطالب توفير الوظائف وزيادة الأجور في إلحاق أضرار واسعة النطاق بالاقتصاد منذ عام 2011، حسب موقع The Economist Intelligence Unit.
وقد انسحب عدد من شركات التصنيع إلى خارج البلاد في مواجهة المطالب غير الواقعية بأجور أعلى، والأغرب المطالب بتوظيف عمال وموظفين إضافيين (عادةً لا يكون هناك حاجة لهم).
وأدت الإضرابات والاعتصامات في صناعات الفوسفات والأسمدة المملوكة للدولة على سبيل المثال إلى تدمير الإنتاج، وأجبرت الشركات على توظيف آلاف العمال غير الضروريين، ما أضر بقدرتها المالية على الاستمرار.
وهدد الاتحاد العام التونسي للشغل في نوفمبر/تشرين الثاني 2015 بإطلاق موجة من الإضرابات ما لم يوافق الاتحاد العام التونسي للصناعة والتجارة على زيادة أجور عمال القطاع الخاص بنسبة 12%.
وقال اتحاد الصناعة والتجارة آنذاك إن الطلب كان "سريالياً" ولا يمكن تحمّله. كما عارض اتحاد الصناعة والتجارة زيادة الأجور على المستوى الوطني لأنها لا تأخذ في الاعتبار المركز المالي للشركات الفردية. كما طالب اتحاد الصناعة بربط أي زيادة في الأجور بالتحسينات في الإنتاجية، التي انخفضت منذ الثورة مع زيادة التغيب والاضطرابات.
ويقول أمين غالي، من مركز الكواكبي للانتقال الديمقراطي في تونس: "إن قدرة الاتحاد العام التونسي للشغل على جعل البلاد في حالة من الجمود الاقتصادي واضحة"، حسبما ينقل عنه تقرير لمركز Carnegie الأمريكي.
ولكن بصرف النظر عن تقلبات مواقف الاتحاد العام التونسي للشغل والجدل حول تاريخه السياسي، فإن ما لا خلاف عليه أنه أقوى كيان مستقل مرتبط بالمجال السياسي في تونس، وأن مصير الديمقراطية التونسية قد يتوقف على مواقفه.