"علماء ينتمون لجامعات أوروبية مرموقة أسهموا في بناء القوة العسكرية الصينية دون قصد"، هكذا يمكن وصف عملية الاختراق العلمي الصيني لأوروبا، التي بدأت تتكشف ملامحها.
واستفاق الغرب متأخراً على واقع أن الصين تخترق أغلى ما يملك: جامعاته، وشركاته، بل وتستحوذ على بعضها، وتنقل منها التكنولوجيا المتقدمة، وهي تفعل ذلك تارة علناً وأخرى سراً، ووصل الاستحواذ الصيني على شركات غربية إلى مؤسسات عاملة في المجال العسكري، كما يعتقد أن قدرات الصين التجسسية كبّدت أمريكا 12 تريليون دولار، وتهدد بالإطاحة بريادتها العلمية.
في القلب من عملية الاختراق العلمي الصيني لأوروبا توجد جامعة النخبة الوطنية لتكنولوجيا الدفاع في الصين (NUDT)، التي تكرّس جهودها لتحديث الجيش الصيني.
وفي هذا السياق تبيّن أن باحثين صينيين تلقوا العلم في الغرب، كانوا طلاباً في هذه الجامعة، دون أن يعلم أساتذتهم الغربيون، الذين كانوا سعداء بدأب وتهذيب تلاميذهم الصينيين، حسبما ورد في تقرير لموقع دويتش فيليه (DW) الألماني.
التقرير جزء من عملية تقصٍّ واسعة نُفذت تحت قيادة المنفذ الهولندي Follow the Money، والمؤسسة الاستقصائية الألمانية غير الربحية CORRECTIV، وDW و10 غرف أخبار أوروبية تعاونت لعدة أشهر في تحقيق حول الاختراق العلمي الصيني لأوروبا وللغرب، يدعى China Science" Investigation".
وجد التحقيق ما يقرب من 3000 منشور علمي من قِبل باحثين منتسبين إلى جامعات أوروبية ونظرائهم في الجيش- المؤسسات المرتبطة في الصين- وأبرزها جامعة النخبة الوطنية لتكنولوجيا الدفاع في الصين "NUDT".
لم أكن أعلم أنه ينتمي لجامعة عسكرية
وجامعة النخبة الوطنية لتكنولوجيا الدفاع "NUDT"، هي الجامعة الأم لطالب صيني حصل لاحقاً على درجة الدكتوراه في ألمانيا، حيث أجرى أبحاثاً قد تكون لها تطبيقات عسكرية محتملة.
ومع ذلك اعترف الأستاذ الألماني، الذي أشرف على درجة الدكتوراه للطالب، في مكالمة هاتفية حديثة، بأنه لم يفكر أبداً في الانتماء العسكري لطالبه، حسب الموقع الألماني.
وتسللت نبرة ندم إلى صوت الأستاذ وهو يتذكر الطالب الودود "المتميز"، الذي كان فخوراً باستضافته في معهده لعلوم الكمبيوتر في بلدة جامعية صغيرة. قال إنه شعر بالأسف لرؤية الطالب يعود إلى الصين بمجرد انتهاء المنحة الدراسية الصينية.
عند عودته إلى الصين حصل الطالب على وظيفة في جامعة النخبة الوطنية لتكنولوجيا الدفاع في الصين "NUDT".
الاختراق الصيني العلمي لأوروبا يُسهم في تطوير أسلحتها النووية
الاختراق العلمي الصيني لأوروبا، والغرب عامةً، يلعب دوراً حاسماً في البحث العسكري، الذي تديره اللجنة العسكرية المركزية للحزب الشيوعي، حسب أليكس جوسك، الباحث المستقل الذي كان يتتبع المعاهد والمختبرات العسكرية في الصين حتى عام 2020.
وأقام الباحثون في جميع أنحاء أوروبا علاقات وثيقة مع علماء من جامعة NUDT العسكرية.
تراوحت المنشورات المشتركة الأوروبية الصينية من الذكاء الاصطناعي والروبوتات إلى البحث الكمي: المجالات التي تستكشف ما يشار إليه غالباً بالتقنيات الناشئة، تم إعدادها لإعادة تشكيل طرق التواصل والاختلاط الاجتماعي، والأهم من ذلك إدارة الحروب والفوز بها أو الخسارة.
نصف الباحثين الصينيين في الخارج عسكريون
في مستقبل تكون فيه البلدان التي لديها أقوى الخوارزميات وأجهزة الكمبيوتر قادرة على تحديد شكل النظام العالمي، لا ينبغي أن يكون مفاجئاً أن الصين في سعيها المعلن لتأسيس نفسها كقوة عظمى عالمية، تتابع بنشاط هذه الخبرة خارج البلاد، ويشمل ذلك رعاية كبار الباحثين الصينيين للدراسة على المستوى الدولي.
وقال جوسكي إن من المبتعثين الصينيين في أوروبا أفراداً عسكريين. وقال: "لكل ورقتين يتم نشرهما، من المحتمل أن ترى أيضاً ضابطاً عسكرياً صينياً حقيقياً عمل ودرس في جامعة أوروبية، وأقام علاقة أدت إلى هذا التعاون والأوراق البحثية".
"طمع وحسن نوايا".. الجامعات الأوروبية تجري وراء الأموال الصينية
لفترة طويلة كانت الدول الغربية تتودد بنشاط إلى الصين، وشُجع التعاون على جميع المستويات، حيث يُنظر إلى الصين على أنها سوق اقتصادي واسع يمكن الاستفادة منه.
كانت الفكرة أن الروابط الاقتصادية والعلمية والثقافية القوية ستؤدي تلقائياً إلى مزيد من التحرر والديمقراطية، ولكن في عهد الرئيس الصيني الحالي تشي بَدَا أن الغرب قد خُدع، فقد ازدادت الصين تقدماً واستبداداً في الوقت ذاته، والأهم بدأت تُعلن عن طموحاتها الاستراتيجية.
لقد استغرق الأمر بعض الوقت حتى تتسرب إشارات التحذير إلى الوعي العام الغربي، من خلال تقارير عن الاعتقال غير القانوني والتعسفي للإيغور في المعسكرات، ومغازلة الصين النشطة للأنظمة الاستبدادية، وسحق آخر جيوب المعارضة في البر الرئيسي وفي هونغ كونغ.
ونظراً لأن العديد من الطلاب الصينيين يتم تمويلهم من خلال المنح الحكومية المربحة، فإنهم يجتذبون بشكل خاص المعاهد والمجموعات البحثية الأوروبية، والتي غالباً ما تعاني من ضائقة مالية.
في إطار عملية رصد الدراسات الصينية المنشورة في أوروبا، من قِبل علماء وباحثين منتسبين إلى جامعة NUDT العسكرية الصينية، التي نفذها موقع DW وشركاؤه الإعلاميون، ظهر أن نصفها نُشر في جامعات في المملكة المتحدة، تليها هولندا وألمانيا. في الحالة الأخيرة نُشر ما لا يقل عن 230 ورقة بحثية من عام 2000 حتى أوائل عام 2022.
هناك العديد من المنشورات الإشكالية بين هذه الأبحاث، حيث أُجريت الدراسات مع باحثين في جامعة بون وجامعة شتوتغارت، ومن خلال معهد فراونهوفر المرموق، في مجالات مثل البحث الكمي والذكاء الاصطناعي ورؤية الكمبيوتر.
من المحتمل جداً أن يكون هناك المزيد من الأوراق التي يحتمل أن تكون إشكالية في مجموعة البيانات، والتي لم يتم تحديدها على هذا النحو بعد.
دراسة مشتركة يمكن توظيفها لاستهداف الإيغور
أكد العديد من الباحثين المستقلين أن هذه البحوث قد تحتوي بالفعل -بدرجات متفاوتة- على تطبيقات ذات استخدام مزدوج. بمعنى آخر: يمكن أن يخدم البحث أغراضاً مدنية، بالإضافة إلى أغراض دفاعية أو أمنية.
تم نشر ورقة واحدة في عام 2021، والأخرى خلال السنوات الخمس الماضية. في بعض الدراسات، مثل دراسة حول مجموعات تتبّع الأشخاص، نُشرت في جامعة أوروبية.
وقال أحد الباحثين: كانت عملية تطبيق البحث واضحة على الفور، في إشارة إلى الأقلية المسلمة التي قدمتها الصين إلى برنامج منهجي وقسري لـ"إعادة التأهيل" في معسكرات الاعتقال والمراقبة الشاملة.
ونُشرت هذه الدراسة مع باحث من NUDT حصل على العديد من الجوائز العسكرية قبل النشر.
ورقة أخرى تتعمق في الاتصالات الكمومية المشفرة. اتفق العديد من الخبراء على أنه رغم أن هذا المجال في مرحلة مبكرة جداً، فقد يكون للبحث في نهاية المطاف تطبيقات ذات استخدام مزدوج، مثل حماية الاتصالات العسكرية من التنصت.
من الصعب الكشف عن التطبيقات العسكرية في الأبحاث العلمية
ليس من السهل دائماً رؤية التطبيقات العسكرية، وحتى التنبؤ بها أقل سهولة. يمكن استخدام الطائرات بدون طيار، على سبيل المثال لرشّ الحقول بالأسمدة، أو لإطلاق النار على المعارضين في منطقة حرب.
المشكلة أن الخط الفاصل بين البحث الأساسي والتطبيقي يمكن أن يكون "رمادياً وغير واضح"، حسب أليكس جوسك، الباحث المستقل المتابع للمعاهد والمختبرات العسكرية في الصين، كمحلل في معهد السياسة الاستراتيجية الأسترالي.
إذ يقول: "في عام واحد تعمل على الذكاء الاصطناعي والخوارزميات لتنسيق مجموعات من الكائنات، وفي العام التالي يمكن تطبيق البحث نفسه على أسراب الطائرات بدون طيار العسكرية، على سبيل المثال".
في الصين، رفع الحزب الشيوعي جميع الحدود بين جوانب الحياة المدنية والعسكرية: يمكن الاستيلاء على أي شيء وأي شخص لخدمة الأغراض العسكرية، بما في ذلك العلماء.
إشكالية لوائح التصدير ذات الاستخدام المزدوج
في ألمانيا، الأمر متروك للباحثين الأفراد لتحديد ما إذا كان لأبحاثهم بالفعل تطبيق ثنائي الاستخدام. إذا كان الأمر كذلك فعليهم التقدم بطلب للحصول على ترخيص تصدير لمنشورات مشتركة مع علماء مقيمين خارج الاتحاد الأوروبي، أو محاضرات ضيف في الخارج مع المكتب الفيدرالي للشؤون الاقتصادية ومراقبة الصادرات (BAFA).
وتحتاج الجامعات إلى تقديم شهادة استخدام نهائي تشهد على استخدام مدني بحت في حال استخدامها في الخارج، ولكن من الواضح أن هذه القيود فضفاضة.
ولكن عندما يتعلق الأمر بالبحث الأساسي، لا توجد قيود على الإطلاق. قال مسؤول تصدير ألماني آخر "كل شيء مباح".
وقال متحدث باسم إحدى الجامعات الألمانية، في تعليق على بحث مشترك مع باحث منتسب للجامعة الصينية العسكرية المثيرة للجدل، إن الاتفاقات مع شركاء أجانب تم النظر فيها بعناية، لكنه أضاف أن الجامعة "لم ترَ أي سبب" للتقدم بطلب للحصول على رخصة تصدير، بالنظر إلى أن الورقة كانت نتيجة بحث أساسي.
وأكدت جامعة أخرى أن الورقة المعنية كُتبت دون "مشاركة مباشرة من قبل NUDT"، وأنها أيضاً استندت إلى بحث أساسي لم يستجِب لأي "مخاوف ذات استخدام مزدوج".
دعوات إلى معاملة الصينيين مثل الإيرانيين
المنطق هو أن وضع الكثير من القيود على البحوث الأساسية والتعاون من شأنه أن يخنق التقدم العلمي، لكن في حال رفع جميع الضوابط فهذا يعني أنك تخاطر، بإطعام "اليد التي قد تعضك"، هكذا قال ديدي كيرستن تاتلو، الصحفي والمؤلف المشارك لكتاب "البحث عن التكنولوجيا الأجنبية في الصين: ما وراء التجسس".
ويحذر تاتلو من العمل مع الصين في مجالات معينة، لكنه يعترف أيضاً بأن كل هذا التعاون العلمي لا يمكن -ولا ينبغي- أن يتم حصره. بدلاً من التعامل مع جميع الباحثين الصينيين بالريبة.
يدعو تاتلو وآخرون إلى ضوابط أكثر صرامة عندما يتعلق الأمر بالبحث في تقنيات الاستخدام المزدوج المحتملة، وفحوصات خلفية للباحثين الصينيين، على غرار تلك التي أُجريت بالفعل للمواطنين الإيرانيين.
الشركات وسيلة أخرى لاختراق الجامعات الغربية
وربما يكون الأمر الأكثر إثارة للقلق بالنسبة للغرب هو شركات رأس المال الاستثماري الصينية، التي تبحث بنشاط عن أفضل الأفكار والابتكارات، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
على سبيل المثال عملت شركة هواوي الصينية -التي فرضت واشنطن عليها عقوبات صارمة- مع TusPark UK -الفرع البريطاني لشبكة Science Park الممتدة حول العالم بجامعة Tsinghua الصينية- من أجل "تسريع الرقمنة بالتعاون مع جامعة كامبريدج البريطانية العريقة، وتمكين الشركات من استغلال القدرات الجديدة، وتعزيز الابتكار واكتساب ميزة تنافسية أثناء تحولها نحو اعتماد 5G".
في جامعتي كامبريدج وأكسفورد البريطانيتين الشهيرتين، تتم دعوة الشركات الناشئة بانتظام لعرض أفكارها على شركات رأس المال الاستثماري الصينية.
يهتم المستثمرون الصينيون بشكل خاص، بالتحدث إلى شركات التكنولوجيا الحيوية وإنترنت الأشياء والذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الزراعية، وهي المجالات التي تعد جزءاً من استراتيجية الصين (صنع في الصين 2025)، لوضع القوة الاقتصادية العظمى.
الجامعات الألمانية مازالت لا تشعر بالحاجة إلى الحذر
في العامين الماضيين فقط بدأ السياسيون الألمان على ما يبدو يستجيبون لتحذيرات وكالات الأمن الألمانية من أن استراتيجية التشابك المتبادل قد تكون معيبة بالفعل.
في عام 2020، بدأت وزارة الخارجية الألمانية في فحص طلبات التأشيرة من الباحثين الصينيين الزائرين عن كثب، حسبما نقل موقع DW عن مصادر أمنية.
ومع ذلك، يبدو أن الجامعات، التي وصفها أحد المسؤولين الأمنيين بأنها "ساذجة ومذعورة"، عندما يتعلق الأمر بالصين، لا ترى أي سبب لتغيير المسار.
يُقر عالم الكمبيوتر الألماني بسهولة أنه لم يفكر أبداً في انتماء الطالب إلى جامعة NUTD الصينية العسكرية، على الأقل حتى وقت قريب. عند الضغط عليه أقر بأن أبحاث تلميذه، النجم السابق، قد تكون لها تطبيقات دفاعية في المستقبل.
لكنه قال، حيث بدا متفاجئاً حقاً من خط التحقيق الصحفي، إنه لم يلتقِ أبداً بأي باحث أجنبي "يتصرف بغرابة".
وأضاف: "أنا لا أعتقد أنهم أناس أشرار". وقال إن العلماء الدوليين الذين التقى بهم كان دافعهم هو السعي وراء المعرفة. وشدد على أنهم في الأساس "أناس طيبون".