اشتدت مشكلة الغذاء العالمية بالتزامن مع قفزة الأسعار وفرض السياسات الحمائية، لكن الحكومات لديها فرصةٌ جيدة في منع المشكلة من التفاقم إذا تذكرت الدرس المستفاد من أزمة عام 2008: لا تُصب بالهلع!
فماذا حدث قبل 14 عاماً وكيف يمكن أن يكون ذلك هو الحل؟
فبحسب تقرير لوكالة Bloomberg الأمريكية، اتجهت العديد من الدول خلال الأسابيع الأخيرة إلى تقييد صادرات المحاصيل من القمح والسكر وصولاً إلى زيوت الطهي، وذلك بالتزامن مع وصول الأسعار العالمية إلى مستوياتٍ قياسية نتيجة الهجوم الروسي على أوكرانيا، مما فاقم المخاطر الأمنية على بقية أرجاء العالم.
كما يُشكل الطقس السيئ مصدر قلقٍ آخر أيضاً. ومع ذلك استقر سعر الأرز، الذي يعد غذاءً أساسياً لأكثر من ثلاثة مليارات شخص، حتى الآن رغم ارتفاع أسعار القمح والذرة والصويا.
ويرى الأستاذ الفخري بجامعة هارفارد بيتر تيمر أن الدول تستطيع منع الأزمة الحالية من التحول إلى أزمةٍ شبيهة بما حدث عام 2008، حين ارتفعت أسعار الأرز وتعرّض أمن المنطقة الغذائي لخطرٍ داهم، إذا لم تُصب تلك الدول بالهلع وتبدأ في اكتناز السلع.
ما هو الحل المتاح الآن؟
حيث قال تيمر، الذي تعاون مع حكومات آسيوية في وضع سياسة الاستجابة للأزمات الغذائية: "الدرس المستفاد من عام 2008 هو: لا تثيروا الهلع في الأسواق. وتعاملوا بحذرٍ مع واردات، وصادرات، وضوابط الأرز".
ولا شك أن المخاطر بلغت أعلى مستوياتها؛ إذ يعاني المشرعون من الولايات المتحدة وحتى الصين بسبب ارتفاع التضخم وتباطؤ النمو، بينما يواجه المستهلكون ارتفاعاً سريعاً في تكاليف المعيشة بالتزامن مع انتشار الجوع. ويعتبر الأرز واحداً من أكثر المحاصيل أهمية، حيث يجري إنتاج واستهلاك نحو 90% من محاصيله داخل القارة الآسيوية.
وتقدم لنا أزمة عام 2008 دروساً بالغة الأهمية تؤكد دور الصدمات التجارية المفروضة من الحكومة في رفع أسعار السلعة الأساسية بشدة؛ إذ ارتفعت أسعار الأرز حينها في المقام الأول بسبب حظر الصادرات الذي فرضته كبار الدول المنتجة، وخاصةً الهند وفيتنام، نتيجةً لنقص الإمدادات المحلية وارتفاع الأسعار. وأدى ذلك لإثارة حالة هلعٍ شرائي في الدول الأخرى، وخاصةً الفلبين، مما أحدث تأثيراً متموجاً ترددت أصداؤه عالمياً.
ما الدرس المستفاد من أحداث 2008؟
وتوجد بعض أوجه الشبه بين ما حدث في 2008 وما يحدث اليوم؛ إذ أسهم ارتفاع أسعار الطاقة، والطقس السيئ، وقرارات حظر التصدير في الارتفاع الحالي لأسعار الغذاء كما حدث من قبل. لكن الحرب في أوكرانيا تُضيف بعداً جديداً وخطيراً إلى المعادلة؛ حيث قفزت أسعار المحاصيل الزراعية في العام الجاري ودفعت بالعديد من الحكومات إلى التحرك لتأمين إمداداتها: فقيّدت إندونيسيا صادرات زيت النخيل، وحظرت ماليزيا تدفق الدواجن، بينما قيّدت الهند مبيعات القمح والسكر.
وتسود المخاوف من احتمالية انضمام الأرز للقائمة؛ نظراً لاعتباره شديد الأهمية بالنسبة للأمن الغذائي والاستقرار السياسي داخل آسيا، لكننا نشهد حالياً بعض أوجه الاختلاف عن عام 2008؛ إذ قال تيمر إنّ الدول نوّعت عاداتها الغذائية وجهّزت مخزونات احتياطية ضخمة في محاولةٍ لمنع صدمات الأسعار.
ويتوافر الأرز في الواقع بوفرةٍ قد تكفي للمساعدة في تخفيف الضغط عن القمح، الذي بلغ أسعاراً قياسية في مارس/آذار. ويستطيع المستهلكون في الهند، والصين، وجنوب شرق آسيا التحول من القمح إلى الأرز بسهولةٍ نسبية؛ مما قد يوفر على السوق ما يتراوح بين 30 مليوناً و40 مليون طن من القمح، بحسب تيمر.
وأردف تيمر: "يمكنك تخفيف الضغط عن سوق القمح، وزيادة الضغط قليلاً على سوق الأرز". وقد يؤدي ذلك إلى ارتفاع أسعار الأرز بنسبة 10% أو حتى 20%، "لكنها لن تكون أزمة أرز، بل مجرد تكيفٍ من سوق الأرز مع الواقع الذي سيعيشه الجميع لعامٍ أو عامين".
هل سيحل ذلك الأزمة؟
وبحسب الوكالة الأمريكية، مع ذلك تظل المخاوف قائمةً من خطر تقييد فيتنام للصادرات. حيث تشعر السلطات بالقلق من تأثير ارتفاع تكاليف الأسمدة على الإنتاجية، والجفاف الذي يهدد المحاصيل في دلتا ميكونغ، وفقاً لتيمر. وكانت فيتنام قد قيّدت صادراتها إبان أزمة 2008 في أعقاب خطوةٍ مماثلة من الهند.
وأوضح تيمر، الذي يقيم في ولاية فلوريدا: "لا شك أن السلطات الفيتنامية تقول لنفسها الآن: يجب أن نحرص على عدم تجويع شعبنا".
وفي حال حدوث ذلك وقيام دول آخرى من جنوب شرق آسيا بتقييد صادراتها، فستقع "الكارثة الحقيقية" في قارة إفريقيا التي زاد اعتمادها على واردات الأرز. وتعاني القارة السمراء بالفعل نتيجة تعطيل شحنات القمح من منطقة البحر الأسود، وبالتالي لن تتمكن من تحمل أزمة في الأرز أيضاً.
وقبل أشهر، عندما دفعت الحرب الروسية في أوكرانيا العالم إلى حافة أزمة غذاء، عرض رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي مساعدة البلدان التي تواجه نقصاً، لكن سرعان ما تراجع عن هذه الخطوة، فماذا حدث حتى نكص رئيس الحكومة الهندي على عقبيه؟
بعد نحو شهر ونصف من إطلاق بوتين حملته العسكرية على أوكرانيا، قال مودي: "لدينا بالفعل ما يكفي من الغذاء لشعبنا، لكن يبدو أنَّ مزارعينا اتخذوا ترتيبات لإطعام العالم. نحن مستعدون لإرسال الإغاثة من الغد"، كما يذكر تقرير لشبكة CNN الأمريكية.
وكانت الهند، ثاني أكبر مُنتِج للقمح في العالم بعد الصين، قد بدأت بالفعل في تنفيذ وعودها. ففي الأشهر الاثني عشر حتى مارس/آذار، استفادت الهند من ارتفاع الأسعار العالمية، وصدرت رقماً قياسياً يبلغ 7 ملايين طن متري من الحبوب. كان ذلك أعلى بنسبة 250% عن كمية التصدير في العام السابق. وحددت أيضاً أهدافاً قياسية للتصدير للعام المقبل.
لكن الآن، تخلت الهند عن هذه الأهداف السامية وحظرت صادرات القمح، بينما أدت موجات الحر التي تهدد الحياة في جنوب آسيا إلى إعاقة الإنتاج ودفع الأسعار المحلية إلى مستويات قياسية، فما الذي حدث؟
وصدمت هذه الخطوة الأسواق الدولية، يوم الإثنين 16 مايو/أيار، خصوصاً أنها جاءت بعد أيام فقط من طمأنة الهند للعالم بأنَّ موجة الحر غير المسبوقة لن تؤثر في خططها التصديرية. وارتفعت أسعار القمح العالمية بنسبة 6%، وهو أعلى سعر في شهرين. وتراجعت العقود الآجلة للقمح عالمياً، يوم الثلاثاء 17 مايو/أيار، قليلاً، لكنها لا تزال مرتفعة بنسبة 50% تقريباً منذ بدء الحرب.
وبرغم أنَّ الهند منتج ضخم للقمح -من المتوقع أن تنتج البلاد أكثر من 100 مليون طن متري حتى في العام الحالي- تُستخدَم معظم الحبوب لإطعام سكانها البالغ عددهم 1.3 مليار نسمة.
لكن القلق الذي أثاره حظر التصدير يُبرِز هشاشة الإمدادات الغذائية العالمية.