أطلقت تركيا نسخة ثانية من الغواصة "ريس" محلية الصنع، لتصبح واحدة من الدول القليلة على مستوى العالم التي تصنع غواصات محلياً، وهي خطوة سيكون لها تأثير كبير على توازن القوى البحرية في منطقة شرق المتوسط الغنية بالطاقة.
وخلال حفل حضره الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أُدخلت نسخة الغواصة ريس الثانية، المسماة "TCG Hizir Reis"، إلى الحوض الجاف لتحضيرها لعملية الدخول إلى الخدمة، وذلك في حوض بناء السفن "جولجوك".
وهذه الغواصة ضمن 6 غواصات تبنيها تركيا بالتعاون مع ألمانيا تم تسميتها الغواصات الست بأسماء قادة البحرية العثمانية في ذروة قوتها، وهي هي نسخة خاصة بتركيا من الغواصة الألمانية الشهيرة Type 214.
وبالتزامن مع إطلاق هذه الغواصة أُجريت عملية اللحام الأولى للغواصة السادسة من هذه الفئة، وهي الغواصة المسماة "تي سي جي سيلمان ريس"، لإطلاق عملية تصنيعها.
تجدر الإشارة إلى أنه تم إطلاق أول نسخة من الغواصة ريس، في 22 ديسمبر/كانون الأول 2019، ووضعت في حوض جاف للتجهيز، ثم أُنزلت في الماء، في مارس/آذار 2021، ومن المقرر أن تدخل الخدمة في البحرية التركية هذا العام.
قصة إنتاج الغواصة ريس
بدأ مشروع إنتاج هذه الغواصات عام 2008، حيث تم التعاقد مع الصانع الألماني Howaldtswerke-Deutsche Werft لإنتاج الغواصة تيسين كروب Type 214، أو النوع 214، وهي تعمل بالديزل والكهرباء، ويتم إنتاج هذه الغواصة أيضاً في كوريا الجنوبية واليونان والبرتغال.
ويتم إنتاج هذه الغواصات بأقصى محتوى محلي في حوض بناء السفن Gölcük Naval في كوجالي بتركيا، ويقول المسؤولون الأتراك إن "المشاركة الصناعية التركية في المشروع ستبلغ حوالي 80% من القيمة الإجمالية للصفقة".
يبلغ طول الغواصات 68.35 متر، وقطرها الخارجي 6.3 متر، وتتسع لـ40 فرداً.
وتشارك حوالي 30 شركة تركية في مشروع إنتاج الغواصات ريس، بما في ذلك Aselsan وHavelsan وSTM وMilsoft وما إلى ذلك.
وكانت ألمانيا قد رفضت المطالب اليونانية بمنع تسليم أجزاء ست غواصات من النوع 214 إلى تركيا.
ورفض ألمانيا إفشال صفقة الغواصات لم يكن مفاجئاً؛ إذ يُعتقد أن قيمتها تبلغ 3.5 مليار دولار، وهو مبلغ ضخم مقارنة بإجمالي قيمة صادرات الأسلحة الألمانية، البالغة 14 مليار دولار خلال العقد الماضي. وتسيطر برلين على السوق العالمية للغواصات غير النووية، على وجه الخصوص، بعد أن باعت أكثر من 120 منها إلى 17 بحرية منذ الستينيات.
وثمة اعتبارات أكبر لها دور في رفض ألمانيا محاولات اليونان خلال عامَي 2020 و2021 وقف الصفقة، وهي أن برلين تعتبر تركيا حائط صدّ على الطرف الجنوبي لحلف الناتو، حيث تعيد روسيا فرض نفسها، وقد أثبتت حرب أوكرانيا صحة وجهة النظر هذه، حيث أغلقت تركيا مضيقَي البوسفور والدردنيل في مواجهة السفن الحربية الروسية.
طوربيدات وصواريخ محلية الصنع، والهدف النهائي غواصة تركية مستقلة
وفي حديثه في الحفل، قال الرئيس التركي رجب أردوغان، إن تركيا تخطط لإطلاق غواصة واحدة من هذا الطراز كل عام، حتى يكون لدى البحرية التركية 6 غواصات جديدة بحلول عام 2027.
وأضاف: "هذه الغواصات تزن 1856 طناً فوق الماء، يمكن أن تغوص في عمق أكثر من 300 متر، ويمكن أن تعمل تحت الماء لمدة ثلاثة أيام، ويمكن البقاء في الماء لمدة 12 أسبوعاً، دون الحاجة إلى إعادة تموين.
وأشار إلى أن هذه الغواصات مجهزة بأسلحة فعالة ضد الأهداف تحت الماء، وكذلك الأهداف السطحية والبرية، ويمكنها إطلاق النار بأنواع مختلفة من الطوربيدات والصواريخ والألغام.
بعد خطابه، أجرى أردوغان عملية اللحام الأولى للغواصة "سلمان ريس"، الغواصات السادسة والأخيرة ضمن مشروع إنتاج فئة "ريس"، في إشارة رمزية لبدء تصنيعها.
وأعلن أردوغان عن عزم بلاده دمج الطوربيد المحلي Akya والصاروخ المضاد للسفن Atmaca بهذه الغواصات.
كان من أهم تفاصيل الحفل إعلان الرئيس التركي عن عزم بلاده تصنيع غواصة محلية بشكل مستقل، وهو المشروع المعروف باسم MILDEN، وكان هذا أول بيان رسمي على الإطلاق حول هذا المشروع.
وقال ستبدأ تركيا في بناء الغواصة MILDEN في عام 2025، في حوض بناء السفن Gölcük.
ويتوقع المخططون الأتراك أيضاً أن يعزز مشروع الغواصة ريس، المعتمد على التكنولوجيا الألمانية، بشكل كبير، المعرفة التركية في صناعة الغواصات، والتي بدورها تُترجم إلى قدرات معززة في تحقيق برنامج الغواصات الوطني التركي (ميلي دنيزالتي).
تستطيع تنفيذ عمليات غوص لفترة طويلة
تتميز الغواصات من فئة ريس بتصميم أحادي الهيكل، ومقصورة واحدة، ونظام دفع مستقل عن الهواء في خلية الوقود، التي أثبتت كفاءتها.
نظام الطاقة في هذه الغواصات القدرة على إجراء عمليات نشر طويلة التحمل.
ستكون الغواصات من فئة ريس قادرة على القيام بمهام مثل عمليات المياه الساحلية لدوريات المحيط، بما في ذلك العمليات المضادة للسفن السطحية والغواصات، وعمليات القوات الخاصة. ويرجع ذلك أساساً إلى زيادة أعماق الغوص التي تستطيع الوصول إليها، وأسلحتها المعيارية، ومزيج أجهزة الاستشعار.
وتتميز الغواصة من النوع 214 بميزات تكنولوجية متقدمة، وستزود البحرية التركية بقدرات ردع كبيرة.
لماذا يكتسب سلاح الغواصات أهمية خاصة لدى تركيا؟
غالباً ما يتم تعريف القوة البحرية على أنها أداة عسكرية ودبلوماسية.
وأسطول الغواصات في أي بلد لا يوفر ردعاً تحت الماء فقط، بل يعزز أيضاً يمنحها نفوذاً دبلوماسياً واقتصادياً.
تزداد أهمية القوة البحرية بالنسبة لتركيا بالنظر لخلافتها البحرية مع اليونان، وقربها من دول قوية مثل روسيا في البحر الأسود، وإسرائيل ومصر في المتوسط، كما أن تركيا لديها أكثر من 8000 كيلومتر من الخط الساحلي، وتقع عند نقاط الاختناق للخطوط البحرية العالمية الحيوية.
كما تتنافس تركيا مع دول شرق المتوسط، وعلى رأسها اليونان وقبرص، وبصورة أقل مصر وإسرائيل، على موارد الطاقة ومسارات خطوط الأنابيب المحتملة التي ستنقل الغاز إلى أوروبا، وهو أمر ازداد أهمية بعد الأزمة الأوكرانية.
يمكن لسلاح الغواصات أن يمنع أو يحد من الوصول إلى مناطق بحرية معينة، وكذلك شن ضربات دقيقة ضد أهداف برية، ويساعد على نشر القوات الخاصة، وجمع المعلومات الاستخبارية في مواقع التشغيل المتقدمة.
كما تتمثل إحدى الوظائف الرئيسية لقوة الغواصات في توفير رادع في وقت السلم، عن طريق زيادة عدم اليقين بشأن نشر الأصول العسكرية الرئيسية في مناطق النزاع البحرية.
فعلى عكس السفن السطحية، تتجنب الغواصات استعراض القوة البحرية، ويمكنها العمل خلسة في المواقع الأمامية بشكل كبير.
الغواصة ريس ستعيد لتركيا مركزها كأقوى بحرية في المنطقة
خلص تحليل حديث لمركز أبحاث السياسات والاستراتيجيات البحرية، بجامعة حيفا الإسرائيلية، إلى أن البحرية التركية "هي الأقوى" في منطقة الشرق الأوسط، كما حذّر التقرير إسرائيل من "تهديد محتمل"، وفق ما ذكرته وسائل إعلام إسرائيلية، الجمعة 16 أبريل/نيسان 2021.
موقع "MIGnews" الإسرائيلي أشار إلى أن التحليل حول البحرية التركية أخذ في الاعتبار الإجراءات التي اتخذتها تركيا لحماية مصالحها في البحر الأبيض المتوسط، وكذلك التقدم التكنولوجي للبلاد بمجال الدفاع.
وبالنظر إلى التوازن الإقليمي الحالي تحت الماء، تتمتع تركيا بتفوق عددي على نظرائها الإقليميين، إذ تمتلك تركيا واحداً من أكبر أساطيل الغواصات في البحر الأبيض المتوسط، مع 12 غواصة من النوع 209، (تمتلك مصر منها أربعاً، ولكن النسخ التركية أكبر وأكثر تطوراً) .
ومع ذلك، فإن غواصات "أي-كلاس"، التي انضمت إلى البحرية التركية في أوائل السبعينيات وطوال الثمانينيات قديمة جداً.
في المقابل، تم تجهيز البحرية اليونانية بغواصات ألمانية من النوع 214 (نفس نوع الغواصة ريس التركية)، وذلك بين 2010 و2015؛ ما منحها ميزة تكنولوجية على تركيا، حسب تقرير لموقع Politics Today.
وأدى ذلك إلى تعقيد التوازن بالنسبة لتركيا تحت سطح البحر، وبالمثل تلقّت مصر أربع غواصات ألمانية من طراز S-44 مؤخراً، لتحديث مخزونها القديم من الغواصات، بينما ترغب في شراء المزيد في إطار برنامج التحديث البحري الطموح.
إجمالي ما طلبته البحرية اليونانية من الغواصات الألمانية 214 هو أربع غواصات، ثلاث سيتم إنتاجها محلياً، وواحدة في ألمانيا، مقابل ست غواصات لدى تركيا.
ولكن مع الدخول المتوقع لأولى الغواصات من فئة ريس الخدمة البحرية، هذا العام، التي سيتبعها دخول الغواصات الخمس المتبقية، يمكن القول إن البحرية التركية ستظل تحافظ على تفوقها العددي، حتى مع التقاعد المحتمل لبعض الغواصات القديمة.
يقول إيمانويل كاراجيانيس من جامعة كينغز كوليدج لندن، إن هذه الغواصات "ستعيد تشكيل التوازن البحري بين اليونان وتركيا". وقال إنه يمكن تسليح هذه الغواصات بصواريخ مضادة للسفن متوسطة المدى، وبإمكانها "الحد من قدرات الأسلحة اليونانية المضادة للغواصات بدرجة كبيرة"، رغم أن الكثير يعتمد على مدى نجاح تركيا في دمج أسلحتها المحلية في الغواصات الألمانية.
هذه الغواصات مناسبة تماماً للمياه الضحلة المحيطة بتركيا
تحتوي الغواصات من فئة ريس على نظام AIP، الذي يضمن عمليات طويلة وصامتة تحت الماء، دون الحاجة إلى الوصول إلى الأوكسجين الجوي، وبالتالي تجنب تعريض نفسها للاكتشاف.
وتركيا محاطة جغرافياً ببحار شبه مغلقة ومياه ضحلة، يؤدي ذلك إلى إضعاف فاعلية أدوات الحرب المضادة للغواصات (ASW)، من خلال الحد من قدرة الكشف عن السونار النشط والسلبي، ما يجعل من الصعب كشف الغواصات. هذه الميزة الملائمة لجغرافية المنطقة مصحوبة بالسمات الخفية التي تتسم بها الغواصة ريس التي قد تضاعف فاعليتها الغواصة في المياه الضحلة أو السواحل.
تشير المصادر المفتوحة إلى أن غواصات AIP يمكن أن تعمل لمدة ثلاثة أسابيع تحت الماء، بينما تحتاج الغواصات التقليدية التي تعمل بالديزل والكهرباء إلى السطح لإمداد الهواء بعد يومين إلى ثلاثة أيام.
جزء من إدراج ألمانيا هذه الميزات في هذه الغواصات، أنها مُصمَّمة لمواجهة النفوذ الروسي المتزايد في المياه الضحلة لبحر البلطيق.
يعني ذلك أن تكنولوجيا هذه الغواصات ملائمة لظروف الجغرافيا المحيطة بتركيا في بحر إيجة وشرق البحر الأبيض المتوسط، إلى حد كبير.